Warner Bros.
روبرت دي نيرو وروبرت دي نيرو في لقطة من The Alto Knights (2025)

الإجرام الأمريكي كما يراه دي نيرو!

منشور السبت 19 أبريل 2025

تُعلِّمُنا السينما أشياء كثيرة لا تخبرنا بها عادةً كتب العلوم والحكمة والتنمية البشرية.

من أين لنا، مثلًا، أن نعرف كيف تأسست أمريكا على أيدي العصابات، من محترفي الإبادة والنهب والتحايل على القانون، لولا أفلام مثل ثلاثية The Godfather لفرانسيس فورد كوبولا (1972, 1974, 1990)، وGoodfellas (1991) وCasino (1995) وGangs of New York (2002) وThe Wolf of Wall Street (2013) وKillers of the Flower Moon (2023) لمارتن سكورسيزي، أو Once Upon a Time in America (1984) لسيرجيو ليوني، وغيرها.

في فيلم الرعب الشهير The Shining (1981)، يتبين أن فندق الرعب الذي قدّمه ستانلي كوبريك مسكونًا بالأشباح، مبنيٌّ فوق مقبرة للسكان الأصليين، في استعارة جلية لأمريكا نفسها، المسكونة بالعنف والوسواس القهري بإعادة ماضيها الدموي، كما يحدث لبطل الفيلم الذي يسعى لقتل عائلته، مثلما فعل سلفه، في سلسال دم لا يتوقف.

أما أحدث أعمال المخرج باري ليفنسون، The Alto Knights (2025)، الذي لعب بطولته روبرت دي نيرو، أكثر من شارك في أفلام العصابات وأبرعهم، فهو ربطٌ "مشرقٌ" آخر لانتشار عصابات المافيا التي هيمنت على الحياة الاقتصادية والسياسية في أمريكا منذ ثلاثينيات وحتى نهاية خمسينيات القرن الماضي، بماضي أمريكا العتيد في الاجرام!

 يصب The Alto Knights لمخرجه الذي قدَّم أيضًا أفلام Rain Man (1988)، وGood Morning Vietnam (1987) وWag the Dog (1997)، في هذا التيار من الأفلام "التاريخية"، التي يمكن وصفها بـ"سفر التكوين الأمريكي"، أسوة بـ"تكوين" التوراة، التي تبين كيف تأسست الأمة الأمريكية فوق عظام الضحايا!

لكنَّ الفيلم مُني بفشل ذريع في شباك التذاكر، في ظل بعض الترهل الذي سنشير إليه لاحقًا، بالإضافة إلى مناخ سياسي عام قسَّم الولايات المتحدة إلى نصفين مُستقطبَين، تزايد العداء بين تياريه الديمقراطي والمحافظ، إلى درجة لم يسبق لها مثيل منذ عقود.

انضم الفيلم إلى إخوته من الأفلام الفاشلة، مثل Snow White (2025) وMickey 17 للكوري بونج جون هو، مخرج Parasite. وهذا الفشل في تصوري لا يعود إلى جودة الأفلام، فكم من أفلام أضعف حققت أرقامًا فلكية، كما حدث مع "باربي" مثلًا منذ عامين. غير أن شبح الانقسام امتد إلى هذه الأفلام الثلاثة.

فقد قاطع المحافظون Snow White لأن بطلته هاجمت ترامب ودافعت عن فلسطين، وقاطعه العرب ومؤيدو الفلسطينيين لأن بطلته الثانية إسرائيلية. أما Mickey 17 فيجسِّد فيه مارك روفالو شخصية سياسي ورجل أعمال فاسد يشبه دونالد ترامب! أما The Alto Knights فيقدم صورة لأمريكا قامت على الإجرام لا يرغب الكثيرون في رؤيتها الآن، كما أن دي نيرو نفسه أحد أبرز معارضي ترامب ومنتقديه!

فما الذي لا يريد مؤيدو ترامب مشاهدته؟ 

لم نجد ما ننهبه!

في أكثر من مشهد من الفيلم يدافع رجال المافيا عن أنفسهم باستدعاء هذا الماضي. حين يُلام أحدهم لعدم إتقان اللغة الإنجليزية من قبل أعضاء لجنة الكونجرس، يسخر من أن آباءهم وأجدادهم حين وصلوا إلى أمريكا من شتى بقاع الأرض لم يكن أيٌّ منهم يتحدث كلمة إنجليزية واحدة. وحين يُثار الاتهام بأنهم لصوص وخارجون عن القانون، يردُّ بأنهم جاؤوا إلى أمريكا فلم يجدوا شيئًا؛ فقد قُتِل السكان الأصليون جميعًا، ونُهبت كل الثروات، فلم يجدوا أمامهم سوى الاتجار في الخمر والمراهنات.

يثير الفيلم مفارقات ومقارنات كاشفة بين الماضي البعيد وزمن القصة، المبنية على وقائع وشخصيات حقيقية، وما يحدث الآن من محاولات المجرمين الراسخين منع المهاجرين الجدد من دخول أمريكا، خوفًا من أن يتحولوا إلى مجرمين!

يروي الفيلم أيضًا حكاية شديدة الطرافة، عن صدفة عمياء تسببت بها خصومة بين رفيقي "كفاح" من زعماء المافيا الإيطالية، كانا رفيقي حي واحد، أدت إلى الإيقاع بكل زعماء المافيا المنتشرين في كافة الولايات عن طريق الصدفة العمياء. وكيف أن ما شاهدناه في أعمال أخرى مثل The Untouchables للمخرج برايان دي بالما، عن بطولات المباحث الفيدرالية ورئيسها الأول إدجار هوفر، كانت محض مبالغات وادعاءات.

خصومة شخصية أسقطت المافيا

الخصمان، اللذان يؤدي دورهما روبرت دي نيرو، في اختيار غريب بعض الشيء، وكأن آل باتشينو وغيره من كبار الممثلين سنًا وموهبة غير موجودين، هما فرانك كوستيللو، راوي الحكاية معتمدًا على ذكرياته، وفيتو جينوفيزي.

صعد الرجلان إلى قمة عالم الجريمة من خلال تجارتهما المُجرَّمة في الخمر خلال فترة حظرها في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ خلق الحظر سوقًا سريةً أثرت كثيرًا من المهربين والتجار، أو كما يقول كوستيللو أيضًا: لم يكن أحد مقتنعًا بمنع الخمور، السياسيون ورجال القانون والجميع كانوا يشربون!

بعد قتل شخصين، يهرب جينوفيزي، العصبي والعنيف والسيكوباتي، إلى إيطاليا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ويعهد بكل شيء لرفيقه كوستيللو، الأكثر قناعة واستقامة نسبيًا؛ كونه يدير ملاهي وبيوت قمار ويتهرب من الضرائب ويرشو السياسيين ورجال الشرطة لكنه يرفض العنف والاتجار في المخدرات. وعندما يعود وينال حكم براءة بطريق الفساد، يطالب كوستيللو بإعادة كل شيء إليه.

يفكر كوستيللو في التقاعد وقضاء شيخوخته مع زوجته اليهودية العاقلة التي قضى معها 38 عامًا، ولكن حماقة جينوفيزي وتسرعه يدفعانه إلى تدبير محاولة قتل لصديقه القديم، ما يُعقِّد الأمور ويدفع نحو حدث غير متوقع، إذ يطلب كوستيللو أن يعلن اعتزاله رسميًا في اجتماع عام يحضره زعماء الجريمة المنظمة في ربوع البلاد، ما يؤدي إلى انهيار كل شيء.

خلفية سوداء!

وراء هذه القصة الشخصية، يرسم الفيلم ملامح خلفية عامة يلعب فيها السياسيون وأعضاء الكونجرس والحكم المحلي، ورجال الشرطة، ورجال القانون، لمصالحهم الخاصة، حيث يدار كل شيء من تحت الطاولة، عن طريق الرشاوى والعلاقات وشبكات المصالح.

وفي هذا النوع من الأفلام، كثيرًا ما نجد شخصية الشرطي الطيب الذي ينجح في التغلب على العصابة، ولكن لا شيء من هذا هنا. فرجال الشرطة الذين يقبضون على العصابات بالجملة لم يكونوا في النهاية إلا مجموعة من الحمقى لا يعرفون ماذا يفعلون. وكل ما حدث أنهم وجدوا أُناسًا مذعورين من رؤيتهم، فأوقفوهم، ولاحقًا كشفت التحقيقات عن العلاقة بينهم، وهي العلاقة التي كان ينكرها المسؤولون ورجال المباحث الفيدرالية.

لكن هذا السيناريو الجيد والمحكم ضاعت معالمه في إخراج مترهل الإيقاع في بعض المناطق، مع التشويش الذي حدث بسبب انتقال دي نيرو بين الشخصيتين، بمكياج زائد للتفرقة بينهما. وحتى شخصيات الفيلم الأخرى المكتوبة والمُجسدة جيدًا، مثل زوجتي البطلين ومساعديهم، بدت باهتة وغير فاعلة نتيجة وجود دي نيرو بمكياجه الغريب في كل مشهد تقريبًا، وأحيانًا مرتين!