بينما أتمُّ الآن أكثر من أربع سنوات خارج مصر دون زيارة واحدة، يتجسد الفقد عندي في شم النسيم. فهو أحب الأعياد إلى قلبي، ليس لأنه الأقدم، بل لأنه الأكثر صمودًا وعنادًا أمام الزمن بشكل يدعو إلى التأمل. أصر المصريون على التمسك بالعادات والممارسات الجماعية التي توارثوها، مهما انتفت الشروط المادية والأسباب المعاصرة للحفاظ عليها، ومهما حاولت خطابات الحط من قدرها بدوافع طبقية أو عقائدية أو طائفية.
شم النسيم هو النسخة المصرية لأعياد الربيع في الحضارات القديمة، كعيد النوروز في إيران وخاب نيسان لدى السريان، وهولي عند الهنود، وربما يكون هو الأقدم زمنيًا بينهم. اسمه العربي المعاصر تم اشتقاقه من اسمه القديم "شمو" المرتبط ببدء موسم الحصاد وانخفاض مستوى النهر.
وهو على الأغلب أقدم احتفال شعبي منذ زمن المصريين القدماء وحتى حضارتنا المعاصرة. استمر كتقليد وعادة، حتى مع اختفاء السياق الحضاري الذى أنتجه، ومع غياب المنطق من وراء الاحتفال والوعي بأسبابه ودوافعه، وهذا الأمر بالذات هو الجدير بالتأمل.
الأصل في الأعياد القديمة الراسخة عند المصريين ارتباطها بالنشاط الزراعي ومواسم الربيع وفيضان النيل. كان عيد وفاء النيل في 15 أغسطس/آب من كل سنة، عيدًا عامًا وعطلة رسمية، ولكن تغير الأمر مع تغير معنى الفيضان ودلالته عقب تشييد السد العالي وخلق بحيرة ناصر. لم نعد نرى الفيضان بعد أن اختفى هو وطمي النيل خلف السد العظيم، ومع الوقت أصبح وفاء النيل عيدًا رمزيًا، تضاءل الاهتمام به، وتغيرت مركزيته في الوجدان العام.
لقد تم "تنصير" شم النسيم منذ زمن بعيد فأصبح يوافق يوم الاثنين التالي لأحد القيامة
يرى البعض أن الأعياد المصرية تحتفظ ببقائها طالما اعترفت بها الدولة الحديثة وأعلنت أيامها عطلات رسمية وإجازات مدفوعة الأجر وألزمت القطاع الخاص أيضًا بذلك. يوم رأس السنة الهجرية مثلًا هو عطلة رسمية على الرغم من عدم وجود أية ممارسات احتفالية شعبية مصاحبة له كتلك التي تصاحب المولد النبوي.
لكن لشم النسيم أكثر من سبب دعّم صموده. ففضلًا عن طبيعته الزراعية التاريخية وعن تمسك الدولة به كإجازة رسمية؛ لا يمكن إغفال محورية ارتباطه بمواسم الاحتفالات الدينية المسيحية كل عام.
لقد تم "تنصير" شم النسيم منذ زمن بعيد فأصبح يوافق يوم الاثنين التالي لأحد القيامة كل عام. وهذه المسألة بالذات جعلت شم النسيم اختبارًا حقيقيًا وعميقًا لغلبة ومكابدة الرابطة الوطنية الزراعية التاريخية للمشاعر الطائفية المتأصلة.
يحتفل المصريون، وأغلبهم من المسلمين، بشم النسيم في حماس وفرحة. يغزو عامتهم وبسطاؤهم ما تبقى من مساحات خضراء، ويمتلئ معهم الكون برائحة الفسيخ والبصل الأخضر، يمارسون طقسهم السنوي القديم بينما يتناسى أغلبهم ارتباطه الزمني بعيد قيامة المسيح التي لا يعترفون بها.
الادعاء بتسامح المصريين من المسلمين أو المسيحيين إلى حدود تخالف معتقداتهم الدينية أمر يحمل قدرًا كبيرًا من المبالغة والتفكير بالتمني. بل سأغامر بالقول إن الحس الطائفي في مصر متأصل ربما لدرجة تتجاوز درجة تدين الفرد نفسها. ولطالما اعتقدت أن علينا البدء من تلك المكاشفة الصريحة كي يتسم أي حوار بالشجاعة والصدق. وعليه؛ فشم النسيم في هذا الصدد عيد استثنائي، عنيد ووطني بحق ويستحق الاحتفاء والفخر .
شفرات تحقير شم النسيم
ليس لدى المسيحيين المصريين ارتباكات ناحية عيد الشم النسيم، ربما لدى البرجوازيين منهم، بالكيفية نفسها التي يشاركون فيها بعض البرجوازيين المصريين الامتعاض من المواسم التي يغمر فيها العامة الشوارع والمتنزهات ويعلنون حضورهم ويمارسون والعياذ بالله جريمة الابتهاج. وهي حالة تصاحب البرجوازيين المصريين عمومًا ناحية الأعياد التي يضطرون فيها إلى رؤية عوام الناس في صدارة المشهد العام، فيتحدثون بحسرة عن اتساخ الحدائق وانبعاث الروائح.
انتهى السياق الزراعي الذي يبرر الابتهاج بشم النسيم، لم يعد أغلبنا من الفلاحين وتغيرت طرق الري ومواسمه
بالطبع جاء الخطاب الأشد عداءً لشم النسيم من تيارات الصحوة الإسلامية منذ منتصف السبعينيات، فقد رأت فيه عيدًا وثنيًا ومسيحيًا في الوقت ذاته. وعلى الرغم من اشتداد نفوذ تيارات الصحوة لعقود طويلة، وبشكل أثر على اللغة والمزاج العام في مصر ، فإن هذا التأثير لم ينعكس على الممارسات الاحتفالية ذات الطابع الديني أو الريفي في مصر ـ
لا يزال الشيخ ياسر البرهامي ومشايخ الدعوة السلفية ينددون كل عام بـ"بدعة" احتفال الناس بالمولد النبوي، ولا يأبه أغلب الناس بما يقولون حتى ولو أنصت بعضهم لبقية كلامهم في مواضيع أخرى.
التقيت شخصيًا بعض المصريين الذين أعلنوا، في فخر، احتقارهم الشديد لشم النسيم. كانوا يعبرون عن ذلك بشكل يمتزج فيه التعالي الطبقي بالروح الطائفية، حيث الإشارة إلى الجوهر "الفلاحي" لليوم فضلًا عن سماته القبطية، لتخترق أذناي كلمات من نوع شم النسيم حرام، ونحن لا نأكل الفسيخ والملوحة ذوي الرائحة القذرة ولا ندخل هذه الأطعمة إلى منازلنا من الأساس.
صمود وعناد المصريين
صمد عامة المصريين بصلابة وعناد أمام خطابات تحقير شم النسيم التي حاصرتهم على مر العقود الماضية رغم أن أصحابها هم في الأغلب من أبناء الفئات الاجتماعية المهيمنة ثقافيًا، ومن أصحاب الكلمة المسموعة.
لا يزال المصريون يتمسكون بالمخاطرة السنوية المصاحبة للعيد. لا يمكننا إنكار الطبيعة المثيرة لحضور الفسيخ كمخاطرة غير محسوبة طوال الوقت، حيث لا ضمانة على الإطلاق لعدم تسممه.
قد تكون أخطار التسمم من الفسيخ واحتمالية الوفاة من جرائه معروفةً لدى الكثيرين، لكن غير المعروف هو الاستعداد السنوي اليقظ من وزارة الصحة ومعهد السموم لاستقبال حالات التسمم الناتجة عن وجبات الفسيخ الفاسد، التي تتوافد بالعشرات والمئات، وتصل تكاليف الاستعداد لها إلى ملايين الجنيهات التي تنفق على شراء وتحضير مضادات سموم المخصصة للفسيخ والملوحة بالذات. ولكن الإيمان الشعبي بضرورة مداومة الطقس القديم الممتد لآلاف السنين يهزم كل المخاوف والمخاطر ولا يعبأ بأي تحذيرات.
انتهى السياق الريفي الزراعي الذي يبرر الابتهاج بشم النسيم، لم يعد أغلبنا من الفلاحين وتغيرت طرق الري ومواسمه، ربما أكثر المشاهد الشعبية "عنادًا" التي ترتبط عندي بذكريات شم النسيم، كانت فى تلك السنة من طفولتي التي تزامن فيها نهار رمضان مع شم النسيم مع موجة شديد الحرارة، ولم يمنع هذا عشرات النساء اللاتي يرتدين الخمار من الجلوس في الحدائق ومعهن أطفالهن، يتحدون الشمس الحارقة والعطش والصيام والمنطق وخطابات النهي عن الاحتفال. يا له من عناد يستحق التأمل!!
أكثر أشكال العناد إثارة تلك التى تجدها فى الممارسات التي يصر عليها البعض من دون وجود مغزى أو أساس عندهم للتمسك بها. لا تزال كثير من الأمهات المصريات يحاولن تحفيظ أبنائهن الرضع كلمات من اللغة القديمة المندثرة، بمرور الزمن، فقدن تفسير الدافع من وراء هذه العادة. لم يعدن يعرفن لماذا يقُلن للطفل "أمبو" بدلًا من "مَيَّه"، ولكنهن يفعلن ذلك على أي حال. لا يزال شم النسيم يحمل نفس العناد.