
"محضر قصاد محضر".. أن تحمي الجاني وتعاقب الضحية
عَمِلتُ قبل سنواتٍ في مجلةٍ أسبوعيةٍ، كان ذلك في بدايات اشتغالي بالصحافة. المكان لم يكن متسعًا بشكل كافٍ ولم أجد مكانًا سوى مكتب صحفي متغيب في أحد أركان صالة التحرير.
وبينما كنت منهمكةً في البحث والكتابة، وبكامل تركيزي في شاشة اللابتوب، دخل أحدهم مندفعًا، سحب الكرسي الذي أجلس عليه، وجرني إلى خارج المكتب، وألقى باللابتوب ليستقر على مكتب آخر لحسن حظي، ليبدأ بعدها سيل من الشتائم التي لم أسمعها في حياتي.
وقبل أن تصل لكمته إلى صدري بسنتيمترات، تمكن 3 زملاء من منعه وبصعوبة أبعدوه. لم أفهم لماذا اهتاج بهذا الشكل؛ ما أذكره أني كنت منهارةً بشكل لا أستطيع حتى بعد مرور أكثر من 10 سنوات على الواقعة استيعابه.
وقفت أردد "إنت متعرفش أنا أبويا وأمي مين عشان تشتمني بيهم وأنا متربية غصب عنك ومش جاية من الشارع"، ثم أمسكت بكوب مياه وقبل أن أغرقه به، لأوقف لسانه السليط، منعني زميل محاولًا تهدئتي، وأن أستعيذ بالله من الشيطان.
لمع الحَلُّ في ذهني، صرخت "أنا عايزة أعمل محضر". ذهبت فورًا إلى قسم قصر النيل بصحبة شهود من الزملاء، لم أتأخر سوى 5 دقائق قضيتها في مكتب رئيس التحرير باكية منهارة من كم الإهانات والاعتداء الذي لحق بي، ولأخبره بنيتي تحرير المحضر.
عقبة تواجهها النساء اللاتي يخسرن حقوقهن في حالة اللجوء إلى القسم بتحوليهن من شاكيات إلى متهمات
بمجرد وصولي للقسم، وجدت أمين شرطة في استقبالي يسألني "أستاذة إيناس كمال؟.. أيوه يا افندم.. إحنا كنا هنبعت نجيبك لأن متقدم فيكي محضر اعتداء"!
سبقني زميلي الصحفي، الذي بدا متمرسًا في تحرير هذا النوع من المحاضر، إلى قسم الشرطة، ليصبح "المحضر قصاد محضر".
ترهيب الضحية
زميلي ليس الوحيد الذي يستغل حقًا قانونيًا للضغط على امرأة تتهمه بالاعتداء من أجل التنازل عن شكواها ضده، فهذا ما تواجهه العديد من الفتيات والنساء اللاتي يخسرن حقوقهن حال اللجوء إلى أقسام الشرطة بتحوليهن من شاكيات فقط إلى متهمات أيضًا.
بعد وفاة والد سميرة مرسي(*) في عام 2018، بدأ خالها في التدخل في حياتهم بشكل كبير، "هو عصبي ومجنون، أراد فرض سيطرته علينا، زاد الأمر حتى وصل إلى مضايقات وتعديات منه على أمي وشقيقتي، ضرب أختي الصغيرة"، تحكي لـ المنصة.
بعد سلسلة من الاعتداءات، قررت والدة سميرة تحرير محضر ضده في القسم؛ فما كان منه إلا أن حرر هو الآخر محضرًا هو وزوجته وشقيقة زوجته ووالدتها متهمين إياهن بالسرقة، مدعمين بشهود.
المحضر المعاكس والتهديد به يظهر كسلاح في يد الخصم، الأمر ذاته تكرر مع إيريني أكرم، التي تعمل معالجة نفسية، حين تعرضت للتحرش في الميكروباص خلال عودتها من القاهرة إلى منزلها في الإسكندرية قبل 4 سنوات.
بعد عبور نقطة الاستراحة الأولى، ولدى عودتها إلى كرسيها، "سمعت واحد بيصيح من ورايا، يا أسطى طفي نور صالون العربية"، تحكي لـ المنصة.
"قعدت وحسيت بشيء بيتحرك في ضهري من تحت، قولت ياربي إيه ده أنا قعدت على حاجة كلكعت؟ وبعدين الحاجة بتتحرك، يكونش فار؟ مكنتش متخيلة إطلاقًا إنه معدي إيده من تحت الكرسي".
مدت إيريني، التي كانت في عشرينياتها وقتها، يدها لتتحسس الشيء الذي يتحرك أسفل ظهرها، لتفاجأ بأصابعه، "التفت إليه تشاجرت معه وصفعته على وجهه عدة مرات، تمكن من إمساك يديها لتقييدها، ثم عضته بأسنانها في كفه ليتركها، وصممت على الذهاب إلى أقرب قسم شرطة لتحرير محضر ضده.
التهديد بالحبس
لم تتناول أي جهة، حكومية أو غير حكومية معنية بمكافحة العنف ضد النساء، إشكاليةَ المحضر العكسي بالبحث والتوثيق، بشكلٍ مُنفردٍ، لكنها تأتي ضمن أسباب عديدة لمعوقات الإبلاغ عن جرائم العنف ضد النساء.
في دراسة صدرت في مارس/آذار 2024 عن مركز تدوينٍ لدراسات النوع الاجتماعي، لم تتقدم سوى نسبة 8.4% فقط من النساء اللواتي تعرضن لعنف جنسي ببلاغات لأقسام الشرطة أو النيابة، وكانت أسباب امتناع نحو 25% منهن عن استكمال البلاغ هو "التخويف من المبيت بالقسم/النيابة".
وسمعت 36.2% منهن عبارة "هيعمل محضر ضدك" في إطار التخويف من الاستمرار في الإجراءات. كما سمعت 34% منهن عبارة "هتباتي ليلة في القسم لحد ما نعرضك على النيابة".
إيريني كانت من بين النساء اللواتي أصررن على الإبلاغ، فرغم ضغوط الركاب من أجل التنازل عن شكواها، ودعوتها للاكتفاء بضرب المتحرش وتركه في منتصف الطريق، فإنها صممت على حقها القانوني باللجوء إلى أقرب كمين شرطة في طريق مصر إسكندرية الصحراوي.
في الكمين صرف الضابط الركاب والسائق ولم يتبق سواها مع الجاني الذي اتضح فيما بعد أنه محامٍ. استنجدت إيريني بإحدى الجمعيات الداعمة للنساء، فأرسلوا لها محاميًا، وبعد نقاش قصير حذَّرها من ذِكر تفصيلة أنها صفعت المتحرش على وجهه.
الجملة السحرية القادرة على إنهاء القضية "محضرك قصاد محضره وهتضطري تباتي في الحجز"
تحركت إيريني مع محاميها، ومعهم الجاني، إلى أقرب قسم شرطة، وهناك سمعت جملة "هيحرر ضدك محضر تعدي بالضرب". ادعى المحامي المتحرش أن ضربها له كان مبرحًا لدرجة أنه ترك آثارًا، وأنه سيستعين بالطب الشرعي لإثبات الأمر، "لقيت على إيديه خدوش منتظمة وكأنه عملها بمفتاح شقة". أبدت دهشتها وأكدت لأمين الشرطة الذي يتولى تحرير المحضر أنها لم تقم سوى بصفعه.
هنا كانت على موعد مع عبارة "هتباتي في القسم"، تصف إيريني الضغط الذي تعرضت له "بابا كان وصل، وفيه لجنة من النقابة مكونة من 3 محامين لدعم المتحرش، غير المحامين بتوعي، كلهم بيحاولوا إقناعي أتنازل"، فاستجابت للضغط وسحبت الشكوى.
"هتباتي في القسم" سمعتها أنا أيضًا بعد تحريري المحضر ضد زميلي المعتدي الذي سبقني بدقائق إلى قسم الشرطة. حاولت الاستفسار من أمين الشرطة "يا ترى بيتهمني إني اعتديت عليه إزاي؟"، فأخبرني بأغرب سبب يمكن تخيله "بيقول إنك رفعتي كوباية ميَّه في وشه".
ضحكت وبكيت في آنٍ، كان ذلك قبل أن يكرر الأمين على مسامعي الجملة السحرية القادرة على إنهاء أي قضية "إنتي بنت ناس ومش وش بهدلة ومحضرك قصاد محضره وهتضطري تباتي في الحجز وتتعرضوا انتوا الاتنين بكره على النيابة".
محضر عكسي
تصف مؤسسة "بنت النيل" في ورقة قانونية بعنوان "حماية خصوصية بيانات الشاكيات في جرائم العنف الجنسي" هذه الإساءةَ في استغلال الحق القانوني بـ"المحضر العكسي" باعتباره أحد أشكال معوقات الإبلاغ في جرائم العنف الجنسي.
كما ترصد الورقة الصادرة في ديسمبر/ كانون الأول 2023 ضَعف مواد قانون الإجراءات في توفير الحماية للشاكيات، من خلال المادة 113 مكرر التي جاءت كاستجابة إيجابية لمناشدات ومطالبات المنظمات والناشطات النسويات بشأن حماية الشاكيات والشهود في جرائم العنف الجنسي، "إلا أن التشريع خال من ضمانات الحماية الإلزامية للناجيات" حسب الورقة التي قدمتها المؤسسة تحت عنوان "حماية خصوصية بيانات الشاكيات في جرائم العنف الجنسي".
توضح الورقة "أن نص المادة يشير بوضوح إلى حظر الكشف عن بيانات الناجية إلا لذوي الشأن، في حين أغفل تناول بعض الإجراءات القانونية التي يساء استخدامها كنوع من التهديد والضغط على الناجية مثال المحضر العكسي".
وأوصت "بنت النيل" بضرورة حماية الناجيات أثناء وبعد تحرير محضر الشكوى، وتعديل المادة بإضافة بند يمنع المتهم بالاعتداء من التلاعب القانوني وتحرير محضر مضاد لابتزاز الشاكية وترهيبها حتى تسحب شكواها.
تلك الإشكالية تتناولها أيضًا ورقة بحثية لمؤسسة قضايا المرأة المصرية، جارٍ إعدادها للنشر، عن معوقات إبلاغ النساء عن جرائم العنف، حسب نورا محمد مديرة برنامج مناهضة العنف ضد المرأة بالمؤسسة.
تقول لـ المنصة إن الورقة تتناول المعوقات التي تقابلها النساء عند اتخاذ خطوة تحرير محضر، وترتكز البيانات على خبراتهم وتعاملهم مع نساء معنفات لجأن للمؤسسة خلال السنوات السابقة، مؤكدة أن من بين المعوقات الضغوط التي تُمارس على النساء بأشكال متعددة للتنازل عن محاضرهن.
من واقع خبرة عبد الفتاح يحيى في العمل مديرًا للوحدة القانونية بمؤسسة قضايا المرأة المصرية، يلاحظ أن "أغلب القضايا اللي بيُستغل فيها الحق القانوني، كانت قضايا تحرش واعتداء وضرب الفتيات، أو المتزوجات من أزواجهن"، واصفًا ذلك بأنه أصبح ثقافة سائدة "النيابة مش هتستبعد اتهام أي طرف، ما هو محضر قصاد محضر وهيفضلوا فيه الاتنين لحد نهايته"، يقول المحامي الحقوقي.
يرفض يحيى التعسف في استعمال الحق القانوني بالتقاضي لإهانة المرأة والضغط عليها للتنازل عن محضرها، لأن مرحلة وصول بلاغ ضدها تليها المبيت ليلةً في القسم، ثم العرض على النيابة في اليوم التالي، وهو ما يصفه لـ المنصة بـ"مرحلة مهينة ولا آدمية وضاغطة نفسيًا" على النساء.
"تخيلي تروحي تبلغي عن واقعة تحرش تباتي في الحجز مع المجرمين ويتهمك المتحرش بالسرقة" ما قد ينتج عنه، حسب يحيى، حكم لصالح الرجل المتهم بالتحرش ضد المرأة الضحية، ليصبح هناك حكمان ضد بعضهما، وتبدأ ورقة ضغط جديدة على المرأة للتنازل، سواء كان من البداية بالتخويف من حدوثه أو بالتنفيذ بعد صدور الحكم.
الإجابة تونس والكويت
لا توجد مادة في القانون المصري تقيد الحق القانوني في المحاضر العكسية بقضايا العنف الجنسي أو الأسري، على عكس ما فعلت دول أخرى بينها الكويت بإضافة المادة 13 لقانون 16 لسنة 2020، التي تُعاقب مَن يحاول إكراه المعتدى عليها للتنازل عن شكواها.
وفي تونس تنص الفقرة الثانية من أحكام الفصل 25 من القانون الأساسي 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة على أنه "يعاقب بالسجن من شهر إلى 6 أشهر العون التابع للوحدة المختصة بالبحث في جرائم العنف ضد المرأة الذي يتعمد ممارسة ضغط على الضحية، أو أي نوع من أنواع الإكراه لحملها على التنازل على حقوقها أو لتغيير مضمون شكواها أو الرجوع فيها".
ويرى مدير الوحدة القانونية بمؤسسة قضايا المرأة أن المشكلة ليست في عدم وجود تشريع، وإنما في آليات الإبلاغ والتحقيق، سواء من الشرطة أو النيابة، التي تضغط على الشاكيات بـ"سيف القانون".
يوافقه الرأي المستشار محمد سمير المتحدث الإعلامي باسم النيابة الإدارية، ويؤكد لـ المنصة أن "وجود وحدات خاصة تستقبل هذا النوع من البلاغات داخل الأقسام، يكون أفرادها مدربين جيدًا للتعامل مع الشاكيات دون أن يُسقطوا أحكامهم الشخصية، ونيابات متخصصة في قضايا العنف ضد النساء قد يساهم في التعامل مع تلك البلاغات بجدية".
ويقترح سمير في حالة "محضر قصاد محضر"، أن توقِّع الشاكية إقرارًا بالذهاب إلى النيابة في اليوم التالي، حتى لا تبيت في قسم الشرطة، بالتالي ينتفي ضرر التهديد بالحبس، مستدركًا "ما لم يحدث ضرر بالغ للطرف الآخر أو لا يوجد لديها عنوان إقامة مثبت".
وينصح المتحدث باسم النيابة الإدارية الشاكية في حال التعرض لضغوط من أفراد شرطة "بالتوجه إلى إدارة التفتيش والرقابة بوزارة الداخلية في كل محافظة أو الاتصال بـ 16528، وهي إدارة تتبع الوزير مباشرة وتختص بفحص البلاغات المقدمة ضد ضباط وأفراد الشرطة.
ورغم كيدية المحضر، فإن سميرة لم تستطع هي وعائلتها إثبات ذلك واضطررن للتنازل عن محضرهن، كما تنازلتُ أنا أيضًا عن محضري، وهو نفس ما فعلته إيريني وتضطر له نساء وفتيات كثيرات، ويبقى الأمل الأخير في إقرار مشروع القانون الموحد للعنف ضد المرأة، الذي وُضعت به مادة لمعاقبة من يحاول الضغط على امرأة ضحية عنف أو يمارس الإكراه عليها للتنازل عن شكواها.
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر