بدأ محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، القتال في 15 أبريل/نيسان بمطلب مرتفع جدًا وهو القبض على "المجرم"، قاصدًا قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وتسليمه للعدالة. غير أن القتال دخل أسبوعه الثالث، ويبدو أن مياهًا جديدة قد جرت فتغيرت معها الصياغات والتوقعات والطموحات.
حميدتي صرح مؤخرًا أنه على استعداد للتفاوض مع البرهان بشرط وقف إطلاق النار والغارات الجوية. البرهان نفسه بعدما أبدى مرونة للتفاوض مع حميدتي، غيَّر موقفه وأعلن يوم الجمعة الماضي أنه يرفض الجلوس مع قائد "ميليشيا" متمردة، قبل أن يعلن المبعوث الأممي للسودان، فولكر بيرتس، أن الجيش والدعم السريع وافقا على الدخول في مفاوضات رجح أن تعقد في السعودية. فما الذي تغيَّر في أسابيع القتال وهل يرسل حميدتي رسالة سلام أم أن الأرض بدأت تهتز؟
طريق الإمدادات الملغم
وفقًا لشهادة شهود وثقتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فإن قوات الدعم السريع تمارس عمليات نهب وسرقة على الطرق بالإضافة إلى سطو على منازل وطرد لبعض السكان في العاصمة الخرطوم. وأقر بعض الشهود والتقارير أن قوات الدعم السريع كانت تبحث عن طعام وماء في المنازل والأحياء السكنية، مما يعكس أزمة في السيطرة على القوات على الأرض.
تعكس عمليات النهب أيضًا مشاكل حميدتي اللوجستية في دعم قواته في الخرطوم. فرغم وجود معسكرات للدعم السريع في الخرطوم، فإن الكتلة الأكبر لتلك القوات هي كتلة قادمة من الغرب وبعيدة عن تمركزاتها الرئيسية في دارفور على بعد ما يزيد عن 800 كيلو متر.
كما أن الأمور ربما تزداد سوءًا للدعم، مع تصاعد القتال في دارفور نفسها في محاولة من الجيش السوداني لقطع خطوط إمدادات قوات الدعم السريع الرئيسية وحصار خزانها البشري، الذي يتركز في دارفور وتشاد من ورائها.
ربما تحسم المعركة في السودان الآن قدرة الأطراف على بناء التحالفات؛ خاصة الخارجية
لا يمكن إنكار أن لحميدتي حلفاء من القوى المدنية في الخرطوم، خاصة من جانب بعض الأطراف في المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، الذين حملّوا في بيان لهم قوى موالية لنظام عمر البشير داخل القوات المسلحة مسؤولية تردي الأوضاع واندلاع القتال، فيما يعد انحيازًا ضمنيًا للدعم السريع، رغم عدم إعلان ذلك مباشرة.
لكن هؤلاء الحلفاء يبدو أنهم غير كافين لتأمين موطئ قدم دائم لقوات الدعم السريع في العاصمة. فمن المرجح أن تفقد هذه القوات أي تعاطف محلي بمرور الوقت داخل العاصمة إذا استمرت في وضع قتالي لفترة طويلة، بسبب عدم انضباطها من ناحية، وانتشار عناصر أجنبية بينها من ناحية أخرى، ولجوئها للسلب لتغطية احتياجاتها اللوجستية من ناحية ثالثة.
الأرض الأجنبية في الغالب خصم للقوات الغازية. و"أجنبية" هنا بمعنى خارج قواعدها التقليدية من ناحية، أو غير سودانية من ناحية أخرى. فوفقًا لاتهامات وشهادات متواترة، فإن الدعم السريع يحشد قوات من بلدان إفريقية بين صفوفه، وهو ما يضيف عاملًا آخر لتآكل شعبيته في العاصمة، وما يفقده أي فرصة في نمو حاضنة شعبية حليفة إذا استمر القتال لفترات طويلة.
معركة التحالفات
ربما تحسم المعركة في السودان الآن قدرة الأطراف على بناء التحالفات؛ خاصة الخارجية. فمن يستطيع تأمين تحالفات خارجية لصالحه ترجح قدراته في المعركة هو من سيحسمها. وإلى وقتنا هذا فإن الطرفين غير قادرين على تأمين هذه التحالفات بشكل قاطع. ربما يوجد ميل في المواقف ناحية طرف هنا أو هناك، ومساعدات غير معلنة تصل لهذا الطرف أو ذاك، لكن التحالفات التي يمكن أن تترجم كدعم تسليحي سخي أو إسناد نيراني كبير لم تظهر بعد بشكل واضح، رغم تشابك الأطراف وتعدد القوى الأجنبية التي لها مصالح في السودان.
ورغم تعدد الحوادث التي ربما تعد مؤشر لمحاولة استدراج قوى خارجية للصراع مثل مقتل مساعد الملحق الإداري للسفارة المصرية، أو إطلاق النار على طائرة إجلاء تركية، فإن الأطراف لا تزال متحفظة على دعم أي طرف.
مصر مواقفها مثل تصريحات مسؤوليها، تبدو غامضة. فبعد ساعات من تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن الحرب الأهلية المشتعلة على حدوده الجنوبية "شأن [سوداني] داخلي لا ينبغي أبدًا أن يتم التدخل فيه"، انتقلت آثار هذا "الشأن الداخلي" لمصر بعد تدفق النازحين الفارين من القتال على المعابر الحدودية الجنوبية.
كما تلقت مصر ضربة جديدة بعد أسر عسكرييها وتوارد أنباء الاستيلاء على طائرات مقاتلة بقاعدة مروي، وذلك باستهداف مساعد الملحق الإداري المصري في الخرطوم في حادث لم يتم التحقق إلى الآن من فاعله.
مصر التي لها مصالح كبيرة في استقرار السودان يبدو أنها تفضل عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع قوى سودانية. كما أنها ورغم بناء تحالفاتها القوية مع القادة العسكريين في الجيش السوداني، فإنها لا تبدو في وضع اقتصادي قوي يمكّنها من تمويل دعم سخي لمعركة عابرة للحدود، خاصة إذا كان هذا الدعم يضعها في مواجهة مع بعض حلفائها من دول الخليج التي تحتاج لدعمهم للخروج من أزمتها الاقتصادية.
يبدو للأطراف الدولية أن الاندفاع لدعم أحد الطرفين ربما يكون له عواقب غير مرغوبة.
على الجانب الخليجي، يبدو حميدتي معولًا بشكل كبير على الإمارات، فتظهر خطاباته متأثرة بالصياغات الإماراتية لتصنيف خصومه إلى إسلاميين راديكاليين ومتطرفين يدخل معهم في مواجهة دموية مفتوحة. لكن، ورغم تبني الإمارات لخطاب حميدتي، فإنها لم تندفع لدعمه عسكريًا كما فعلت في حالات سابقة. يبدو أن السياسة الخارجية الإماراتية تعلمت شيئًا من الدرس الليبي. كذلك تبدو الأمور غامضة فيما يتعلق بموقف فاجنر الروسية من المشاركة في العمليات القتالية خاصة في معركة الخرطوم رغم شراكاتها في إدارة مناجم الذهب مع حميدتي.
فاجنر ومن ورائها روسيا تبدو أنها لا تريد لمصالحها أن تتأثر بالتورط في قتال مع أطراف سودانية ربما تصير لها الغلبة، خاصة بمقارنة فوارق التسليح والقدرات النيرانية بين الدعم السريع والجيش. تقوم الولايات المتحدة بدور وساطة بين الطرفين أسفر عن تخفيف حدة القتال، لكنها تتجنب أيضًا دعم طرف بشكل واضح على حساب الآخر. تعول الولايات المتحدة على إبقاء توازن للقوى بين الطرفين ليُظهر الخيار الأفضل للسياسات الأمريكية في السودان في الوقت الحالي.
تبدو المواقف الدولية أنها في حالة انتظار لإنهاك الأطراف، أو ظهور بوادر انتصار حاسم لأحد الطرفين دون الرغبة في التورط في دعم طرف على حساب آخر. ويبدو للأطراف الدولية أن الاندفاع لدعم أحد الطرفين ربما تكون له عواقب غير مرغوبة. فعلى جانب الجيش، موقف الإسلاميين يعد أحد عوامل التردد الأساسية التي تعوق إقامة تحالفات مع البرهان وقادة الجيش، وذلك نظرًا لوجود شواهد بأن الإسلاميين من خلال قيادات في القوات المسلحة يسعون للعودة للسيطرة على المشهد السياسي من خلال دعم مواجهة مع الدعم السريع تمهد عودة الإسلاميين. لذا فإن دعم الجيش بشكل كامل ربما يحمل مخاطر عودة الإسلاميين للمشهد مما ترفضه قوى دولية.
وعلى جانب الدعم السريع، فإن الطابع غير القومي لهذه القوات والانتماء الإثني وغلبة الطابع العائلي القبلي عليها، أحد أهم عوامل الضعف التي تمنع الأطراف الدولية من دعم حميدتي. فحكم حميدتي للخرطوم معناه انتصار منطق العائلة والقبيلة بما يؤشر إلى انفجار التركيبة الاجتماعية في السودان بما ينسف أي احتمال لسلام طويل في بلد أنهكته حروبه الداخلية منذ نشأته.
بدخول القتال أسبوعه الثالث، تغيرت لهجة الخطاب لدى الأطراف بما يعكس أزمات على أرض المعركة لقوات الدعم السريع، لكنها لا تزال متماسكة بشكل كبير وقادرة على توجيه ضربات مؤثرة تقول إن المعركة لم تنته بعد، خاصة وأن الأطراف الدولية المؤثرة لا تريد المغامرة بدعم أي طرف.