"هل تستقبلون مجموعات قصصية للنشر؟" سؤال ربما يضطر كل قاص لإرساله إلى صفحات دور النشر على فيسبوك بعد انتهائه من عمل جديد، في ظل سعيه للبحث عن ناشر. لكن هل يحتاج الروائي أن يفعل مثله؟
غالبًا ما تدور إجابات تلك الدور حول الاعتذار عن عدم النشر، وإن بصورة غير مباشرة كازدحام خطتها، ونادرًا ما تجيب إحداها صراحة بأنها لا تهتم بذلك التصنيف في الوقت الحالي. تفضل دور النشر الروايات، وهو تفضيل يعكسه العدد المهول في حجم المنشور منها في مقابل المجموعات القصصية والشعرية، لكن شيئًا لافتًا للنظر تعكسه الأرقام المتزايدة للصادر حديثًا من السرد القصصي في الفترة الأخيرة. فهل يعكس ذلك اهتمام حقيقي بنشر القصة أم أن الأمر مجرد صدفة؟
من تداعيات الحرب
من الصعب الوصول إلى حصر كامل للمنشور هذا العام أو الذي سبقه، حيث إن دار الكتب المنوط بها توثيق الإصدارات الحديثة لا تبدي تعاونًا حقيقيًا في إمداد الباحثين والصحفيين بالمعلومات في هذا الصدد، لذلك حاولت المنصة تتبع أعداد المجموعات القصصية في دور النشر المشهورة بين عامي 2022 و2023.
لاحظنا أنه في دار الشروق مثلًا، زاد عدد الصادر منها في 2022 من مجموعتين (منهما مجموعة أُعيد نشرها للكاتب محمد المنسي قنديل) إلى خمس مجموعات على الأقل، وفي دار العين، زاد نشرها من مجموعة واحدة في 2022 إلى ثماني مجموعات هذا العام (إحداها إعادة نشر لمجموعة الكاتب حمور زيادة)، وربما تبدو تلك الأعمال قليلة العدد لكنها تمثل بالنسبة للناشر الخاص الأكبر (الشروق) زيادة تقدر بـ150%، ولدار مثل العين بـ700%.
لكن هذه الزيادة فيما يبدو لا تعكس تغييرًا في خطط دور النشر أو في رؤيتها لما يجب الترويج له من أشكال الإبداع المختلفة، وإنما ترجعه أميمة صبحي، محررة دار العين، إلى أزمة سعر الورق والحرب الروسية الأوكرانية في العام الماضي اللذان أديا إلى تأجيل عدد كبير من الأعمال في دور النشر بشكل عام وترحيلها إلى العام الذي يليه.
ذلك السبب رغم وجاهته لا يمكن تعميمه على المشهد العام، ففي حين ارتفعت معدلات نشر القصص في دارين ذاتا قاعدة جماهيرية ملموسة، فإنها انخفضت في أخرى طليعية كانت بين قليلين يهتمون بنشر السرد القصصي، مثل دار المحروسة التي انخفض معدل نشرها من ثلاث مجموعات على الأقل في 2022 (إحداها إعادة نشر لمجموعة لمحمد عبد النبي) إلى مجموعة واحدة.
مدير النشر السابق بدار المحروسة، عبد الله صقر، يوضح للمنصة إن الدار التي كان يعمل بها تنشر ما تجيزه لجنة القراءة، و"عمومًا لا تتفق الدور على قرار واحد، بل تنشر كل منها وفقًا لخطتها الخاصة"، ولكنه يرى أن مبيعات القصة القصيرة والشعر أقل من مبيعات الرواية في مصر بل العالم كله بشكل عام، مع ذلك لم يشهد صقر في دار المحروسة تفضيل لرواية عن مجموعة قصصية بسبب قلة مبيعات الأخيرة.
ويتفق الكاتب والعامل في مجال النشر، أحمد سمير، مع صقر في ضعف مقروئية ومبيعات المجموعات القصصية والشعر على عكس الروايات، وبالتالي فهي صعبة النشر "طبيعي إن دار النشر مش هتنشر حاجة غصب عن القراء"، مع ذلك يؤمن بدورها في نشر أعمال جيدة قد لا تلقى الرواج الكامل ولكنها تستحق أن تخاطر بنشرها.
وتختلف الناشرة فاطمة البودي، صاحبة دار العين، مع سمير في أنها ترى أن الأعمال القصصية الجيدة قادرة على الوصول إلى القراء عندما تحصل على الدعاية المحترفة "القراء محتاجين زقة"، وتستشهد بذلك أنها نشرت هذا العام مجموعة "الدجاج أيضًا بإمكانه الطيران" لمحمد عبد الجليل، الذي لم يسبق له النشر، وترى أنها لاقت نجاحًا كبيرًا.
كتابة الأزمة
يعد الناشرون، إذًا بنشر الجيد من القصص التي تصلهم كمسودات، وهو ما يدفعنا للسؤال: هل ثمة ازدهار في كتابة القصة من الأساس؟
الرئيس السابق للهيئة العامة للكتاب وأستاذ مساعد الأدب الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان، الناقد الدكتور هيثم الحاج علي، يقول إن هناك مقولة مشهورة للناقد المجري جورج لوكاتش مفادها أنه عندما تكون الطبقة الوسطى مأزومة تزدهر القصة القصيرة وعندما تكون ثائرة تزدهر الرواية، فالقصة القصيرة تعبير واضح عن الأزمة بما فيها من انكفاء على الذات والتعبير عن حركة النفس الداخلية، أما الرواية فهي ابنة الثورة والطموح بما فيها من حركة للأمام وبطولة.
لكن يجب الالتفات، من وجهة نظره، إلى أن انتشار الرواية كان له أثر إيجابي على معدلات القراءة وهو الأمر الذي دفع دور النشر إلى الاهتمام بها، "لذا قد يكون لتلك الزيادة علاقة بالإحساس بأزمة ما من أزمات الطبقة الوسطى، أي الأزمات الوجودية وأزمات الوعي، لكن يجب أن تكون الملاحظة مقرونة بعدد الروايات وانتشارها لكي يكون الحكم صحيحًا".
نشر الصدفة
لم تكن المجموعات القصصية في خطة أحمد كامل، الذي نشر حتى إصدار مجموعته القصصية "جوارب عميد الأدب" هذا العام، روايتين وديواني شعر. يقول للمنصة إن كتابه الأحدث بدأ بنشره قصتين منشورتين في مجلة أخبار الأدب، للتجريب ليس إلا، ثم شارك في منحة مفردات وفاز بها، مما دفعه لاستكمالها.
وعلى الرغم مما يعرفه عن صعوبة نشر المجموعات القصصية بالمقارنة بالرواية، فإنه استطاع نشرها مع دار الشروق بسهولة بعد أن وافقت عليها لجنة القراءة خلال الوقت الذي أبلغوه به.
ولم تجد هند جعفر صعوبة أيضًا في نشر مجموعتها الثانية "أيام سمير حمص" مع دار الشروق وهي أول دار تُرسل إليها المجموعة للنشر، وتتفق هند مع الدكتورة فاطمة البودي في أن القارئ يُقبل على المجموعات القصصية الجيدة التي تتوفر لها الدعاية اللازمة.
أما تجربة أحمد فؤاد الدين، صاحب المجموعة القصصية "مساحة للمناورة" وهي الوحيدة الصادرة عن دار المحروسة هذا العام، فاختلفت عن تجربة كامل وهند، فلم تكن المحروسة أول دار تستقبل العمل، بل رفضه أكثر من ناشر، لذلك يرى صعوبة كبيرة في نشر المجموعات القصصية، خاصة لو كانت التجربة الأولى لكاتبها.
لا يرى فؤاد الدين زيادة في أعداد المجموعات القصصية على عكس هند وكامل "ولو فيه هيكون لأننا مش بنشوف منها كتير، فلمّا نعرف أنه اتنشر عشر مجموعات قصصية نحس إن ده كتير. طبعًا أرقام المجموعات القصصية قصاد الروايات المنشورة لا تقارن أبدًا". يقول للمنصة.
القارئ مدانًا
ربما تُزيل إفادتيّ أحمد فؤاد الدين وأميمة صبحي ذلك الارتباك الذي عكسه الازدهار الطارئ لأعداد القصص المنشورة مؤخرًا، وتجعله يبدو مثل صدفة نتج عنها زيادة لوحظت لندرة الصادر من القصص بالأساس. والذي رغم توافر الشرط النقدي مثلما أشار الحاج علي واللوجيستي كما يوضح ترحيب الناشرين فإنها ما تزال بعيدة عن اهتمام القارئ.
تحمِّل هند جعفر المؤسسات الثقافية المسؤولية بعد أن "أهملت القصة القصيرة لصالح الرواية لفترة طويلة وهو ما أثر على ذائقة القراء"، فيما يعتقد أحمد سمير أيضًا أن نظام التعليم وأزمة القراءة ونقص المكتبات في مصر بشكل عام أثروا على مقروئية المجموعة القصصية، فالمكتبات العامة الموجودة لا تُحدَّث بكتب جديدة لأن "أمنائها يخافون من احتواء أي كتاب جديد على مشاهد جنسية أو موضوعات دينية أو سياسية قد تسبب مشكلة، على عكس الكتب القديمة التي لن يعترض عليها أحد، فإذا احتوت كل مكتبة على نسخة أو أكثر من مجموعة قصصية جديدة، سنضمن وصول آلاف من النسخ (في حالة وجود عدد كبير من المكتبات) إلى القراء بالمجان وتعرضهم لهذا النوع الأدبي".
سبب آخر يشير إليه فؤاد الدين يعود إلى طبيعة الفن نفسه الذي "يحتاج إلى قارئ مختلف وذكي، لأن القصص جرعة مكثفة وقصيرة تتضمن فكرة أساسية عميقة، وتحمل تفاصيل كثيرة ولكنها غير موجودة في الوقت نفسه، وعلى القارئ أن يستكملها ليخلق عالم كامل يتخيل القصة فيه".
وبالتالي، فإن "قراءة الرواية أسهل لأن القارئ ينغمس في عالمها مرة واحدة، بينما تتطلب قراءة مجموعة قصصية إعادة بناء العالم مع كل قصة في المجموعة، مما يستهلك وقتًا أطول"، حسب فؤاد، الذي يتوافق رأيه مع الدكتور هيثم الذي يعد القصة "فن لغوي يقترب من التعبير الشعري ويحتاج إلى تلقي من نوع خاص".
ويتفق سمير مع فؤاد الدين قائلًا "مشكلة المجموعة القصصية إنك عقبال ما تندمج مع النص، بيكون النص انتهى، وبتبذل مجهود ذهني تاني عشان تندمج مع النص الجديد"، كما أن القارئ قد لا يكمل المجموعة القصصية ويكتفي ببعض القصص، على عكس الرواية التي قد يدفعه الفضول لاستكمالها.
ويرى القاص أحمد كامل أن حتى تقييم رد فعل القراء بشأن المجموعة صعب، لأنه يصعب الاحتفاظ بإعجاب القارئ على مدى كل قصص المجموعة، وبالتالي "كيف يحكم القارئ على المجموعة القصصية؟ هل لو أعجبته أغلب القصص يعتبرها جيدة أم يجب أن تعجبه كلها؟".
ربما في المستقبل
ما تقدم من إفادات مختلفة يضع التفاؤل الذي بدأنا به تقريرنا عن ازدهار القصة محل تساؤل، أو يضعه في أحسن تقدير في صورة زيادة "شكلية" طارئة لفن سردي يعاني منذ سنين طويلة عزوفًا عن الكتابة والنشر والقراءة على السواء.
لكن الناقد هيثم الحاج علي يرى أن فن القصة القصيرة سيزيد الاهتمام به في العالم العربي عمومًا في الفترة المقبلة، خاصةً مع ازدياد تداخل الهويات ومشروعات العولمة، ولكن الإقبال على أي فن يكون مرهونًا بما يقدمه لجمهوره، وأن هناك اهتمام من الكتاب بتطوير أدواتهم القصصية وهو مؤشر إيجابي حسب قوله.
ربما تغير المنصات الإلكترونية والصوتية وضع المجموعات القصصية في رأي سمير، فهي تسمح للقارئ بالدخول على مكتبة واسعة مما يعطي مساحة أكبر للمجموعات القصصية، ففيها لا يغامر القارئ بشراء مجموعة قصصية قد لا تكون اختياره الأول، لذا قد تكون مفتاحًا للتعرف على المجموعات الجديدة وتغير ذائقة القارئ.