Pixapay- برخصة المشاع الإبداعي
صور قديمة

ذاكرة أخرى في مدينة منسية

منشور الخميس 11 مايو 2023 - آخر تحديث الأحد 14 مايو 2023

هل ينبغي أن نثق في ذاكرتنا؟

في كتابها The Memory Illusion تتحدث الطبيبة النفسية جوليا شو عن عدم موثوقية الذاكرة، مستعينة ببحث أجرته يكشف السبل العديدة التي يمكن أن تستخدمها ذاكرتنا في التلاعب بنا، بدءًا من التجربة المزعجة لكن غير المؤذية للسير داخل غرفة ونسيان السبب في ذلك، إلى المواقف المحرجة لنسيان اسم شخص التقينا به، وصولًا لأخطاء أكثر خطورة تسببها ذاكرة معطوبة.

تستعرض الطبيبة النفسية كيفية قيام الإنسان بانتحال ذكريات غيره وإقناع نفسه بأنها تخصه عن طريق الخطأ، أو كيف يمكن غرس ذكريات كاذبة في أذهاننا عن عمد. يتعمق بحث شو أيضًا في التداعيات القانونية للذكريات الكاذبة استنادًا إلى أبحاث أخرى بارزة مثل تلك التي أجرتها عالمة النفس الأمريكية إليزابيث لوفتس، والأكثر أهمية من ذلك، أنه يضفي الحكمة على كيفية تحسيننا لذاكرتنا عبر الانتباه إلى إمكانية أن تخطئ، يدين ذلك الكتاب المهم الذاكرة في مقابل نظريات لا تحصى تعتمد عليها في إنتاج فهم أوسع للماضي والمكان، ويطرح ذلك سؤالين؛ هل تنطبق نظرية الذاكرة عمومًا على الذات والمجتمع أيضًا ما يجعلها تنتج تفسيرًا سياسيًا وفلسفيًا؟ والثاني يتراجع بعيدًا عن الكتاب لمحاولة فهم ما الذي يخصنا من كل ذلك أثناء الحديث عن مهرجان سينمائي؟

الذاكرة والمكان

بعيدًا عن القاهرة وزحامها المستمر، أُقيم مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، في مارس/آذار الماضي، وإن تبدأ مفارقته من لحظة النظر إلى مكان إقامته والإنتاج البصري المعروض من خلاله، فهو مهرجان للأفلام التسجيلية التي توثق ما حاول الزحام العام أن يتناساه أو يطرحه سريعًا دون سياق أو بعيدًا عن الحقيقة، يعرض تلك الأفلام التي تتساءل عن الذاكرة في مدينة منسية نوعًا ما، هادئة أكثر مما يبدو، تبدو خارج الزمن لو حاولت مقارنتها بمصر، وربما في ذلك ما ينتج تساؤلًا حول الذاكرة والمكان.

وربما انطلاقًا من فكرة الذاكرة والماضي يمكن الحديث عن بعض أفلام تلك الدورة التي تتعمق في تناول الفكرة وتعبر عن السينما التسجيلية في العموم لتبدو شاهدة على المدينة التي لا تظهر في الخطاب العام سوى في الأحاديث عن قناة السويس وتفرعاتها، على الرغم من كونها تمتلك طابعًا استثنائيًا يتواصل مع ماضٍ بدأ منذ تواجد محمد علي وأسرته وبناء مجتمعات كوّنت فكرتنا الذاتية عن المدينة وشاهدة على نموذج فيلمي جسّد الماضي في تنويعات: مدحته وقبّحته، عاملته باستهتار أو حمّلته فوق طاقته.

دورة عامرة بالذاكرة

يشرف على تنظيم المهرجان، الذي يرأسه الناقد عصام زكريا، المركز القومي للسينما، وربما يعتبره السينمائيون من أهم المهرجانات المعنية بذلك النوع من الأفلام وأحد أعرق المهرجانات في العالم العربي الذي بدأت أولى دوراته عام 1991.

هذا العام، شارك في المهرجان نحو 123 فيلمًا من 50 دولة تتوزع بين: 16 فيلمًا تسجيليًا طويلًا، 14 فيلمًا تسجيليًا قصيرًا، 20 فيلمًا روائيًا قصيرًا، 18 فيلم تحريك، 17 فيلمًا من أفلام الطلبة، 4 أفلام للمكرمين و5 ضمن برنامج الأفلام العابرة للنوع، بالإضافة إلى 17 فيلمًا في برنامج الأفلام القصيرة جدًا، و4 في برنامج أفلام البورتريه، وكذلك فيلمين خارج المسابقة، فيما يحتفي المهرجان بالسينما الألمانية ضيفة شرف هذه الدورة من خلال عرض ستة أفلام.

ومن خلال هذه الباقة المختلفة يبرز عدد من الأفلام التي تندرج تحت ثيمة التساؤل الفلسفي "الهروب من الماضي أو إليه"، وكيف يمكن أن يقدم ذلك التساؤل أو الفكرة في إطارات مختلفة من الحبكات التي تبدو عاطفية واجتماعية.

"أُم" في "حياة مثل غيرها"

الفيلم التسجيلي الطويل "أم"، القادم من فرنسا، وتدور أحداثه من خلال تسجيلات ومحادثات أرشيفية بين اثنين من الأمهات، يبحث من خلاله المخرج ميشيل بانديلا، الذي نشأ في دار رعاية لمدة تقترب من 17 عامًا، عن إجابة لتساؤلاته عن طفولته حتى يحصل على غد أفضل، يقول بوضوح "أحتاج أن أفهم وأحاول أن أضع القطع بجوار بعضها البعض، ربما أحصل على صورة للعائلة؟" وهكذا انطلق من ماضيه لصناعة سينما تبدو ذاتية، لكنها تشتبك مع تصورات أخرى تخص المشاهد الذي يملك السؤال نفسه.

في حواره مع المنصة يقول المخرج الفرنسي إن فكرة الفيلم جاءته من خلال محاولته لاكتشاف الأسباب التي دفعت والدته لتتركه ينشأ وسط أسره حاضنة، دون رغبته في محاسبتها، وإنه منذ كان يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا كان يقوم بالتصوير بشكل شخصي إلى جانب الصور التي كانت يقوم بتجميعها من العائلة وكل تلك المادة المصوره قام بتجميعها في الفيلم، والمشاهد التي اعتمد عليها أيضًا كان أغلبها مع والدته.

بين أمه التي ولدته والأخرى التي قامت بتربيته يطرح المخرج فيلمه كمحاكمة طويلة لطفولته التي لم يكن يملك التحكم فيها، يقول بشغف كبير ولغة إنجليزية واثقة "حاولت أن أُخرج مشاعري في الفيلم من داخل بطني وأحشائي كي يشعر بها المشاهد كما شعرت"، ويضيف أن العلاقة الأسرية تختلف بشكل كبير ما بين النظرة الأفريقية والغربية حيث إن النظرة الأفريقية تقدس مسألة العائلة عكس النظرة الغربية التي تنظر إلى ذلك بشكل أكثر تحررًا، وهو ما وضعه في حيرة شديدة.

استولت الموسيقى المصاحبة للفيلم على قدر أكبر من الاهتمام بالنسبة للمخرج وربما شغلته نسبيًا عن ضبط إيقاع القصة ذاتها بشكل أكثر تمكنًا، باتت قصة مذهلة لكن مترهلة نوعًا ما، تطرح تساؤلاتها عن الذاكرة والماضي وكيف يمكنه أن يشكل مستقبلنا مهما حاولنا الفكاك من أسره عقليًا ومجتمعيًا بالذهاب إلى آخر العالم. تتحكم الذاكرة في كل تفصيلة فيه.

إلى جانب ذلك الفيلم جاء فيلم "حياة مثل غيرها" ليوثّق حياة أب يخلّد أيامه مع أسرته من خلال تسجيل كافة اللحظات المرحة، مهما بدت روتينية أو تافهة أحيانًا، لوهلة تبدو حياته برّاقة وحميمية سعيدة، لكن تنقلب الأمور عندما تعود الابنة في يوم لتشاهد تلك التسجيلات بعين مختلفة، حيث ترى وجهًا جديدًا لأم عانت.


على مسافة تبدو ساذجة يعيد الفيلم النظر للمشهد العائلي بعيون مختلفة، وربما بحميمية زائدة أو تحامل نسبي يتحول الأب في نظر العالم الفيلمي الصغير إلى مسيطر كانت نظرته خادعة سواء بإرادته أو دونها.

في مشاهدتها الثانية كانت الفتاة ترى أمًا تفقد حريتها وسعادتها في كل مشهد، ما يثير سؤالًا هامًا؛ هل تبدو فعلًا حياة الأم وماضيها وذكرياتها هكذا أم أنه تأويل الابنة لعالمها الصغير لأسباب تخص حياتها لا تخص ماضي أمها؟ هل يبدو الماضي هنا كيان يحتمل كل ما يُترك فوقه؟

إنتاج الخطابات التأويلية التي تعتمد على نظرتنا إلى ماضي أشخاص آخرين مهما كانت درجة قربنا أو فهمنا لهم، تبدو أحيانًا مستهلكة ومنتجة لغضب المشاهد وأخرى محفّزة للحيرة حول الثقة في شعورنا نحو هؤلاء القريبين وفي مشاعر وأشياء تجاوز الزمن حكيها وأصبحت غير واضحة حتى لو قرر أصحابها ذاتهم سردها، بين متاهة تلك المشاعر يعيش المشاهد في "حياة مثل غيرها" حياته الخاصة، ربما ليقتل الاستثناء بين كل الحَيَوات ويخرج بالتساؤل الأصيل حول جدوى الماضي والذاكرة حتى لو لم يستطع الإجابة عليه.

ذاكرة أخرى

إلى جانب هذين كأكثر الأفلام تميّزًا لتقديم ثيمة الذاكرة في المهرجان الهادئ مثل المدينة المنسية التي أقيم فيها، جاء فيلم "طحطوح" الذي يحكي قصة تحدث قبل نحو ثلاثة عقود، حين قرر سكان قرية بأعالي الجبال الجزائرية هجر ذكرياتهم وترك منازلهم بعد تذبذب الأمن فيها بسبب الإرهاب.

كانت العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي محطة فاصلة في حياة أبي عمي حسان المدعو طحطوح للتخلي عن ذكرياته أو ربما للبناء عليها.

أيضًا كان هناك فيلم "الأشياء التي لا تعرفينها عني يا أمي" الذي يحكي قصة مجموعة من المتناقضات التي يضعها النص أمام المشاهد من خلال علاقة أم وابنة، تكشفان عن حجم التضاد بين الديكتاتورية والحرية، الابنة ليز مؤمنة بالحرية والديمقراطية في مقابل والدتها الكاثوليكية التي تدعم حكم بيونشيه الديكتاتوري في تشيلي. بعد 40 سنة تعود ليز لتسرد أسرار في صورة مونولوجات ظلت حبيسة صدرها لسنوات.

هل تبدو تلك الأفكار محمّلة بحنين أو استنكار لا يجد مكانه الحقيقي، يذهب دون إرادة إلى غموض الماضي والذاكرة ليحمّلها الأخطاء والمستقبل الغامض؟ ربما، وربما في أحيان أخرى تبدو محورية الذاكرة التي لا نملك على الرغم من كل شيء الوثوق فيها كما أخبرتنا الطبيبة النفسية بغضب في كتابها أو تركها تمامًا مثلما وثّق بعض الفنانية حياتهم، لكنها تبدو على كل حال تساؤلات فلسفية محفّزة لفتح الجراح والشجاعة لتترك كل مشاهد أو قارئ يسرق من ماضيه ما يمنحه تساؤل وإجابة، واعية أو غير واعية، تبدو مراهنة تستحق.