
يوميات صحفية برلمانية| بيانات قديمة وأرقام متضاربة.. كيف تناقش الحكومة الإيجار القديم؟
امتد اجتماع اللجنة البرلمانية المشتركة لمناقشة تعديلات قوانين الإيجار القديم أكثر من 5 ساعات متواصلة، خاض فيها وزراء ونواب نقاشات بشأن مستقبل ملايين المصريين، دون أن يكون لدى أيٍّ منهم معلومة دقيقة للتعداد الحالي للمستأجرين، وتصنيفهم العمري والاجتماعي والاقتصادي.
تتقدم الحكومة بتعديلات على قوانين الإيجار القديم استجابة لحكم المحكمة الدستورية الذي قضى بعدم دستورية ثبات الأجرة، لكنها تجاوزت الحكم وتحركت لما هو أبعد من القيمة الإيجارية بوضع خطة زمنية لإخلاء الأماكن المؤجرة، دون دراسة تكشف الحجم الحقيقي للأزمة التي تتعهد الحكومة بحلها عبر بدائل.
لم تُظهر المناقشات فقط أزمة غياب المعلومات، لكنها أعادت التأكيد على عمق أزمة السكن في مصر، فالحكومة والنواب وجدوا أنفسهم محاصرين بقوانين الإيجار القديم وتعقيداتها، وكذلك بالقانون المنظم للإيجارات الجديدة وأثره على السكن.
بيانات قديمة للبضاعة الجديدة
استعانت اللجنة البرلمانية المشتركة لدراسة التعديلات المقدمة من الحكومة بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. حددت موعد اجتماع أمس الاثنين لعرض الأرقام والإحصاءات بحضور ممثل الجهاز؛ ترقبنا الاجتماع آملين في الوصول لصورة حقيقية وأرقام تبصّر النواب لحجم الأزمة وطبيعتها، ومدى قدرة الحكومة على إيجاد بدائل للمستأجرين وهو التحدي الأصعب.
غير أن الحكومة اعتمدت على بيانات قديمة للترويج لبضاعتها الجديدة، فاستعرض مستشار رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عبد الحميد شرف الدين، إحصاءات مرتبطة بالإيجار القديم صدرت في التعداد الذي أجراه الجهاز عام 2017 بأن الإيجار القديم يشكل 7% من إجمالي عدد الوحدات في مصر، التي بلغت حينها 42 مليونًا و973 ألفًا و884 وحدة.
وفقًا لشرف الدين، تبين أرقام عام 2006 أن نسب الإيجار القديم 15.8%، وقبلها بعشر سنوات كانت 22.8%، ما يعكس تناقصًا تدريجيًا في حجم العلاقة الإيجارية القديمة.
وكشف أيضًا أن عدد الأسر التي تشغل وحدات الإيجار القديم يبلغ مليونًا و642 ألفًا و870 أسرة، وعدد الأفراد 6 ملايين و133 ألفًا و570 شخصًا، بمتوسط 4 أفراد في الأسرة. وأوضح أن عدد وحدات الإيجار القديم يتجاوز 3 ملايين وحدة، بينها مليون و879 ألفًا و446 لغرض السكن، وللعمل 575 ألف وحدة، فضلًا عن وحدات تجمع بين النشاطين يستخدمها المستأجر للعمل والسكن وتمثل 9307 وحدات. أما الوحدات المغلقة لسفر الأسرة بالخارج فبلغ عددها 118 ألفًا و835 وحدة، فيما يصل عدد الوحدات المغلقة لوجود سكن آخر للأسرة إلى 300 ألف و866 وحدة.
أتى شرف الدين إلى هذه الجلسة المهمة، بتعدادٍ أجراه الجهاز المركزي قبل 8 سنوات، ودون أي دراسات أخرى أجرتها الحكومة. وفي محاولة للحصول على أرقام جديدة حاول رئيس حزب العدل، النائب عبد المنعم إمام، دفع الجهاز لإعداد دراسة أحدث خلال 30 يومًا، غير أن شرف الدين أكد عدم قدرة الجهاز على الاستجابة لهذا الطلب في هذه المدة.
أما وزيرة التنمية المحلية منال عوض، فحاولت الخروج بإجابة دبلوماسية عن سؤال رئيس لجنة الإدارة المحلية النائب أحمد السجيني بشأن إعداد دراسة عن الأثر الاجتماعي لمشروع القانون. لكنها لم تكن سوى تأكيد على الفشل وسوء التخطيط "إحنا قاعدين علشان ناخد من حضراتكم علشان نعمل دراسة بعد ما نسمع آراء النواب وجهاز التعبئة والإحصاء".
أقدمت الحكومة على تعديل أحد أهم القوانين وأكثر الملفات تعقيدًا دون دراسة، وفي غياب الأرقام والمعلومات. حاول رئيس لجنة الإسكان النائب محمد عطية الفيومي، الذي يدير الاجتماع، التقليل من حجم المشكلة مفضلًا التعامل خلال المناقشات بالرقم الخاص بعدد الأسر متجاهلًا أن هذا العدد يصل بنا في النهاية إلى 6 ملايين شخص، حقوقهم في السكن مهددة.
أين الأرقام؟
بينما لم تُجر الحكومة حصرًا جديدًا وتصنيفًا اجتماعيًا، أربكت الإحصاءات القديمة التي عرضها شرف الدين النواب، فرغم أنه تحدث عن وجود نحو 1.6 مليون أسرة تقيم في وحدات الإيجار القديم، فإنه عاد بعدها وقال إنهم مليون و879 ألفًا.
لن تتوفر معلومات حديثة وبيانات واقعية عن حجم الإيجار القديم قبل التعداد السكاني الجديد في 2027
أثار تناقض الرقمين تساؤل النائب إيهاب منصور، وهاجم النائب عن حزب مستقبل وطن، محمد الحسيني، الجهاز، واعتبر أن أرقامه غير معبرة عن الواقع وقال "أنا شخصيًا لا أعترف بها"، فيما اعتبرت النائبة إيمان العجوز الأرقام المعروضة على مجلس النواب مضللة.
وبينما دافع رئيس الاجتماع النائب محمد عطية الفيومي عن الجهاز وأرقامه، توقف السجيني أمام تضارب الرقمين، وطالب النوابُ بحضور رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء اليوم الثلاثاء لتقديم إجابات وأرقام دقيقة.
قد يصحح رئيس الجهاز الأرقام، أو يفسر تناقضها، لكنه في النهاية لن يقدم معلومات حديثة وبيانات واقعية، فالتعداد الجديد لن يتم قبل 2027، ولن يصنف رئيس الجهاز طبيعة البشر ومستويات دخولهم، ليرسم للنواب والحكومة صورة لمن يمكنه التجاوب مع ارتفاع الأجرة عشرين ضعفًا، مع زيادة سنوية 15%، ومن سيتمكن من الحصول على سكن في الإسكان الاجتماعي بأسعار تجاوزت المليون جنيه، ومن سيرفع عنه مشروع القانون الستر ويكون عرضة للتشريد.
بعد الأزمة التي حدثت على خلفية أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، التقطت الميكروفون الدكتورة سهير عبد المنعم أستاذة القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، لاستعراض الدراسة التي أجراها المركز في 2019 وتتعلق بالإيجار القديم.
وبينما انفعل النواب على مستشار الجهاز المركزي، أثنى الأعضاء وصفقوا لسهير عبد المنعم في نهاية كلمتها، بعدما أتمت عرض الدراسة التي حولت مجرى المناقشة، نزعت أستاذة القانون الجنائي الجمود عن الأرقام لتكشف وجوه البشر واحتياجاتهم وحقوقهم.
نسب المستأجرين بنظام الإيجار القديم من أصحاب المعاشات تصل إلى 33.8%.. و66% منهم يتجاوزون سن الخمسين
أعطت الدراسة، التي جرت على عينة من السكان ولا تُعدُّ إحصاءً عامًا، بعض المؤشرات، كاشفة عن أن نسب المستأجرين بنظام الإيجار القديم من أصحاب المعاشات تصل إلى 33.8%، وأن أكثر من 66% من المستأجرين تجاوز الخمسين، و55% منهم يرفضون تعديل القانون خوفًا من تشريد الأسر وإهدار مساهماتهم المادية التي كانت مجزية عند التعاقد، إذ سدد 63% منهم مقدمًا ماليًا مقابل إتمام التعاقد، فضلًا عن تشطيبات الوحدات السكنية وصيانتها.
وقدمت دراسة المركز القومي للبحوث مقترحين أساسيين؛ الأول إعطاء المؤجر الحق في استرداد الوحدة السكنية لكنه ليس حقًا على إطلاقه، إنما "لضرورة يقدرها القضاء له أو أحد أبنائه مع إقرار تعويض للمستأجر".
أما المقترح الثاني فيتبنى سياسة تشريعية لإلغاء الإيجار القديم لغرض السكن وتحرير العلاقة الإيجارية خلال 10 سنوات، مع زيادة الإيجار كل 3 سنوات، مع حق المستأجر البقاء لخمس سنوات أخرى حال رغبته.
كلمة سهير عبد المنعم لم تنتهِ عند القانون القديم فقط وملابساته، بل امتدت لحق السكن وطالبت بالتعامل مع الشقق باعتبارها "سلعة لها وضع خاص" مرتبطة بحقوق الإنسان والتنمية. وربطت إلغاء الإيجار القديم والإخلاء بتعديل قانون الإيجارات الحالي مشددة على عدم تركه لآليات السوق.
وقالت إن هذا القانون "يشكل همًّا للمواطن المصري"، وطالبت بوضع حدٍّ أدنى لمدة الإيجار وجعل الزيادة دورية لا سنوية، على أن يكون إنهاء العلاقة الإيجارية قبل موعدها بيد المستأجر وحده، وتحت تحت رقابة القضاء، كما أوصت بمنح المستأجر حق اللجوء للقضاء لخفض القيمة الإيجارية.
أضافت سهير عبد المنعم مستنكرة "مش ممكن تلغي الإيجار القديم وتترك القانون رقم 4 (الحالي) بحالته، الشقق سلعة من نوع خاص".
المضبطة لا تتسع لرفض التهجير
"لا للتهجير" الشعار المرفوع منذ طوفان الأقصى، تردد في اجتماع اللجنة أمس على لسان النائب عاطف المغاوري، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع، الذي رفض "تهجير المصريين من بيوتهم" لكن مضبطة الاجتماع لم تتسع له، إذ قرر رئيس لجنة الإسكان النائب محمد عطية الفيومي حذفها، ليرد المغاروي "ما تهجروش. مش عاجبهم كلامي ما تهجروش. أنا مش موافق على الحذف". غير أن القرار من سلطات رئيس الاجتماع وحده.
لم يكن رفض التهجير أو إخلاء المساكن المؤجرة المحور الوحيد الذي اعترض عليه المغاوري في مشروع الحكومة، بل قدَّم اعتراضات واضحة على البنود الخاصة بضوابط زيادات الأجرة، كاشفًا عن عدم معقولية تطبيق الزيادة التي تقترحها الحكومة بعشرين ضعف الأجرة المتعاقد عليها وزيادتها 15% سنويًا.
قال "يعني شخص تعاقد على أجرة 250 جنيه سنة 1995، تزيد 20 ضعف، وتزيد 15% يعني في العام الخامس يسدد 11 ألف جنيه يعني يسدد في خمس سنين 210 آلاف وفي الآخر يطرد".
وتضامن مغاوري مع رأي أستاذة القانون الجنائي، سهير عبد المنعم، في ضرورة تعديل قانون الإيجارات رقم 4 الذي "جعل المصريين رُحل وأفقد السكن معني السكن".
بدائل بلا خطط
بموجب المادة السابعة من مشروع الحكومة، يُمنح المستأجرون أو من امتدت إليهم عقود الإيجار، بعد انتهاء الفترة الانتقالية للإخلاء المحددة بخمس سنوات، أولوية في الحصول على وحدات سكنية وغير سكنية للتمليك أو الإيجار من الوحدات المتاحة لدى الدولة خلال شهر من تاريخ العمل بأحكام القانون الجديد، مع مراعاة الفئات الأكثر احتياجًا.
غير أن وزيرة التنمية المحلية تعاملت بمنطق "مش أنا دي أختي منى" ردًا على سؤال السجيني بشأن خطة الوزراة لتوفير البدائل للفئات الأكثر احتياجًا، فألقت بالكرة في ملعب زميلها وزير الإسكان شريف الشربيني، إلا أن النائب طارق شكري وكيل لجنة الإسكان أحرجها عندما تدخل موضحًا أن مسؤولية وزارة الإسكان تقتصر على عدد من المحافظات فقط، التي تعمل بها هيئة المجتمعات العمرانية، وسأل "ماذا عن المحافظات غير التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية"، فوعدت الوزيرة بالتنسيق مع وزارة الإسكان، ما يؤكد غياب أي خطط.
خمس ساعات من الاستماع لم تقدنا سوى إلى خلاصة واحدة؛ الحكومة والبرلمان يخوضان معركة تعديل قوانين الإيجار القديم في ظلام معلوماتي. أرقام متضاربة. دراسات غائبة. وبدائل لم تُصغ بعد، بينما ملايين المستأجرين مهددون بمصير مجهول. حكومة تقدم التشريع دون خريطة واضحة. مخاطرة بتأجيج أزمة اجتماعية لا يبدو أن أحدًا يملك حتى الآن تصورًا واقعيًا عن حجمها الحقيقي.
ما كشفته المناقشات لا يتعلق فقط بالإيجار القديم بقدر ما يعكس نمطًا أعمق للتشريع في مصر، تغيب فيه اعتبارات الواقع الاجتماعي، وتمر نصوص دون امتلاك أدوات قياس أثرها أو خطط بديلة واضحة، خصوصًا في ظل أزمة اقتصادية طاحنة.