رئاسة الجمهورية، فيسبوك
السيسي وترامب في المكتب البيضاوي. 3 أبريل 2017

توجيهات ترامب التي عليه أن يكررها

منشور الأربعاء 30 أبريل 2025

في التقرير المطول الذي نشرته مجلة The Atlantic الأمريكية الاثنين الماضي، متضمنًا مقتطفات من مقابلتين مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمناسبة مرور مائة يوم على توليه منصبه، لفت انتباهي وسط تفاصيل كثيرة تتعلق بطريقة تفكير الرجل المثير للجدل، كلام بعض مساعديه عن أنهم لا يأخذون أوامره على محمل الجد إلا عندما يكررها مرتين، وذلك لأنه كثيرًا ما يصدر توجيهاته بطريقته التلقائية الانفعالية المعروفة، ثم يعود ليتراجع عنها بعد ساعات أو أيام.

التحقيق الذي تتجاوز مدة قراءته الساعتين، وعمل عليه رئيس التحرير واثنان من كبار المحررين على مدى شهرين، مثيرٌ في الكثير من جوانبه، ويقدم نمطًا من الصحافة لا نعرفه في مصر وعالمنا العربي، حيث يصعب العثور على رئيس يردُّ مباشرةً على هاتفه، مثلما فعل ترامب مع محرري المجلة مرة واحدة على الأقل، فضلًا عن أن يبادر هو بالاتصال بأحد صحفيي المجلة بعد منتصف الليل، دون أن يتلقَّى ردًا لأن الصحفي كان نائمًا.

كما أن اختيار The Atlantic تحديدًا لإجراء المقابلة، من بين مئات وسائل الإعلام التي طلبت مقابلة أهم رجل في العالم طوال الأيام المائة الماضية، كان نوعًا من التحديات التي يهواها الرئيس الأمريكي، في ضوء أنها المجلة التي كان رئيس تحريرها طرفًا في فضيحة محادثة سيجنال التي أحرجت الإدارة الجديدة؛ عندما وجد نفسه في جروب على التطبيق، يضم مجموعةً صغيرةً من كبار مسؤولي الإدارة بينهم نائب الرئيس ووزير الدفاع، تناقش خطط الحرب ضد الحوثيين، في تجاوز صارخ لمعايير السرية التي تفرضها القوانين الأمريكية، وقد أضافه إليها مستشار الأمن القومي مايك والتز بالخطأ.

في حينه؛ هاجم ترامب المجلة ورئيس تحريرها وكبار محرريها بالاسم واتهمهم بأنهم يساريون راديكاليون يديرون مجلة خاسرة لا يقرؤها أحد. ولكنه أثناء المقابلة هنَّأ، بطريقة المصارعين، طاقم التحرير على ما حققوه من إنجاز مكَّنهم من "توجيه ضربة" منحتهم الرواج والهيمنة على عناوين الأخبار لأيام. كما وعد محرريها بأنه قد يفكر في إعادة تجربة الحوار معهم، لو كتبوا تقارير جيدة عن إدارته وما تقوم به من إنجازات من وجهة نظره.

أثمان واجبة

صورة لإحدى الطائرات الأمريكية التي نفذت ضربات ضد الحوثيين في اليمن، 3 فبراير 2024

ولكن ما استرعى انتباهي حقًا؛ كان حديث مساعدي ترامب عن عدم تنفيذ أوامره من المرة الأولى، الذي توافق مع ما ترسّب لديَّ من انطباعات وأنا أتابع الكثير من قرارات ترامب المتعجّلة خصوصًا تلك التي تراجع عنها لاحقًا؛ مثل التعريفات الجمركية وخطة تحويل قطاع غزة إلى مشروع عقاري بعد تهجير سكانه، فضلًا عن جهوده الفاشلة حتى الآن لوقف الحرب في أوكرانيا.

لذلك؛ فعندما قرأت ما كتبه ترامب على منصة تروث سوشيال عن مرور السفن الأمريكية عبر قناتي بنما والسويس مجانًا، تقديرًا للدور الأمريكي في حماية هذين الممرين، زاعمًا؛ في فرضية مذهلة، أن هذين الممرين ما كان لهما التواجد دون بلاده، تمنيت أن يكون هذا الخطاب من ضمن هذيانه الذي لا يُنفَّذ من المرَّة الأولى.

ولكن للأسف لا يبدو الأمر كذلك، فبالعودة إلى محادثة سيجنال المُسرَّبة في The Atlantic، نجد جي دي فانس، نائب ترامب، يُعبِّر عن سخطه لانفراد الولايات المتحدة بضرب الحوثيين لحماية الملاحة في البحر الأحمر، خدمة لأوروبا ومصر، لذا فعليهما دفع أثمانِ في المقابل.

وبالتالي يعكس حديث ترامب عن المرور المجاني من قناة السويس، طريقة تفكير إدارته وما يدور داخلها من نقاشات بين كبار المسؤولين فيها، وفق قاعدة "لا خدمات مجانية" حتى مع الحلفاء، التي نجده يطّبقها على الأوروبيين تحديدًا، وهو يعبِّر عن شعوره بـ"الغثيان" لاستمرار دعمهم بخدمات بلاده المجانية طوال عقود.

لذا، فإن كانت الولايات المتحدة ستعيد الحركة في قناة السويس إلى معدلاتها الطبيعية، وتنهي الخسائر الفادحة التي لحقت بالاقتصاد المصري نتيجة فقدان نحو 60% من دخل القناة، فإن المقابل يجب أن يكون السماح بمرور السفن الأمريكية عبر قناة السويس مجانًا.

مقترح الرئيس الأمريكي يعكس تفكير قطاع من الساسة الجمهوريين والمحافظين الذين يعتقدون منذ سنوات طويلة أن على مصر، في مقابل المعونة العسكرية السنوية الأمريكية منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، أن تقدِّم خدمات للولايات المتحدة.

إنه يكررها

كثيرًا ما أخبرت أمثال هؤلاء الساسة الأمريكيين عندما كنت مراسلًا صحفيًا في واشنطن، أن مصر تلعب دورًا حاسمًا في دفع المنطقة العربية نحو مسار السلام والاعتراف بدولة إسرائيل، وأن هذه المعونة جزء من توازنات ما بعد اتفاق السلام، التي تتلقى إسرائيل بمقتضاها ثلاثة أضعاف ما تتلقاه مصر، ليأتي ردَّهم أن مصر تلقَّت بالفعل عشرات المليارات من الدولارات مقابل دورها المتعلق بعملية السلام على مدى عقود، لذا فعليها الآن فعل المزيد.

كما كانوا يشيرون أيضًا إلى تراجع التأثير الذي كانت تتمتع به في أواخر السبعينيات، لدرجة أصبحت بلادهم معها قادرة على تحقيق أهدافها بضمان أمن إسرائيل دون حاجة إلى الدور المصري، وذلك عبر التعاون مع الدول الخليجية النفطية الثرية، والتي تبدو أكثر نفوذًا وتأثيرًا في العقد الأخير.

بمعنى آخر، فإن الزمن بالنسبة لإدارة ترامب وأنصاره من الجمهوريين الشعبويين تجاوَز مرحلة تقديم المساعدات لمصر مقابل التزامها بمعاهدة السلام، بل عليها تقديم المزيد. ومن هنا، يمكننا ليس فقط أن نفهم مطالبته بالعبور المجاني من قناة السويس، بل أيضًا صَلَفه وهو يؤكد أن مصر والأردن سيقبلان في النهاية خطته لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء رغم رفضهما الحاسم لها، لأنهما "يتلقيان الكثير من الأموال".

ينفذ مساعدو ترامب أوامره عندما يكررها، وفيما يتعلق بمصر، فقد كررها بالفعل غير مرة في العلن، وبالتأكيد في جلسات المحادثات المغلقة. لذا علينا أن نتوقع تواصل الضغوط على القاهرة خلال ما بقي من سنوات رئاسته، للحصول على تنازلات بشأن مستقبل قطاع غزة والتسوية الدائمة هناك، وكذلك فيما يتعلق بالعبور المجاني من قناة السويس.

أما الإدارة المصرية، فعليها في ظل حالة الاستثناء الترامبية هذه أن تفكر بنفس طريقته في اقتراح الصفقات التي تعود بالفوائد المتبادلة، بدلًا من الاكتفاء بتذكيره بدور مصر التاريخي ومتانة العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين. فمثل هذا الخطاب لا يقنع ملك الصفقات وأنصاره من اليمين الشعبوي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.