
التكنولوجيا لا تحمي المغفلين.. فضيحة الجروب السري للغاية
في الرابع والعشرين من مارس/آذار الماضي، نشرت صحيفة The Atlantic سلسلة مقالات كشف فيه رئيس تحريرها جيفري جولدبرج عن مجموعة من الرسائل النصية المتبادلة في مجموعة دردشة على تطبيق سيجنال، بعدما انضم الكاتب إليها عن طريق الخطأ، ليجد نفسه وسط قيادات أمنية وسياسية بارزة في الإدارة الأمريكية. ودارت في هذه المجموعة مناقشاتٌ تفصيليةٌ حول خطط قصف اليمن، قبل تنفيذ العملية بأيام.
في تفاصيل التسريبات، تحدَّث وزير الدفاع الأمريكي إلى أعضاء مجموعة الدردشة كاشفًا معلوماتٍ دقيقةً بشأن الخطة العسكرية، من بينها نوعية الأسلحة المستخدمة، وتوقيت الهجوم، إلى جانب ذكره أسماء شخصيات بعينها، امتنع الصحفي عن نشرها حفاظًا على حياة العملاء السريين الذين جرى الكشف عن هوياتهم.
عقب النشر، اجتاحتْ السخرية السوشيال ميديا؛ أحد المعلقين شبّه ما جرى بالاجتماع الذي بُث على الهواء مباشرة لمناقشة أزمة سد النهضة، بين الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي وعدد من الشخصيات العامة المصرية. ورغم الطابع الفكاهي لهذا التشبيه، فإن القاسم المشترك بين الحادثتين لا يكمن في التفاصيل، بل في السبب الجوهري ذاته: تجاوز البروتوكولات الرسمية لتأمين قنوات التواصل بين مؤسسات الدولة، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة.
الهوس بالكفاءة
قد يكون مناسبًا أن نفهم كيف تقع مثل هذه الحوادث في سياق أوسع. إذ أدى الاستخدام غير المدروس لتطبيق مصمم في الأصل للتواصل الآمن بين الأفراد إلى كشف خطط عسكرية بالغة السرية. وهو ما يُظهر لنا كيف يمكن أن يؤدي السعي المحموم للكفاءة والسرعة، والرغبة في تجاوز الإجراءات البيروقراطية، إلى نتائج كارثية.
يمكن تفسير ما حدث بالميل المتزايد لدى الأفراد إلى الاعتماد المفرط على الحلول التقنية السريعة لتبسيط العمليات المعقدة، حتى في أكثر الملفات حساسيةً مثل الاتصالات بين مسؤولين أمنيين وعسكريين رفيعي المستوى. فغالبًا ما يُنظر إلى التقنيات الحديثة على أنها حلول سحرية لجميع مشكلاتنا القديمة، دون التوقف عند التفاصيل التي تحيط بهذه الابتكارات.
تجاهل البروتوكولات المنظمة بحجة تحقيق إنجاز أسرع يفتح الباب أمام عواقب وخيمة قد لا يكون بالإمكان السيطرة عليها
يسارع أشخاص إلى تجربة التقنيات الجديدة، وهؤلاء من يُطلق عليهم "المستخدمون الأوائل" أو "فئران التجارب" حسب ما يسميهم العاملون في صناعة التكنولوجيا بشكل غير رسمي، وذلك لأنهم يستخدمون المنتجات الجديدة في مراحلها الأولى، ويساعدون الشركات المصنعة في اكتشاف العيوب والأخطاء التي لم تظهر بعد، وعادةً ما تكون الشركات مستعدةً لتحمل بعض النقد أو السمعة السيئة إذا ساءت الأمور.
لا يرى هؤلاء المستخدمون الأوائل ضررًا بالغًا في حال لم تكن التقنية الجديدة مثاليةً. على سبيل المثال، لا مانعَ من استخدام نسخة من تطبيق تحتوي على بعض الأخطاء البرمجية البسيطة، مثل بطء في الأداء أو توقف مفاجئ للتطبيق أثناء الاستخدام؛ فمثل هذه المشكلات يمكن تحملها في مقابل تجربة ميزات جديدة أو إطالة عمر البطارية أو تحسينات واعدة في التطبيق.
لا ينطبق هذا الوضع على التعامل مع القضايا الحرجة، مثل التواصل بين مؤسسات الدولة أو المعاملات المالية، لأن أبسط خطأ قد يتحول إلى كارثة حقيقية. على سبيل المثال في عام 2021 تكبدت شركة Zillow الأمريكية خسارة تقارب 300 مليون دولار بسبب خلل في خوارزمية تسعير العقارات، والتي كان يُفترض أن تُسرّع من عملية تقييم المنازل للشراء.
الأزمة حدثت بسبب اعتماد Zillow بشكل مفرط على الخوارزميات دون مرونة بشرية كافية أو تدخل يدوي مناسب لمواكبة تقلبات السوق الحادة في ذلك الوقت. واستغل بعض المستخدمين هذا الخلل لبيع منازلهم عبر التطبيق ثم إعادة شرائها بأقل من نصف السعر من الشركة نفسها.
أدى خلل تقني في خوارزمية شركة Zillow إلى خسائر فادحة ناتجة عن سرعة التطبيق دون اختبارات كافية، وهو نفس ما حدث بطريقة ما في حادثة تسريب خطط قصف اليمن، التي كشفت عن خطورة تطبيق منطق السرعة والكفاءة المفرطة على السياقات الأمنية والسياسية شديدة الحساسية.
كلا المثالين يوضح أن تجاوز التعقيد المؤسسي، وتجاهل البروتوكولات المنظمة بحجة تحقيق إنجاز أسرع، يفتح الباب أمام عواقب وخيمة قد لا يكون بالإمكان السيطرة عليها. ربما لهذا تحديدًا لا تزال البروتوكولات الصارمة عنصرًا لا غنى عنه في التعامل مع أي تقنية، مهما بدت مغريةً أو واعدةً. صحيح أن تطوير هذه البروتوكولات قد يبدو أبطأ من وتيرة الابتكار المتسارع، إلا أن هذا البطء يشكّل في الواقع صمّام أمان يحمي المؤسسات من كوارث يصعب تداركها.
التكنولوجيا لا تحمي المغفلين
ربما لا أملك معرفةً دقيقةً بالبروتوكولات الرئاسية الأمريكية الخاصة بالتواصل بين المسؤولين أو قنوات الاتصال الرسمية، لكن يمكن أن أخمّن بثقة أن هذه البروتوكولات وُضعت تحديدًا لتجنب أخطاء من هذا النوع، مثل إرسال رسالة إلى شخص غير مقصود بسبب تشابه الأسماء، خصوصًا عندما يكون المرسل صحفيًا.
سيجنال أو غيرها من الأدوات قد توفر طبقة من الأمان التقني لكنها لن تعوّض غياب التفكير الاستراتيجي أو الرشد المؤسسي
اتباع هذه البروتوكولات يميز بوضوح بين نوعين من العقليات: الأولى، عقلية المهووسين بالتكنولوجيا لمجرد الهوس بها، وهو هوس مشروع في رأيي بل قد يكون من أهم محركات الابتكار، والثانية، العقلية الاستراتيجية التي تدرك أبعاد المشكلة وتحيط بها من جميع الجوانب. لهذا السبب، يحتاج مطورو التكنولوجيا دائمًا إلى الاستماع إلى آراء من خارج دائرتهم الضيقة قبل الانطلاق في تطوير أدوات جديدة تثير حماسهم.
كثيرًا ما تُعتبر السرعة مرادفًا للكفاءة، بينما توصف البيروقراطية بأنها عقبة لا بد من تجاوزها. ويبدو أن هذا التصور كان حاضرًا في ذهن صانع القرار داخل مجموعة السياسيين الأمريكيين الذين اختاروا استخدام تطبيق سيجنال كأسرع وسيلة للتواصل. إلا أن النتيجة كانت تلك الفضيحة التي من المرجح أن تُطيح، إذا بقي لدى الإدارة الأمريكية شيء من الحكمة، على الأقل بالمسؤول الذي اتخذ هذا القرار المتهور.
احذر من الهوس والاندفاع
ليست المشكلة في وجود التكنولوجيا، بل في الطريقة التي نقرر بها استخدامها. لا توجد تقنية، مهما بلغت من تطور، قادرة على حماية صانع القرار من قراراته المتسرعة أو تهوره في تجاوز الضوابط والبروتوكولات التي وُضعت لحمايته وحماية من حوله. سيجنال أو غيره من الأدوات، قد توفِّر طبقة من الأمان التقني، لكنها لن تعوّض غياب التفكير الاستراتيجي أو الرشد المؤسسي. وعليه، فإن الفضيحة التي جرى تداولها ليست مجرد خطأ فردي أو سوء حظ عابر، بل هي تحذير صارخ من عواقب التعامل مع التكنولوجيا بروح الهوس والاندفاع، من دون فهم كافٍ لمخاطرها البنيوية.
وربما، وعلى نحو شخصي، يجدر بي أن أوضح سبب تحفظي الدائم على استخدام سيجنال كخيار أكثر أمانًا. صحيح أن الكود البرمجي مفتوح المصدر، لكن تشغيل الخوادم والبنية التحتية للمنصة يظل غير شفاف تمامًا. لا نعرف بدقة كيف تُدار التحديثات أو من يملك صلاحيات الوصول الإداري. كما تعتمد سيجنال في كشف جهات الاتصال على تقنية مقارنة أرقام الهواتف بطريقة مشفرة، لكن التنفيذ الفعلي داخل البنية التحتية ليس مفتوحًا بالكامل.
وحتى مع التزام المنصة بتقليل جمع البيانات وعدم استخدام أدوات تحليلية، فإن ما يجري داخل الأنظمة والصيانة يظل غير واضح بالكامل. لهذا السبب كنت دائمًا أتحفظ على التوصية باستخدامها دون تحفّظ، رغم أن وزير الدفاع الأمريكي قد يثق بها، وهذا لا يعني بالضرورة أن المخاوف مرفوعة تمامًا.