
حتى لا تتكرر جريمة دمنهور بأبعادها الطائفية
صدر الحكم على المتهم بهتك عرض الطفل "س" في مدرسة الكرمة للغات في دمنهور بالسجن المؤبد، إلا أن أصداء القضية التي شغلت الرأي العام لا تزال تتردد بقوة المشاحنات الطائفية، مع استدعاء الدين للتحريض والحشد خصوصًا مع التعاطي السيئ من أطرافها.
إذ تحولت القضية إلى ما يشبه المباراة بين طرفين أحدهما يعتبر نفسه منتصرًا بتوقيع العقوبة الأشد من الجلسة الأولى، مطالبًا بأن تمتد لتطول مسؤولي المدرسة، والآخر يرى نفسه مظلومًا معتبرًا أن المتهم لم يواجه محاكمة عادلة.
لا يمكن قراءة الحكم بعيدًا عن أجواء المحاكمة، وما صاحبها من تظاهرات في شوارع المدينة ودعوات تحريض طائفي. إذ سبقها فيض من التصريحات عن تنحي محامي الطفل "س" عن الدفاع، وتصدُّر محامين مشهورين للمشهد حرضوا ضد المسيحيين في المجمل. كما سارع محامو المتهم إلى نشر أجزاء من أوراق القضية للتدليل على براءة مراقب الحسابات.
خطيئة المدرسة
بدأت دائرة الخطأ من المدرَسة التي أخطأت في التعامل مع ما حدث، فقد كان عليها أن تتخذ موقفًا موضوعيًا منذ بداية الأزمة، فمن مصلحتها معرفة الحقيقة وإعلانها واستدعاء جهات التحقيق لتتولى مسؤوليتها. تثير مساندة المدرسة للمتهم بشكل مطلق تساؤلات حول ما إذا كان موظفًا لديها أم على علاقة قوية بإدارتها. كما أن للمدرسة التزامًا تجاه الطفل الذي يدرس فيها ويعدُّ الطرف الأضعف، التزامًا يُحتِّم عليها أخدَ شكوى أسرته باهتمام، وتقديمَ أوجه الدعم لهم، ما كان سيزيد من مصداقيتها ويدافع عن سمعتها.
ضرورة تدريب العاملين في المؤسسات التعليمية على كيفية دعم الضحايا وتشجيعهم على الحديث وحمايتهم
فوقوعُ اعتداءٍ على تلميذ لا يعني بالضرورة تكرار مثل هذه الانتهاكات، ولا يبرِّر تعميم الاتهام على جميع المعلمين أو العاملين في المدرسة. وبالمثل، من غير المنطقي الافتراض أن والدي الطفل اختلقا واقعة الاعتداء الجنسي، التي تخلّف آثارًا نفسية عميقة وطويلة الأمد، فقط لتشويه سمعة المدرسة، أو خدمة توجهات دينية متشددة، أو سعيًا وراء مصالح شخصية.
تستمر الدائرة في التشكل مع ما اتسمت به المعالجة الأمنية من تباطؤ لا يتناسب مع خطورة الواقعة، التي تتمثل أولًا في كون المجني عليه طفلًا لا يستطيع الدفاع عن نفسه، أو طلب العون لمنع الاعتداء عليه، وأن موقع الجريمة مدرسة يفترض أنها مكان لحمايته وتربيته وتعليمه، وثانيًا أن المعتدى عليه مسلم والمتهم مسيحي والمدرسة محل الواقعة تملكها وتديرها إيبارشية البحيرة، ما يفرض حساسية خاصة، لا سيما في منطقة ريفية ذات نزعة محافظة اجتماعيًا، يمثل فيها هذا النوع من الاعتداءات "عارًا اجتماعيًا".
دائرة الطائفية
تكتمل الدائرة مع غياب المعلومات الصحيحة وانعدام الشفافية وترك الشائعات تنتشر وقودًا للتحريض الطائفي؛ عن وجود حالات اعتداء أخرى وقعت بمساعدة العاملين في المدرسة، وعن تدخّل محافِظة البحيرة، المرأة المسيحية، لمنع محاكمة المتهم، ما ساعد في اشتعال نار الفتنة، خاصة عبر السوشيال ميديا وامتدادها إلى بعض المظاهرات المتضامنة مع الضحية أثناء انعقاد المحاكمة، وخلقت توترًا طائفيًا واضحًا.
تطوير آليات الاستدلال والتحقيق في قضايا الاعتداءات الجنسية من الأمور التي تحتاج إلى إعادة نظر ودراسة مستفيضة
تزداد دائرةَ الطائفية إحكامًا بسبب الإدانةُ التي صدرت في الجلسة الأولى، وبأقصى عقوبة ممكنة بعد تعديل القيد والوصف، وما تبعها من ردود فعل متباينة؛ بين من رحّب بالحكم باعتباره انتصارًا للحقيقة والعدالة، ومن رفضه نافيًا التهمة عن المحكوم عليه، كون الحكم برأيه لا يستند إلى أدلة كافية، مستشهدًا بقرار النيابة مرتين بعدم إقامة الدعوى، أو مستندًا إلى كبر سن المتهم وحالته الصحية التي تحول دون ارتكابه الجريمة. وللأسف ما زاد من تعقيد المشهد قيام البعض بنشر مقتطفات من تقارير الطب الشرعي تتضمن بيانات شخصية عن الطفل، ما يشكل انتهاكًا لخصوصيته وضررًا مباشرًا لمصلحته.
يثير المشهد هنا تساؤلات تنبع من المنطقة الطائفية ذاتها عن أسلوب التعامل في الحالات الشبيهة، خصوصًا لو تبدلت الأدوار فكان المعتدي مسلمًا والمعتدى عليه مسيحيًا؛ قضية سعاد ثابت والمعروفة بـ"سيدة الكرم" التي سُحلت في الشوارع عارية بسبب تردد شائعة بوجود علاقة رضائية بين نجلها وامرأة مسلمة خير مثال على ذلك، إذ قررت النيابة العامة حينها أن لا وجه لإقامة الدعوى، قبل أن يقدم محاميها طلبًا لإعادة التحقيقات، وأحيلت القضية إلى محكمة جنايات المنيا، التي برَّأت المتهمين في النهاية بعد أربع سنوات من وقوع الجريمة، في حكم أيدته محكمة النقض.
الدروس المستفادة
تمثل الواقعة جرس إنذار ينبهنا إلى ضرورة وضع سياسات واضحة للتعامل مع موضوعات التحرش والاعتداء الجنسي خصوصًا على الأطفال، تتضمن قواعد محددة لنظام الشكاوى والتعامل معها، وتدريب العاملين في المؤسسات التعليمية على كيفية دعم الضحايا وتشجيعهم على الحديث وحمايتهم من التعرض لأي ضغوط من أطراف أقوى، وهنا يبرز دور الأخصائي النفسي والاجتماعي.
كما قد يكون تدريس التربية الجنسية أحد مداخل التعامل مع الجهل السائد والمعرفة الخاطئة، والمساعدة في حماية الأطفال، وهى دعوة ليس جديدة فهي تُطرح للنقاش من وقت لآخر دون أن تتخذ وزارة التربية والتعليم خطوات جادة نحو دراستها وتنفيذها.
كما يعدُّ تطوير آليات الاستدلال والتحقيق في قضايا الاعتداءات الجنسية بشكل عام من الأمور التي تحتاج إلى إعادة نظر ودراسة مستفيضة، إذ يصعب وجود شهود على هذا النوع من الجرائم، التي يحرص مرتكبوها على التخفي دون ترك أدلة أو قرائن تسهل كشفهم.
يبقى الدرس الأهم هو أن الشفافية حق للمواطنين، تزداد أهميتها في القضايا الحساسة، إذ تعمل حائط صد أمام التحريض الطائفي، الذي يسهل تحوله إلى كارثة لا يُحمد عقباها، وهو أمر ليس بعيدًا عن الحدوث، نتذكر ما شهدته قرى أبو تشت وفرشوط ونجع حمادي من انتشار جرائم عنف واسعة النطاق عقب اتهام مسيحي بالاعتداء على طفلة مسلمة وكانت مقدمة لمذبحة نجع حمادي ليلة عيد الميلاد 2010.
وعليه، لا يجب على مؤسسات الدولة الاستهانة بالطائفية التي صاحبت القضية، فالأجراس تدق منذرة بخطر كامن قد ينفجر في وجه الجميع إذا ما توافرت له الظروف المواتية، لا سيما مع وجود نمط راسخ من العلاقات يتعامل مع المسيحيين كـ"قبيلة" أو أسرة واحدة، ومن ثَمَّ فهم مسؤولون جميعًا عن خطأ أحدهم حتى ولو لم تربطهم أي رابطة به. بالمنطق ذاته يغدو جميع المسلمين مطالبين بالدفاع عن المعتدى عليه، دون صلة أو معرفة سابقة، لتصبح الأرض خصبةً لتطور الأمور بما يهدد سلامة المواطنين جميعًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.