منذ أسابيع قارن أحد الزملاء بين فيلم كيرة والجن للمخرج مروان حامد، الذي رفضت لجنة اختيار الأفلام التي تمثل مصر في الأوسكار ترشيحه لجائزة أفضل فيلم عالمي، وبين الفيلم الهندي RRR إخراج إس إس راجامولي، الذي رُشح وحصل على عدد من الجوائز خلال الموسم، إلى جانب تحقيقه لنجاح تجاري ونقدي مدو.
انصبت المقارنة على تشابه الفيلمين إلى حد كبير، فكلاهما ينتمي للنوع الشعبي التجاري، وكلاهما يدور في فترة زمنية واحدة حول موضوع واحد وهو مقاومة الاستعمار البريطاني في كل من مصر والهند.
استبعدت اللجنة المصرية ترشيح أي فيلم في سابقة ربما تكون الأولى. فكل عام تقريبًا تميل الكفة إلى ترشيح أحد الأفلام، حتى لو لم يكن هناك أمل في وصوله للقائمة النهائية، أو حتى في تحقيقه لتمثيل مشرف أمام المشاهدين. وفي العام السابق حين طرحت فكرة الامتناع عن ترشيح أي فيلم، تم ترشيح فيلم سعاد، للمخرجة أيتن أمين في نهاية المطاف.
ترايلر فيلم كيرة والجن
أثار الامتناع عن إرسال فيلم يمثل مصر إلى أكاديمة علوم وفنون السينما استياء البعض. وحاول أحد أعضاء اللجنة أن يبرر القرار فوصف كيرة والجن بأنه ربما يعطي انطباعًا بتأييد الإرهاب، ما أثار لغطًا واستياءً أكبر لدى محبي فيلم كيرة والجن. وعندما ظهر RRR الذي يتناول أيضًا المقاومة العنيفة ضد الاحتلال، تجدد الهجوم على لجنة الاختيار، ذلك أن الجمهور والنقاد ومانحي الجوائز لم يروا في الفيلم أية "إرهاب".
وبغض النظر عن ذلك الجدل، هل كان كيرة والجن يستحق أن يذهب إلى الأوسكار وحرمته اللجنة فرصة الوصول إلى للعالمية والنجاح التجاري العالمي؟
السؤال يجر آخر، أو يذكر بأسئلة، ومنها مستوى السينما المصرية بالنسبة للإنتاج العالمي، ومدى أحقية الكثير من أعمالها للوصول إلى المهرجانات الكبرى والأوسكار.
هل هناك ظلم، متعمد أو غير متعمد، للسينما المصرية، أم أن هناك أوجه قصور مزمنة تحول دون وصولها إلى العالمية؟
بداية، لا بد من ذكر بعض البديهيات حتى لا يذهب خيال القارئ إلى أبعد مما نقصد.
أول ملحوظة تتعلق بالأفلام المرجعية التي تُبنى عليها هذه المقارنة، هي أنني لا أضع في الاعتبار الأفلام التجارية التي تشكل النسبة الغالبة من الإنتاج السينمائي في كل مكان، وإنما المقارنة بين "روائع" السينما العالمية و"روائع" السينما المصرية من أعمال جادة وجيدة لمخرجين متميزين.
الملحوظة الثانية هي أننا لا ننكر وجود أعمال مصرية حققت نجاحات عالمية مرموقة وعلى رأسها بعض أعمال يوسف شاهين و"مومياء" شادي عبد السلام، وقليل من أعمال مخرجين آخرين، ولكن النسبة ضئيلة للغاية مقارنة ببلاد أخرى ليس لديها ما تملكه السينما المصرية من تاريخ ومواهب.
وبعض أعمال الشباب حققت نجاحات ملفتة خلال العقدين الماضيين، لكنها غالبًا ما تقف عند حدود معينة لا تتجاوزها، كأن تشارك في مسابقة مهرجان كبير، أو تفوز بجائزة صغيرة أو كبيرة في مهرجان أو مسابقة متوسطة الأهمية. ولم يحدث أبدًا أن فازت أفلام مصرية بالجائزة الكبرى من أحد المهرجانات الكبرى مثل مهرجان كان، أو برلين، أو فينيسيا مثلًا. ولا حتى وصلت إلى الترشيحات النهائية للأوسكار، إذا استثنينا سعفة كان التكريمية ودب برلين الفضي ليوسف شاهين.
يوسف شاهين أثناء تسلمه جائزة مهرجان كان
هناك أسباب كثيرة وراء ذلك الغياب، ليس من بينها وجود ظلم أو تغافل متعمد للسينما المصرية، فذلك النوع من التفكير الهروبي يتجاهل الواقع ويفاقم من الهوة بين ثقافتنا المحلية والثقافات العالمية. وفي اعتقادي، كناقد ومتابع للسينما المصرية والعالمية، هناك صفات، لا أقول سلبية أو إيجابية، تتسم بها معظم الأفلام المصرية وتحول دون وصول نجاحها المحلي إلى أبعد من ذلك.
من هذه الصفات وجود لغة سينمائية "محلية" لا يفهمها أو لا يستسيغها عادة المشاهد العالمي. وأقصد بها الإفراط التمثيلي والإخراجي والتكرار وكثرة الحوار. أو ما يمكن أن نطلق عليه "الربع تون" السينمائي، الذي لا تستسيغه الأذن غير الشرقية عادة.
فمثل موسيقانا المليئة بالشجن والتقاسيم، كثيرًا ما يكون التعبير السينمائي مشددًا وثقيلًا. ويمكن أن نعقد مقارنة شبيهة أخرى تقرب ما أقصده بين لغة نجيب محفوظ المجردة الموحية ولغة يوسف إدريس العاطفية مفرطة التعبير والذاتية.
هناك أيضًا مشكلة قلة الإتقان، سواء على مستوى الكتابة، أو الحرفية أو الصنعة بشكل عام. وهي مشكلة طالما حالت دون وصول كثير من الأعمال المصرية للمهرجانات ومنافذ العرض الخارجية. ومن المؤسف مثلًا أن فترة الثمانينيات، التي شهدت مولد وازدهار كثير من المبدعين السينمائيين المصريين، اتسمت بأفلام رديئة الصناعة صورة وصوتًا بسبب رداءة الخام ومعدات التسجيل ومعامل التحميض والطبع.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك صفة غالبة أخرى، هي التركيز على شخصيات النجوم والحكاية على حساب الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة مثل الشخصيات الثانوية والمجاميع وتصميم المناظر والموسيقى التصويرية... إلخ.
وكذلك الاستغراق في القضايا المحلية دون وجود بعد إنساني يضعها في سياق الهم الإنساني المشترك. وأحيانًا النبرة الشعبوية الطاغية التي تميل لتمجيد الذات بشكل مباشر وسطحي، ويقترن بذلك أخلاقية سطحية لا تتفق مع أصول الدراما الجيدة التي تُعلي من شأن الفهم وليس الحكم على الشخصيات. ولنا في فيلم شباب امرأة نموذجًا واضحًا على الصفات السابقة. فهو فيلم جيد وناجح بالمقاييس المصرية، ولكن حين تضعه أمام مُشاهد عالمي، سيجده ثقيلًا مفرط التعبير وغير متوازن دراميًا ومتحاملًا على المرأة.
ترايلر فيلم RRR
نعود إلى المقارنة بين كيرة والجن وRRR. بشكل عام تتصف السينما والدراما الهندية بسمات مشتركة مع نظيرتها المصرية، ولكن هناك صفات أخرى تميزها، على رأسها عدم الخجل من التعبير المفرط، بل المفرط جدًا، سواء على مستوى الدراما التي تعتمد على المصادفات والحوادث صعبة التصديق، أو على تصوير المشاعر، أو على مستوى الديكورات والألوان والموسيقى، أو حتى في زوايا وحركة الكاميرا.
هذا الإفراط يصنع حالة من التغريب والانفصال عن الواقع لدى المشاهد ويجعله قابلًا لتصديق أي شيء يراه دون مضاهاته بالواقع أو بالأخلاقيات والجماليات التقليدية.
صفة أخرى تتسم بها السينما الهندية الشعبية لا توجد تقريبًا سوى في السينما الهوليوودية، وهي الخيال الجامح إلى أقصى حد، وأحيانًا إلى ما بعد الحد الأقصى. ولعل أفضل تعبير عن تلك الفكرة صورة كانت شائعة على الإنترنت يظهر فيها رجل يداعب ابنه بإلقائه لأعلى. تتكرر الصورة ثلاث مرات، في الأولى لقطة واقعية للطفل على بعد سنتيمترات من ذراعي أبيه وتحتها كلمة "الواقع"، في الثانية الطفل على بعد أمتار وتحتها كلمة "هوليوود"، وفي الثالثة الطفل يحلق بجوار طائرة وتحتها كلمة "بوليوود".
هكذا تجعلك السينما الهندية دائمًا مبتسمًا وعلى مسافة من المبالغات التي تراها.
وأدعو القارئ لمشاهدة RRR بعد مشاهدة كيرة والجن ليحكم بنفسه على ما سبق.