في مصر اليوم لم يعد هناك إلا طريقان عليك انتهاج أحدهما إن أردت أن تكون كاتبا صحفيا متخصصا في كرة القدم، أو وجهًا إعلاميًا مألوفًا من خلال يوتيوب أو تغريدات تويتر أو أي شيء مشابه.
الطريق الأول هو أن تكون ماكينة إحصائيات مملة، تتبع كل مباراة بسلسلة من الأرقام حول نسبة التمريرات الناجحة للاعب الوسط فلان، أو ربما لا تنتظر، فبمجرد تسجيل أحد المهاجمين هدفا بالرأس عليك أن تبادر إلى ذكر نسبة نجاحه في ألعاب الهواء، ودقة ضرباته الرأسية، إلى آخره.
أما الطريق الآخر فهو الإغراق في الجوانب الخططية، وهي السبيل الرائجة حاليًا للتحول إلى محلل فني، فهي تعفيك بنسبة كبيرة من إنهاك حسابات الإحصاءات –أو بالأحرى ترجمتها- كما أنها تلقى قبولا أوسع لأن الأرقام والنسب لا تعلق كثيرا في ذاكرة جمهور المتابعين.
كلا الطريقين -حتى وإن ذاع صيتهما في أوروبا حاليا- يقتلان كرة القدم فعليًا، يحولان هذه اللعبة الجميلة التي تترك مساحة غير مألوفة للارتجال والإبداع إلى مجرد معادلات رياضية تغفل الجانب الإنساني تماما.
الأرقام تحكم
صحيح أن الإحصاءات مهمة لتسويق اللاعبين، وعليها تقوم شركات كاملة، ولكن كمشاهد لكرة القدم لا يعنيني كثيرا أن أحصل على نسبة نجاح مراوغات ميسي أو أهداف رونالدو بقدر ما يعنيني أن أستمتع بمشاهدتهما، وهذا على العكس من كرة السلة مثلا التي تقوم بشكل فعلي على الإحصاءات، فربما سأكون مهتما حقا بمعرفة نسبة إصابة ستيفان كيري للرميات الثلاثية على مدار موسم، فتلك طبيعة اللعبة.
قليلون يذكرون كيف كانت كرة القدم أجمل قبل عصر الإحصاءات هذا، لم يكن المصريون بحاجة إلى معرفة كم هدفا سجل جمال عبد الحميد برأسه أو نسبة نجاحه في الكرات العالية قبل أن يصرخ معلقهم "وفين جمال" بمجرد رفع كرة عرضية في منطقة جزاء هولندا في مباراة مونديال 1990 الشهيرة.
لم يحتج مارادونا لإحصاء دقيق حول عدد مراوغاته في مونديال 1986 كي تتحدد نسبة مساهمته في رفع الأرجنتين للكأس الثانية في تاريخها، فالجميع كان يدرك أن الفضل الأول له قبل أي لاعب آخر.
القيمة الحقيقية لكرة القدم لا تزال بعيدة عن الإحصاءات، فحتى وإن كانت أداة علمية لتقييم أداء اللاعب ومن ثم قيمته السوقية، فإن علينا أن ندرك أن الكرة نفسها فن وليست علما! فنسبة التمريرات الناجحة للاعب ما ولو بلغت 100% خلال إحدى المباريات فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه كان منتجا أو أنه أضاف حقا للفريق، أما اللاعب الذي يخطئ في التمرير أحيانا فإنه قد يسجل سعرا خرافيا كالبرتغالي ريناتو سانشيس لأن المعيار ليس إحصائيا فقط.
إغراق الكرة في الإحصاء أشبه ما يكون بالممارسات الساذجة التي يقوم بها الأطباء والمهندسون ذوو الرؤوس المربعة الذين لا يعترفون إلا بالمقدمات والنتائج المنطقية حين يدخلون إلى عالم السياسة، فتُنحى مساحة الارتجال جانبا ولا يُطلب من الفرد إلا ما نجح فيه في السابق.
ولو استمر هذا التوجه نحو الإحصاءات والتشديد عليها فلربما يكون من المستحيل مستقبلا أن نشاهد ظهيرا أيمن في السادسة والعشرين من عمره لم يعرف التسديد طيلة حياته ولكنه يقرر فجأة أن يفعل وبقدمه اليسرى ليصعد ببلاده إلى نهائي كأس العالم، فهذا ما فعله ليليان تورام مع فرنسا في مونديال 1998، ولو كان مدربه إيميه جاكيه وقتها يحني رأسه أمام ملوك الإحصاء لشدد عليه قبل المباراة بضرورة الالتزام بدوره التقليدي دون أن يجنح لمهام موكلة للاعبين آخرين كالتسديد البعيد.
كلنا جوناثان ويسلون
رغم مرور ثماني سنوات على نشره للمرة الأولى، فإن السنوات الأخيرة فقط شهدت تحول كتاب "الهرم المقلوب" للصحفي البريطاني جوناثان ويلسون إلى نص مقدس بالنسبة لكثير من العاملين إعلاميا فيما يخص كرة القدم.
لم يكن ويلسون بطبيعة الحال لاعبا محترفًا أو مدربًا، ولكن كتابه لقي رواجًا كبيرًا في زمن ظهر فيه البرتغالي جوزيه مورينيو كواحد من أعظم مدربي كرة القدم المعاصرين بفضل نتائجه قبل أي شيء آخر؛ على الرغم من أنه لم يلعب الكرة بشكل احترافي إلا موسمين وفي فريق متواضع، وهو ربما ما جعل البعض يقول إن الرؤية الخططية ليست حكرا على من مارسوا اللعبة فعليا، ولكنها متاحة للجميع شرط التحلي بالقدرة على القراءة والاستنتاج.
وإن كان هذا الكلام صحيحا في ظاهره، فهو من جهة أخرى فتح الباب للإغراق في الجوانب الخططية وإعزاء كل نجاح في كرة القدم إليها وحدها، وربما هذا هو الشعور الذي يتسرب لمن يقرأ كتاب ويلسون، فالأرجنتين مثلا فازت بمونديال 1978 حين أحيا المدرب سيزار مينوتي طريقة لعب منسية حسب وجهة نظر الكاتب، ولا أدري ماذا كان يمكن أن يقول لو لم يفز رفاق كيمبس على بيرو بالطريقة المعروفة!
الأمثلة كثيرة وكلها تصب في صالح تضخيم الجانب الخططي على حساب الفرديات أو لحظات الارتجال العبقرية التي تميز كرة القدم.
إن تعاقد أي ناد مع نجم مثل السويدي زلاتان إبراهيموفيتش لو تم من وجهة النظر الخططية فحسب فسيكون التركيز على ضرورة تطوير طريقة لعب تستفيد من إمكاناته الجسدية مع منحه الحرية في التأخر لاستغلال تسديداته القوية، ولكن لا أحد سيلتفت إلى الأثر المعنوي الذي يجلبه زلاتان معه أينما حل حيث اعتاد صناعة عقلية البطولة لدى مجموعة اللاعبين المحيطة به! وهذا في حد ذاته قد يكون سببا للتعاقد معه حتى لو صار بمعايير خطط العصر الحالي "موديل قديم".
إن استعادة جانب كبير من جماليات كرة القدم لمتابعيها لن يتم إلا بالتخلص من كل الضوضاء التي يسببها الحديث المستفيض والزائد عن الحد حول الجوانب الخططية، ولن يعود عنصر المفاجأة في اللعبة قويا كما كان إلا عند تنحية الإحصاءات جانبا.. فالرجاء لإعلاميي الكرة الجدد ألا يقتلوا اللعبة.