حساب دونالد ترامب على فيسبوك
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال اجتماع بالبيت الأبيض، 27 فبراير 2025

السندات التي أجبرت ترامب على التراجع عن "رسومه"

منشور الأربعاء 16 أبريل 2025

الأسبوع الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته الخزعبلية بشن حرب تجارية متزامنة على العالم كله تقريبًا فيما عدَّه عيدًا للاستقلال من الزاوية الاقتصادية.

لم يردع ترامب انهيار أسواق الأوراق المالية في الولايات المتحدة، وبالتبعية في أوروبا وآسيا، ولا المخاوف من ارتفاع معدلات التضخم ومخاطر الركود للاقتصاد الأمريكي وربما العالمي، إذ اعتبر الرئيس الأمريكي وفريقه الاقتصادي، وأغلبه من غير الاقتصاديين، أن هذا هو الثمن لإجراء التغييرات العميقة المطلوبة لإعادة الصناعة إلى الولايات المتحدة على النحو الذي سيجعل الولايات المتحدة عظيمة مرة أخرى، مصداقًا للشعار الذي رفعته حملة ترامب الانتخابية.

لكن بعد الكثير من العناد المبدئي وبشكل مفاجئ تراجع ترامب عن غالب تعريفاته الجمركية بعد أقل من أسبوع من إطلاقها عن طريق الإعلان عن تعليقها أو تجميدها لمدة تسعين يومًا، باستثناء الصين طبعًا. ومنذ هذا الحين تواترت تقارير عن تطورات مقلقة في سوق السندات الأمريكية هي ما أثارت مخاوف فريق ترامب على النحو الذي أجبره على التراجع، ولو مؤقتًا، عن خططه بفرض تعريفات على طوب الأرض.

أسواق المال الأمريكية ضد الرئيس

تعبِّر مؤشرات أسواق المال عن نظرة المستثمرين لقيم الأصول المالية المتداولة. والأصول المالية تمامًا كالأصول الثابتة مثل المنازل أو قطع الأراضي؛ مخازن للقيمة عبر الزمن. ولنقرِّب الفكرة من حياتنا العادية؛ يمكن أن نضرب مثلًا بودائعنا البنكية التي نحصل بفضل قيمتها على فائدة مقابل ادخارها في البنوك.

لكن أسواق المال تشمل إلى جانب الودائع أشكالًا أخرى أوسع نطاقًا من الأصول المالية، يمكن تقسيمها لنوعين رئيسيين؛ الأسهم التي تمثل حصص ملكية في شركات مساهمة، وأدوات الدين المُعبِّرة عن التزام طرف ما بسداد دين لصالح طرف آخر، عن طريق إصدار سند أو إذن خزانة.

اهتزاز سوق السندات قبل تجميد ترامب لرسومه، كان بروفة للأزمة التي ستقع مع التمادي في نشر القلق

وفي السياق الأمريكي، تُعدُّ الحكومة الفيدرالية من أكبر مصدّري السندات كونها تحوز دينًا عامًا بالغ الضخامة يقدر بنحو 36 تريليون دولار، أي 124% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في 2024. وهذه السندات الحكومية لطالما اعتبرت من أكثر الأصول المالية أمانًا، لأن المدين هنا هو الحكومة الفيدرالية لأكبر اقتصاد في العالم، الحكومة التي تُصدِر عملة الاقتصاد العالمي الأولى؛ الدولار.

في أوقات الأزمات، عادة ما يبيع أصحاب الأسهم أصولهم قبل أن تهوي أسعارها بسبب القلق من المستقبل، وفي كثير من الأحيان يهربون بأموالهم لأسواق السندات، التي ربما توفر عائدًا أقل لكنها حتمًا كانت أكثر أمانًا في أزمنة الاضطراب.

لكن في أزمة "يوم التحرير" كان الأمر مختلفًا؛ فلم يتواكب مع الهبوط الجماعي لأسواق المال الأمريكية، تدفق مالي نحو أسواق السندات، بل على العكس بدأ خروج موازٍ للاستثمارات، ولو على نطاق ضيق، من أسواق السندات، وهو أمر نادر الحدوث.

لم يكن الخروج من سوق السندات أمرًا متوقعًا قط، لذا اِعتُبر انعكاسًا لضَعف الثقة في أسواق المال الأمريكية، والمقومة بالدولار، خاصة وأنه في خضم ذات الأزمة التي افتعلتها إدارة ترامب مع العالم بأسره، انخفضت قيمة الدولار الأمريكي في مواجهة اليورو والفرنك السويسري، وبدا أن عددًا من المستثمرين يخرجون من استخدام الدولار لصالح الاستثمار في أصول مالية مقومة بعملات أخرى.

هل يعني ذلك تراجع مكانة الدولار ؟

لم تشهد سوق السندات الأمريكية انهيارًا بعد إعلان "يوم التحرير"، ولكن مجرد تراجع في قيم هذه السندات. لا يعني ذلك أننا أمام أزمة بسيطة، ولكن ما حال دون انهيار هذه السوق هو عدم وجود بدائل جاهزة للدولار الأمريكي على نطاق واسع، إذ أن أسواق المال المقومة باليورو أو الفرنك أو الين أو الجنيه الإسترليني لا تتمتع بذات العمق والسيولة التي تتمتع بها الأسواق الدولارية.

لكن انتقال القلق من سياسات إدارة ترامب بهذه السرعة  إلى أسواق السندات، التي عادة ما تتسم بالأمان والاستقرار، حدث بسرعة كبيرة على النحو الذي قد يخبرنا، ويخبر إدارة ترامب، أن العقبة الكبرى التي أمست تواجه خططه من داخل الاقتصاد الأمريكي، ستكون الاقتصاد المالي.

لا عجب في ذلك، فالرئيس الأمريكي يسعى لتطبيق سياساته في اقتصاد تغيرت هويته خلال العقود الأخيرة وصارت الأنشطة المالية تهيمن عليه بقوة، أو ما يعرف بعملية  الأَمْوَلة/financialization، وهو مصطلح فني يتناول الزيادة الكبيرة في الوزن النسبي للخدمات المالية في الاقتصاد من ناحية، وكذلك نصيب العائدات على الاستثمارات المالية في أرباح الشركات من ناحية أخرى.

وأفضل مؤشر للتعبير عن حالة الأَمْوَلة التي تعيشها الولايات المتحدة في الوقت الراهن، هو التضخم الكبير في المديونيات سواء العامة أو الخاصة، وقد قُدِّرت بأكثر من 720% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024.

تدارُك الحريق قبل انتشاره 

ضخامة تلك المديونيات تجعل "ترامب" مقيَّدًا إلى حدٍ كبير في تحقيق طموحاته، فعندما يتصاعد القلق من سياساته للدرجة التي تدعو مستثمري السندات للانسحاب من هذه السوق، تصبح هناك أزمة مالية تلوح في الأفق، تتمثل ببساطة في عجز الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها المالية الضخمة.

اهتزاز سوق السندات الأمريكية خلال الأيام الماضية، قبل أن يُعلِن ترامب عن تجميد الرسوم لمدة تسعين يومًا، كان بمثابة بروفة لحجم الأزمة المالية التي يمكن أن تقع مع التمادي في نشر المخاوف من المستقبل، في حالة تفشي القلق في سوق السندات الأمريكية ما سيتسبب في انهيار قيمة الأصول المالية المقوَّمة بالدولار داخل وخارج الولايات المتحدة، أي 65% من الديون العالمية في 2022.

يمكن القول إن الأسبوع الماضي لم يكشف فحسب عن قدْر اضطراب وانحدار مستوى الإدارة الأمريكية الجديدة، وكذلك عن عدم قدرة النظام السياسي الأوسع على ضبط سلوكها، إنما ربما يكون قد أظهر أوجه ضعف لم يُعتقد أن تكون بهذه الهشاشة، وفي القلب من هذا اهتزاز الثقة في الدولار الأمريكي، فهل يتعقل ترامب أم يسرِّع من تفكك دور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، عوضًا عن أن يجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى؟