
الصحفي الفريلانسر.. البحث عن جزرة في حقل ألغام
"حاسس إني صحفي درجة خامسة، لا تانية ولا تالتة حتى. بضطر أحيانًا اشتغل باسم مستعار لأن معنديش مؤسسة تحميني، بخاف من المساءلة القانونية وماليش حماية نقابية، وساعتها مبفرحش بشغلي"، يقول محمد عادل الصحفي الشاب المتخصص في الاقتصاد.
عادل الذي تخرج في إحدى كليات الإعلام عام 2020، ينشر إنتاجه بالقطعة في عدد من الإصدرات الصحفية المصرية والدولية. وعندما يقع على قصة قوية يلجأ إلى الاسم المستعار عند تغطية موضوعات يعتبرها شديدة الحساسية، مثل ملفات الفساد أو السياسات الاقتصادية المثيرة للجدل.
وفق قانون نقابة الصحفيين، يُعد من يمارس الصحافة دون أن يكون عضوًا في نقابة الصحفيين "منتحلًا لصفة صحفي" ويحق للأمن توقيفه، ويعاقب وفقًا للمادة 115 بالسجن لمدة عام وغرامة لا تتجاوز 300 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وبسبب الشروط شديدة التعقيد للانضمام للنقابة، يلاقي عادل ومئات غيره من الصحفيين صعوبةً بالغةً في الالتحاق بها، ومن ثَم تغيير مهنته في بطاقة الهوية إلى صحفي، والتمتع بالحماية القانونية والنقابية، "أنا خريج قسم صحافة من كلية إعلام وعندي 6 سنين خبرة عملية، لكن قانون النقابة السبعيناتي بيشترط أني أشتغل في صحيفة ورقية عشان أنضم للنقابة".
تتضاعف مخاوفه بسبب طبيعة القصص التي ينتجها، وغالبيتها يتعلق بتقصي الفساد أو الملفات الشائكة التي تتعمد بعض المؤسسات الرسمية حجب تفاصيلها عن الرأي العام. ورغم التزامه بالمعايير المهنية أثناء إعداده للتحقيقات من خلال الاستناد إلى مصادر موثوقة والاستعانة بالإحصاءات الرسمية فإن خوفه من الملاحقة الأمنية يلازمه.
مخاوف عادل يدعمها تقرير حرية الصحافة الصادر من منظمة مراسلون بلا حدود لعام 2024، الذي اعتبر مصر "من أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحفيين، حيث أضحت البلاد بعيدة كل البعد عن آمال الحرية التي حملتها ثورة 2011".
كما تراجع ترتيب مصر في مؤشر حرية الصحافة الذي تصدره المنظمة سنويًا من المركز 166 عام 2023 إلى المركز 170 في 2024، وذلك لأن وسائل الإعلام المصرية "تقريبًا تعمل تحت الأوامر، حيث تخضع للسيطرة المباشرة إما من الحكومة أو المخابرات أو من بعض رجال الأعمال النافذين، الذين يستثمرون في الإعلام خدمة لمصالح دوائر السلطة، وفي المقابل، تُحظر وسائل الإعلام التي ترفض الخضوع لسياسة الرقابة"، وفقًا للمنظمة.
تُظهر بيانات مؤشر حرية الصحافة تراجعًا حادًا في وضع مصر، حيث انخفض تصنيفها 12 مركزًا مع انتقالها من فئة الدول "الصعبة" إلى فئة "الأشد خطورة على الصحفيين" عام 2015، ليستمر التراجع حتى عام 2024 الذي سجّل أسوأ ترتيب لمصر خلال العقد الأخير، في انعكاس واضح للتدهور العام في أوضاع حرية الصحافة.
خطر التغطية الميدانية
سارة الحارث أفضل حالًا من محمد عادل، فهي صحفية نقابية وسبق لها العمل في صحيفة يمكن تصنيفها على أنها "موالية للنظام"، وتحمل كارنيهًا قديمًا يحمل اسم تلك الصحيفة، وهو ما أنقذها في مواجات مع رجال الشرطة في أكثر من مناسبة بعدما أصبحت فريلانسر.
" كل ما حد من الأمن يوقفني، أول سؤال بيكون 'شغالة فين؟' ولما بطلع الكارنيه بتتغير المعاملة، الكارنيه ده هو اللي بيحميني مع إني مبقتش أشتغل هناك".
مع ذلك لا تنجو سارة دائمًا. ذات مرة أثناء عملها على تحقيق عن اللاجئين السودانيين، استوقفها رجال شرطة في محيط مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة "حذفوا الصور والفيديوهات ووقفوني شوية وبعدين سابوني".
يزداد الوضع صعوبة في ظل قانون 180 لسنة 2018 لتنظيم الصحافة والإعلام، فحسب مادة 12 "للصحفي الحق في التصوير بالأماكن العامة.. بعد الحصول على التصاريح اللازمة"، وبالتالي فهو مشروط بثقب أسود.
لاقت تلك المادة انتقادات كثيرة لأنها تفرغ الحق من مضمونه عبر صياغة مطاطة تؤدي إلى تنفيذ انتقائي، كما أنها بدلا من أن تحمي الصحفي تجعل من الكاميرا مصدر تهديد، وتطلق يد الشرطة في تعطيل التغطيات الميدانية، فالجهات الأمنية نادرًا ما تمنح هذه التصاريح، وغالبًا ترفضها شفاهة دون ذكر أسباب.
إن كان هذا حال العاملين في مؤسسات، يمكننا تخيل حال الفريلانسرز من غير أعضاء النقابة. أولئك لا يجوز لهم طلب تصريح من الأساس لأنهم منتحلو صفة في نظر القانون. وبالتالي يختارون إما المخاطرة بالتصوير وتعريض أنفسهم للمساءلة القانونية، أو الاستعانة بصور متداولة من السوشيال ميديا -ولهذا أثره على مصداقية وأصالة المنتَج الصحفي. الخيار الثالث هو الإحجام عن تناول القصص التي لا يمكن سردها دون صورة حقيقية من الشارع، وذلك وفقًا لـ50 صحفيًا فريلانس استطلعت المنصة آراءهم عبر استبيان إلكتروني.
وفق النتائج، يضطر 54% من العينة للتصوير بدون تصريح، بينما يستعين 26% بصور أرشيفية، ويتراجع عن تنفيذ الموضوع برمته 10% إيثارًا للسلامة.
تزامنًا مع هذا التضييق يتصاعد القلق من حبس الصحفيين. وسبق وقال نقيب الصحفيين خالد البلشي، خلال اجتماع لجنة الحريات بالنقابة مع أسر المحبوسين في نهاية فبراير/شباط الماضي، إن "هذا العدد من الصحفيين المحبوسين احتياطيًا يظل الجرح الكبير للنقابة"، مشيرًا إلى وجود 24 صحفيًا محبوسًا احتياطيًا حتى الآن، بينهم 15 كان يجب الإفراج عنهم بنهاية مدة الحبس وفقًا لقانون الإجراءات الجنائية.
مصادر متشككة ومرتابة
يسرد محمد عادل تفاصيل يومية تحوّلت إلى معارك صغيرة يخوضها فقط ليتمكن من أداء وظيفته، فمجرد الحصول على تصريح من مصدر رسمي يتحول إلى مناورة شاقة في ظل منع المسؤولين من التحدث للإعلام إلا من خلال المتحدث الرسمي لكل وزارة أو جهة حكومية، "المسؤولين مش بيرضوا يتكلموا، وبيطلبوا إن المتحدث الإعلامي للوزارة يراجع كل كلمة قالوها قبل النشر وده مستحيل لأنه أصلًا بيرفض يتكلم معانا".
يستعرض عادل الأسئلة المحفوظة التي توجهها له المصادر "إنت تبع مين؟ الموقع ده تبع إيه؟ مش إخوان؟". يضحك ضحكة قصيرة ساخرة ثم يقول "حتى لو باسأل على حاجة زي ميزانية تطوير سوق شعبي، بيخافوا ويرتبكوا".
ولكنه يغالب هاجس آخر يراوده في القصص الحساسة التي ينشرها باسم مستعار "بخاف المصدر يرشد عني الأمن، لو الأمن اتصل بالمصدر وسأله عن الصحفي اللي كلمه". يدرك أنه أمر غير معتاد "لكن كل حاجة واردة في مصر".
ووفقًا للاستطلاع الذي أجرته المنصة، فإن التهديد الأمني لا يتجزأ من واقع العمل الصحفي للفريلانسرز؛ إذ أفاد 20 صحفيًا من بين الـعينة المكونة من 50 بشعورهم بـ"تهديد مرتفع" خلال أدائهم المهني، فيما قال 15 إنهم يواجهون تهديدًا "متوسطًا"، و12 قالوا إن التهديد "بسيط"، بينما أفاد 3 فقط بأنهم لا يشعرون بأي تهديد، ما يعكس مناخًا ضاغطًا.
من أجل أن يتخطى عادل خوفه يضطر لتغيير نهجه في العمل "بقيت أشتغل على القصص اللي ممكن أعتمد فيها على مصادر مفتوحة من غير ما أحتاج أكلم بشر. ده بيقلل المخاطر، بس في نفس الوقت بيخلي القصص ناقصة، أحيانًا فيها ثغرات أو مش قوية كفاية".
تأخير النشر والمستحقات
لا تقتصر المتاعب اليومية التي تواجه الفريلانسرز على التهديدات الأمنية، أو رفض التعامل معهم من قبل المصادر، أو التغطية الميدانية، إذ يتقاطع عادل وسارة مع شكوى مألوفة للعاملين بالقطعة، وهي تأخر نشر المواد التي ينتجونها، بالتالي تأخر المقابل المادي، "باختار الأماكن اللي مش بتتأخر أكتر من أسبوعين، وده بقى معيار مهم في شغلي"، يضطر عادل لذلك، أما سارة فلا تملك رفاهية الاختيار في ظل رعايتها لابنها.
يصف عادل انتظار نشر ما ينتجه من تقارير وتحقيقات في المواقع المستقلة بـ"الحالة المزمنة" التي تُفرّغ العمل الصحفي من بهجته "أحيانًا الموضوع بينزل بعد ما يفقد قيمته الزمنية، بس ما عنديش بديل".
رغم المتاعب، يتمسك بالعمل الحر، فمنذ كان طالبًا في كلية الإعلام حاول دخول المؤسسات الصحفية التقليدية، لكنه وجد أبوابها مغلقة "حتى لو على فرصة تدريب"، فاضطر، كما يقول، إلى "الدخول من البوابة الخلفية" عبر التعاون مع المواقع المستقلة.
مع الوقت، أصبح العمل الحر خياره الأول رغم عروض التوظيف التي بدأ يتلقاها من إصدرات محلية، لكنه يراها غير مجدية "المقابل المادي ضعيف جدًا، وطبيعة الشغل فيها مش هتساعدني أطور نفسي".
بعين ناقدة، يرى عادل أن المؤسسات المصرية تحوّل الصحفيين إلى "آلات إنتاج" مشغولةً بعدّ المشاهدات وعدد الأخبار بدلًا من جودة العمل "هلاقي نفسي زي كتير من زمايلي تحت ضغط التارجت".
بدوره يبدي صحفي التحقيقات لؤي هشام تبرمه من بطء إجراءات النشر في كثير من المواقع المستقلة فـ"عملية اقتراح الفكرة ثم الرد عليها وبعدين الشغل ثم التحرير والمراجعة والنشر، بتاخد وقت طويل جدًا، وده بيقتل الفكرة.. الرد بيتأخر، فالقصة بتتحرق".
هذا التأخير لا يعني فقط خسارة اللحظة الصحفية، بل يُجبر الفريلانسر على تضييق مساحة الأفكار التي يمكنه العمل عليها "باستبعد أفكار كتير عشان الوقت، وببقى محصور في مواضيع ملهاش عامل زمني".
يدعم استطلاع المنصة ما يقوله لؤي، إذ ذكر 45 مشاركًا، أي 90% من العينة، أن قصصهم تأخر نشرها لأكثر من شهر على الأقل مرة واحدة، وهو ما يعني بحكم الواقع تأخيرًا موازيًا في الحصول على المقابل المالي، وربما تهديدًا مباشرًا لاستمراريتهم.
بدورها تصف سارة سوق العمل للفريلانسرز بأنه "ضيّق بفرص محدودة"، فعدد الإصدارات المصرية والعربية والدولية التي تستقبل موضوعات من فريلانسرز لا يتجاوز أصابع اليد، "ولكل واحدة عيب خاص بها".
تقول سارة أن إحدى تلك المؤسسات لا ترسل المقابل المادي إلا بعد نشر 6 موضوعات على الأقل، بينما تتأخر مؤسسة أخرى على نحو منهك "بيردوا بعد أسبوعين من إرسال الموضوع، ولو وافقوا، تبدأ رحلة التعديلات، وبعدها تنتظر المراجعة والنشر اللي بيأخد أكتر من شهر، وبعدها كمان تنتظر مستحقاتك، اللي بتتراوح في النهاية ما بين 2500 لـ5000 جنيه، ودي كمان ممكن تتأخر شهر تاني".
تضحك قبل أن تضيف "يعني الموضوع الواحد ممكن يقعد معايا 3 شهور على ما أستلم فلوسه، بس مع ذلك ده أفضل وضع أقدر أوفّق فيه بين شغلي ورعاية ابني اللي في الحضانة وبيحتاجني جنبه".
الحال ليس أفضل في المؤسسة الألمانية التي تعامل معها لؤي هشام، "المقابل بيكون ضعيف جدًا، مش متناسب مع الجهد المبذول.. المؤسسات بتراهن على ضَعف الجنيه مقابل الدولار أو اليورو، لكن المبلغ في النهاية ما بيغطيش زيادة التضخم والغلاء".
يوضح لؤي أن هذا الوضع الاقتصادي الهش ينعكس في غياب شبكات الأمان "مفيش تأمين اجتماعي أو صحي، ولو مرضت وما قدرتش أشتغل خلاص مصدر رزقي انقطع، ومفيش جهة تحميني".
ويتفق عادل مع لؤي "مفيش مظلة تحميني اجتماعيًا أو تضمن لي استقرار وظيفي. ممكن في لحظة تلاقي نفسك بره اللعبة، لا قادر تواكب التطور التكنولوجي، ولا تجاري سرعة الأحداث"، مشيرًا إلى أن المهنة باتت تنهك العاملين فيها نفسيًا قبل أي شيء آخر.
كثيرًا ما اختبر محمد عادل شعور التهميش من قبل جميع الأطراف، "وأنا بكلمك دلوقتي، بفكر إن المواقع بتشوفني مجرد صحفي متعاون، يستخدموه وقت ما يحتاجوه، ويستغنوا عنه بمنتهى السهولة. وأسرتي شايفاني مجرد واحد شغال من البيت أونلاين، والدولة شايفاني منتحل صفة، والنقابة لو اعترفت بيا هتقول عليا صحفي إلكتروني".
"خايف أصحى في يوم ألاقيني مجرد شبح، أنا شفت بعيني صحفيين بارعين انهاروا تحت ضغط الزمن، المهنة قهرتهم وسرقت منهم سنين عمرهم من غير ما تديهم لا أمان ولا تقدير".