لم يهتم إعلام مصر الرسمي ولم تحتفل الدولة الأسبوع الماضي، بيوم كانت مناسبته عطلة رسمية وهو يوم التاسع عشر من أبريل/نيسان، الذي وافق هذا العام الذكرى المئوية لإصدار أول دستور لمصر بعد استقلالها عام 1923.
طبيعي أن يثير الحديث عن أي دستور أو حقوق دستورية تضع قيودًا على الحاكم، ولو كان ملكًا مطلقًا يورّث الحكم والعرش لأولاده، حفيظة من لا يعترفون بتلك الحقوق للمواطنين أو القيود على صاحب السلطة.
فرغم أن دستور 1923 أعطى صلاحيات للملك في اعتباره السلطة التنفيذية، خلافًا للملكيات الدستورية الحديثة التي لا يحكم فيها الملك ولا يمكنه حل البرلمان، لكنه قيّد بعض صلاحيات الملك الأخرى مثل إعلان الحرب التي تشترط موافقة البرلمان بمجلسيه، أو تمرير تشريعات أو رفض مراسم لو أصر البرلمان على التصويت عليها مرتين بعدها بما يخالف القرار الملكي. هذا بجانب المواد التي تؤكد الحريات الأساسية للمواطن بما فيها حرية الرأي والمعتقد.
ولكن خلافًا لإعلام الحكومة غير المهتم بمئوية الدستور، اهتمت بعض قنوات المعارضة في الخارج، مثل قناة الشرق في تركيا، بالمناسبة ولو بشكل عابر يومها.
ولعل الاختلاف في نقاط اهتمام المعلقين من المعارضين المصريين بشأن دستور 1923، يُظهر الفجوة التي تحول دون إمكانية اتفاق المعارضة في الخارج أو الداخل على وثيقة وطنية أو عقد اجتماعي مشترك لمستقبل مصر، أو كيف يجب أن تُحكم مستقبلًا. إنه الخلاف المتعلق بعلاقة الدين بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي يتفق على شعاراتها الجميع، لكنهم يختلفون على مضمون "مدنية".
فالمعارضون الإسلاميون يقصدون بالمدنية رفض العسكرية، بينما يقصد الموالون للعسكريين بدولة "مدنية" رفضهم الدولة الدينية. أما المعارضون المدنيون من غير الإسلاميين أي العلمانيون، فهم يريدون دولة مدنية لا دينية ولا عسكرية. وهذا مربط الفرس في معضلة اتفاق المعارضة على وثيقة مفصلة بعيدًا عن عبارات المدنية المبهمة.
المادة 149 من دستور 1923
سبق إعلان استقلال مصر في فبراير/شباط 1922 صدور وثيقتين لدستور مصر: الأولى كانت عام 1879 مع تأسيس مجلس النواب، والثانية وثيقة دستور 1882، وكلاهما نصت إحدى موادها على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لمصر، دون ذكر أي شيء يتعلق بالدين.
انتقد طه حسين تلك المادة بعد أربع سنوات من صدور دستور 1923
جاء دستور 1923 ثمرة لمطالب ثورة 1919 بالاستقلال والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، ورفعت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وطالب الوفد المصري في مؤتمر فرساي المنتصرين في الحرب العالمية الأولى بالاستقلال وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لكن حزب الوفد عارض طريقة تعيين لجنة الثلاثين المكلفة بوضع دستور البلاد. ووصف زعيم الوفد والثورة سعد زغلول أعضاء اللجنة بالأشقياء. ورغم ذلك، تم انتخابه نائبًا ورئيسًا لأول حكومة بناءً على دستور 1923، وحين أراد الملك الإطاحة بحزب الأغلبية الوفد، أوقف ذلك الدستور ووضع بعد سبع سنوات دستورًا آخر عام 1930.
ضمت لجنة الثلاثين الذين وضعوا دستور 1923، ستة مسيحيين ويهودي واحد هو يوسف أصلان قطاوي. كما ضمت مفتي مصر السابق، الشيخ محمد بخيت المطيعي، الذي يُنسب إليه الإصرار على المادة 149 من المواد المائة والسبعين في ذلك الدستور، وهي تنص بجانب اللغة العربية على الدين؛ "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".
ووافقت اللجنة بالإجماع على تلك المادة التي لم تُشِر إلى الشريعة أو التشريع بل اعتبرها غير المسلمين مرتبطة بثقافة وهوية وتقاليد بلدهم، خاصة وأن ترتيبها جاء متأخرًا من بين 170 مادة، وبعدما أكدت المادة 12 أن "حرية الاعتقاد مطلقة".
لكن بعض الكتاب والصحفيين الذين ارتبط اسمهم بحرية الصحافة مثل محمود عزمي، الذي أصبح سفيرًا لمصر في الأمم المتحدة في الخمسينيات، كتب وقت صياغة هذه المادة بصحيفة الاستقلال في سبتمبر/أيلول 1922 ينتقد صياغات مواد الدستور وتناقضها وتعارض بعضها مع بعض، سواء في صلاحيات الملك وسلطاته أو في حرية العقيدة، قائلًا عن المادة 149 إنها ستجر على البلاد "ارتباكًا قد ينقلب إلى شر مستطير. وقد يأتي على سكان مصر وقت فتقطع الأيدي والأرجل من خلاف..".
كما انتقد طه حسين تلك المادة بعد أربع سنوات من صدور دستور 1923 في مقال بمجلة الحدث في فبراير/شباط 1927، باعتبار أن المادة الثالثة التي تنص على المساواة بين المصريين في الحقوق تتناقض معها المادة 149 التي تنص على أن الإسلام دين الدولة. ووجد طه حسين في ذلك النص "مصدر فرقة، لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين فقط، وإنما نقول إنه مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموا الإسلام على وجه واحد..".
الدين في باقي الدساتير المصرية
لم يخلُ إلا دستورين فقط من هذه المادة التي وضعها دستور 1923 ولكن لبضع سنوات محدودة، أما باقي الدساتير منذ 1971 فزادت وربطتها بالتشريع والشريعة.
فالمفارقة أن الدستور الذي وضع في عهد إسماعيل صدقي عام 1930 بعد إطاحة الملك بحكم الأغلبية الشعبية للوفد وبدستور 1923، خلا من النص على الدين الرسمي للدولة. لكنه دستور لم يبق سوى خمس سنوات. ثم عاد العمل بدستور 1923.
منذ وضعت تركيا دستورها لعام 1924 وهو لا ينص على دين رسمي للدولة.
وحين أطاح الضباط الأحرار بالملك في يوليو/تموز 1952 ثم بالدستور بعد ستة أشهر، حرصوا في أول دساتيرهم عام 1954 على وجود نفس المادة المتعلقة بالدين الرسمي "للجمهورية".
لكن حين دخل الرئيس عبد الناصر في وحدة مع سوريا، لم يضع هذه المادة في دستور 1958 الذي لم يستمر سوى ثلاث سنوات، كانت عمر الوحدة، وسرعان ما عادت مادة الدين الرسمي للدولة مع الانفصال عام 1961. رغم أن الدستور السوري الذي كان معمولًا به قبل الوحدة، لم ينص فقط على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع، بل أوجب أيضًا أن يكون الرئيس مسلمًا.
بعد عشر سنوات فقط، اتخذ الرئيس السادات خطوة أبعد بعدم الاكتفاء في دستور 1971 بما ورد في دستور 1923 ومتأخرًا، بل نص في المادة الثانية على أن:
"الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع..".
ثم جاءت التعديلات الدستورية عام 1980 التي أصبحت فيها "مدتا" الرئاسة "مددًا" مفتوحة، وتحولت مبادئ الشريعة الإسلامية من "مصدر رئيسي للتشريع" إلى "المصدر الرئيسي".
هكذا لم يحتج الرئيس مبارك إلى تعديل مدة الرئاسة في الدستور على مدى ثلاثين عامًا.
وبعد ثورة يناير، تم صياغة دستور 2012 بلجنة أغلبيتها من الإسلاميين فزادوا على المادة الثانية مواد عدة تتعلق بدور الدين في الأسرة وفي التعليم وشرائع غير المسلمين، وأضافوا دورًا مؤسسيًا للأزهر في المادة الرابعة، ومنها:
"يؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية".
حذف دستور 2014 بعض هذه المواد، لكنه أبقى على المادة الثانية المتعلقة بالدين الرسمي للدولة والتي بدأها دستور 1923.
الدستور التركي 1924
منذ وضعت تركيا دستورها لعام 1924 وهو لا ينص على دين رسمي للدولة. لم يغير هذا الفصل بين الدين والدولة من ثقافة وهوية غالبية الشعب التركي الذي يعتنق اكثر من 97% من مواطنيه الإسلام، ولم يمنع الدستور من وصول حزب العدالة والتنمية بتوجهاته الإسلامية الى الحكم منذ عشرين عامًا وحتى الآن.
ورغم حدوث تشدد لفترات سابقة في النموذج العلماني الأتاتوركي فقد حصلت المرأة التركية المحجبة على حقوقها في حرية الملبس أسوة بغير المحجبات. وشأن أي مجتمع فإن حكم القانون وتداول السلطة في انتخابات نزيهة كفيل بضمان الحقوق والحريات المتساوية لكل مواطنيه.
أما مسألة المكتسبات التاريخية أو التحالفات المدنية-العسكرية لنصوص لا يوجد ضمان لتنفيذها واحترامها، فلن تفيد أحدًا، مثلما لا يفيد تأجيل كل طرف معركته على النص الدستوري حتى يصل للسلطة بدلًا من الاتفاق على وثيقة وطنية وهو في المعارضة، مكتفيًا باستخدام كل فصيل لتعبير مبهم مثل "الدولة المدنية" دون تحديد ما إذا كان المقصود: دولة يحكمها ويشرّع قوانينها: ضباط أم رجال دين أم مدنيون بحق؟