أمام جثة أحد الموتى وقفت فاطمة* مذهولة بينما تدعوها قريبتها للإمساك بكفن وعظام الميت "عشان تخلف"، بينما يقترح عليها "الحفار" أن تدخل لتتمدد داخل القبر علّ المفعول يكون أقوى ويقع المراد.
تعيش فاطمة التي تبلغ من العمر 36 عامًا، قضت 15 منها تحاول إنجاب طفل، في قرية الحميدات شرق بمحافظة الأقصر، وهي واحدة ضمن كثيرات، بينهن متعلمات، ما زلن يلجأن لممارسات شعبية يُعتقد بقدرتها على الإنجاب أو "فك العقم"، كي لا يُطلق عليها "أم غايب"، الكنية التي تطلق على من لم تنجب.
يُطلق اسم "شق التراب أو المدافن" على ما فعلته فاطمة، وهي ممارسة قديمة يشير إليها في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" المستشرق إدوارد وليم لين، الذي عاش في مصر في القرن التاسع عشر. ويقول في كتابه أنه كان يعالج المصريون وقتها العقم بطريقة "مثيرة للاشمئزاز، فقد كانت فسحة الرماية غربي قلعة القاهرة مسرحًا لإعدام المجرمين بقطع رؤوسهم، ويقع جنوبًا مبنى مغسل السلطان، ويجري غسل الجثث بعد تنفيذ الحكم، وعلى المرأة الراغبة في الإنجاب أن تمر تحت الطاولة التي يسجى عليها الميت، ثم تعبرها سبع مرات، وأخيرًا تغسل وجهها بالماء الملوث بالدم".
عايشت رحمة خالد، التي بلغت نهايات عقدها الثالث، تجربة قبل سنوات في مركز المراغة بسوهاج، حين توفيت شقيقتها، فذهبت عمتها التي تأخر حملها وأخرجت الجثة لتخطو فوقها، "حسيت بغضب ناحيتهم إحنا ف إيه وهما ف إيه، إزاي ميحترموش مشاعرنا ولا حرمة أختنا الميتة".
وفي ممارسة أخرى، يجهز خيط بطول المرأة الراغبة في الإنجاب داخل كفن أحد الموتى، فبحسب بحث "الإنجاب والمأثورات الشعبية" لمحمد عبد السلام، يُعد خيطُ بطول المرأة ليكون بديلًا لها، ويُدفن مع متوفي، أي كأنها دُفنت كعاقر بقصورها، ووُلدت أخرى معافاة.
أصول مصرية
تتلامس طقوس جلب النسل مع أصول ومعتقدات فرعونية، فالاهتمام بالإنجاب وتثمين قيمته، وحتى تفضيل الذكور، ممتد من العصور القديمة.
وتظهر ورقة بردية ترجع لعصر المملكة الحديثة، في فترة ما بين 1500 و1300 قبل الميلاد، أن المصريين القدماء اعتقدوا أن بول الحامل يحمل عناصر خلاّقة تبعث النشاط في أي مخلوقات تلامسها، فيرشونه على القمح والشعير. فإذا نما القمح أسرع، وهو مذكر في اللغة المصرية القديمة، يكون الجنين ذكرًا، وإذا نما الشعير، وهو المؤنث، تكون أنثى. أما عدم نمو أي منهما فيدل على عدم وجود حمل.
ويلمح كتاب الأمومة والطفولة في مصر القديمة لمحمد فياض وسمير أديب، إلى الاهتمام بحفظ لبن الأم التي وضعت ذكرًا في أوعية وإعطائه لمن تريد أن تحمل في محاولة للإكثار من الأجنة المذكرة. وفي المخطوطات ما ينم عن محاولة توخي العقم بالالتجاء للأطباء والسحرة، وعُثر على صحن نُقش باطنه وحافته بصور الضفدع "حقت" رمز الإخصاب، ولا يُستبعد أنه كان في حوزة راقٍ أو ساحر.
تنتشر ظاهرة اللجوء لرجل دين مغاير لفك الحسد والأسحار، وربما يكمن وراء ذلك اعتقاد بأن الآخر "حليف الشيطان"
وبالعودة لعلاقة الموت بالولادة، يقول رندل كلارك في كتابه "الرمز والأسطورة في مصر القديمة" إن المصري القديم نظر إلى أسلافه بوصفهم أرواحًا خيرة "كاوات"، كانت مسؤولة عن الخصب والقوة الجنسية والحظ الحسن، لذا التجأت النساء للمقابر بهدف الحمل، كما كانوا يؤمنون بعودة الروح وحلولها في الجسد مرة أخرى.
وكما بحثت إيزيس عن أوزوريس الميت في الأسطورة القديمة وأعادته للحياة من خلال بعثه الخصوبة فيها لتحمل منه ولدًا هو حورس؛ اتبعت مصريات كثيرات عبر أجيال وأجيال المعتقد نفسه، وإن جهلن به، باحثات عن الخصوبة في عالم الموتى.
أضرحة ومقابر ومعابد
لم تقف رحلة فاطمة الطويلة عند شق القبور، تقول "عملت كل اللي ممكن يتعمل"، تروي أنها ذهبت إلى راهب كبير في أحد الأديرة منحها ماء مُصلى عليه لتشربه، وذهبت كذلك لزيارة المقابر الفرعونية المهجورة في الجبل ناحية قرية الشغب بالأقصر.
وتنتشر ظاهرة اللجوء لرجل دين مغاير لفك الحسد والأسحار في قرى الصعيد، وربما يكمن وراء ذلك إيمان داخلي بأن الآخر "حليف الشيطان"، يملك قدرة على التواصل مع الأرواح وفك الأسحار والأعمال. وهو المعتقد نفسه الذي تستند عليه زيارة المقابر والأماكن الفرعونية للاعتقاد بعلاقتهم بالقوة العليا والشيطان والسحر.
وتلجأ الراغبات في الحمل إلى المقامات والأضرحة، ويقصدن أرض "الكحريتة" ليتدحرجن للجهة الأخرى اعتقادًا بوجود قوة خفية تدفعهم دفعًا. وفي قرية الرئيسية بنجع حمادي؛ حيث ضريح الشيخ إبراهيم بن الأدهم، وهو من أعلام التصوف في القرن الثاني الهجري، ظلت حارسة الضريح، فوزية حماد لسنوات تقود نساء يمررن فوق حجر مجاور للضريح سبع مرات، معربة في حديثها مع المنصة عن إيمانها بكرامات الشيخ، وتتأمل كل مرة في "الحلاوة بعد ما يرزق ربنا".
وفي دير أبو شنودة بمحافظة سوهاج تصعد نساء أعلى الجبل أو"القطعية" وتعاودن النزول متدحرجات مرات أملًا في أن يحملن. وفي المنيا، تضم قرية البهنسا قبة "السبع بنات". تقول نشوى عادل التي تقطن هناك، إن المنطقة مشهورة ببركتها، وزيارتها تجلب الرزق بالبنين، و"الدحرجة على رمالها تجيب الخلف"، إذ تنام مَن تأخر حملها على جانبها الأيمن ويداها خلف رأسها، ثم تدفعها خادمة المكان من أعلى الجبل من ثلاث إلى سبع مرات.
الخلاص والخضة
تضحك فاطمة وهي تتذكر أشياء أخرى فعلتها حين أقنعوها بجدواها، "نطيت فوق شنط ناس راجعة من الحج سبع مرات، أخدت لبن واحدة لسه فاطمة ابنها وخطيته سبع مرات، وعديت فوق سقط عيل وفوق خَلَاص عيل تاني". و"الخلاص" هو الاسم الشعبي لـ"المشيمة" الخاصة بمن وضعت، وتستجلب النساء البركة منها، ويُعتقد أنها تحمل جزءًا من روحه، وأنه حين تخطو المرأة فوقها تدب بداخلها هذه الروح.
يمكن أن تتعرض النساء للعقاب حال عدم إنجابهن حدّ أن دميانة اكتشفت أن زوجها حرمها من الميراث
وتحت تأثير الأمل في "الخلفة" الكل يتساوى. التقت زينب عبد الوهاب، مدرسة علم الاجتماع السكاني بكلية الآداب جامعة جنوب الوادي، أثناء دراسة ميدانية، عددًا من الحالات بينهن حاصلات على تعليم جامعي، ما يدل على "قوة الموروث الشعبي الذي يتحول مع الوقت إلى حقيقة مطلقة لا تقبل الجدال، بل يعد المساس بها انتهاكًا لحرمة معتنقها".
تتفق فاطمة، الحاصلة على دبلوم تجارة، مع زينب في أن التعليم لا يستطيع أن يقف في وجه ما تعتقده الأمهات والجدات "كانت بتروح معايا واحدة قريبتي مخلصة جامعة، أي واحدة عايزة تخلف وتخلص من الزن والمعايرة حتى لو مش مقتنعة بتجرب".
وتشير مدرسة علم الاجتماع إلى لجوء الزوجين في قرى الصعيد لهذا العالم منذ الليلة الأولى، إذ يدخلان المنزل بالقدم اليمنى، وأحيانًا يحمل الزوج عروسه حتى لا تخطو فوق عمل سحري. وكذلك يرشون ماء وملح، أو يستخدمون "ماء مرقي" في التنظيف. وبعد الزواج بشهرين أو ثلاثة يبدأ التردد على الأطباء، بالتوازي مع اللجوء للممارسات الشعبية، ولعل ذلك يعود لقيمة الإنجاب ونظرة بعض المجتمعات الريفية للمرأة التي لا تنجب على أنها غير جديرة بالحياة الزوجية.
وحدهن يدفعن الضريبة
كادت فاطمة، التي تزوجت بابن عمها عقب حصولها على شهادة التعليم المتوسط، أن تفقد حياتها أكثر من مرة خلال بحثها عن الطفل الحلم. تقول "أول مرة شفت فيها جثة وقعت ورأسي جت على حجر، وكنت هروح فيها، ويوم نمت على قضبان القطر ولما عدّى أغمى عليّ، وقعدت فترة بعدها بصحى من نومي مفزوعة".
في مجتمع يربط قيمة المرأة بكل شيء سواها، في حين يرى أن "الراجل ميعيبوش إلا جيبه" تقتصر مساعي الإنجاب على النساء، حتى فيما يتعلق بزيارة الأطباء. فالرجل يمكنه أن يُطلّق ويتزوج بأخرى، أما الزوجة فعليها أن تختار بين "ضُرة" أو مطلقة بوصم عاقر. أو تُعاقب إلى الحد الذي اكتشفت فيه دميانة عزت، صاحبة الـ57 عامًا، أن زوجها قبل وفاته وهبَ كل ما يملك لإخوته حتى بيت الزوجية، جزاءًا لها لعدم إنجابها.
يدفع هذا الوصم النساء لتجارب قد تودي بحياتهن. تذكر بأسى إسراء راضي، التي بدأت عقدها الرابع منذ أسابيع، قريبتها التي فقدت عقلها جرّاء تلك المحاولات في البحيرة، "صحيح أنجبت المرأة في النهاية ولد بس فضلت مريضة عقليًا لحد ما ماتت". وقريبة إسراء ليست بأحسن حال من عمة سامية حمدي، التي تعيش في أسيوط، وذهبت لتخطب لزوجها بعد 18 عامًا لم يتمكنا خلالها من الإنجاب.
تحصر الأمثلة الشعبية مكانة المرأة في الإنجاب حين تقول "الست اللي ما بِتخلفش زي العيار اللي ما يصيبش"، أو "زي الضيف"، في تشبيه يؤكد أنها ليست صاحبة البيت طالما لم تنجب، "المرأة بلا أولاد زي الخيمة بلا أوتاد"، "اللي متحبلش في ليلتها يا وكستها"، وفي المقابل "أم الغلام تستاهل الإكرام".
كانت فاطمة في بداية زواجها تُنادي باسمها، ومع مرور السنوات وفشل محاولات حصولها على ابن تحولت إلى "أم غايب"، وما زالت تشعر بوحشة كلما سمعت تلك المناداة "كل مرة بيفكروني إني مبخلفش وفيه حاجة نقصاني".
*اسم مستعار بناء على طلب المصدر.