ويكيمديا برخصة المشاع الإبداعي
الشرطة الأرجنتينية تواجه المتظاهرين في بوينس أيريس ديسمبر 2001

سرد أحداث عملية نهب معلنة

منشور الثلاثاء 14 مارس 2023

هذا المقال لا علاقة له بالاقتصاد، فدرجة معرفتي به لا تسمح بكتابة أي نص جاد عنه. ولا علاقة له أيضًا بكيف نُهبت مقدرات الشعب المصري وأمواله وأصوله، فلا داعي لأن يُعرِّض أيٌّ منا نفسه للخطر باتهام أي جهة بالفساد، أو السطو، أو حتى الفشل الإداري والسياسي المصحوب عادة، وربما دائمًا، بعمليات النهب الممنهج.

إنه مجرد مقال محدود الطموح، لا يخرج عن حدود التعبير عن صدمة أن يفقد الجنيه المصري نصف قيمته أو أكثر خلال شهور قليلة، وصدمة أن تُصبح تلبية الاحتياجات المعيشية اليومية والبسيطة لعشرات الملايين من المصريين، كابوسًا يوميًا يتضخم كل صباح.

مرآة الأرجنتين

"الشعب لن يرحل"؛ ذلك هو الشعار الأساسي الذي هتف به الأرجنتينيون في الشوارع نهايات عام 2001، خلال انتفاضة الاحتجاج على الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي كانوا يعيشونها. لا بد أنه يذكرنا بشعارين رُددا في شوارعنا مطلع 2011، وكأنهما توحدا في شعار واحد "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"ارحل".

راحت أيام 2011 المصرية، فلنبقَ مؤقتًا مع الأرجنتين بعد اعتراف سريع؛ لم أتحمس أبدًا للتحليلات والمقالات السياسية التي نشرت خلال السنتين الأولتين من ثورة يناير، واعتمدت على فهم الحاصل في مصر عبر رؤيته في مرآة بلدان أخرى، أيًا كانت هذه البلدان. دون نفي حقيقة أن تجارب أي شعب في العالم هي دون شك مفيدة لكل الشعوب الأخرى، إن درسوها وعرفوا سماتها بعمق. فأتمنى بالتالي ألا أفعل الشيء نفسه برؤية مصر في مرآة الأرجنتين.

خرج الأرجنتينيون للشوارع للاحتجاج في ديسمبر/كانون الثاني 2001 ضد قرارات الحكومة بتقييد حقهم في سحب أموالهم من البنوك، بالتزامن مع هروب رؤوس الأموال الكبيرة من البلد، وانهيار العملة الوطنية "البيزو"، وضياع القيمة الحقيقية لمدخرات الطبقة الوسطى الواسعة، التي وجدت نفسها فجأة تنهار اجتماعيًا. خرجوا حاملين أدوات المطبخ المعدنية يدقون عليها، في احتجاج رمزي يعرف اللاتينيون معناه المباشر، فالقدور الفارغة تعني الجوع.

استمرت الانتفاضة أسابيع، سقطت حكومات، وتغير رؤساء الجمهورية خلالها وبعدها عدة مرات. لكن الاقتصاد الأرجنتيني كان انهار فعليًا، وانهارت معه آمال العيش الكريم للقطاع الأوسع من الشعب. وحين خرجت الشرطة لقمعهم أبدعوا شعار "الشعب لن يرحل"، في مواجهة السياسيين وأصحاب البنوك ورجال الأعمال ممن رحلوا، أو هربوا، بأموال الشعب.

من يدخل النار

عدد من الممارسات الدولتية كانت في خلفية الانهيار وقادت إليه، ونستطيع أن نجد صدىً لها في ظروفنا المصرية. فقبل لحظة الانهيار، المتمثلة في انخفاض قيمة العملة وتجميد الودائع البنكية للمواطنين وهروب رؤوس الأموال، هناك تاريخ طويل للديون يمتد إلى القرن التاسع عشر، مثلما حدث في مصر، وفي القرن التاسع عشر أيضًا. لكن الديون تضاعفت بمعدلات قياسية أثناء حكم العسكريين الأرجنتينيين بعد انقلاب عام 1976 والممتد حتى 1983.

وهناك أيضًا صندوق النقد الدولي وقروضه وشروطه وتدخله في إدارة النظام للموارد، وفرضه لبيع الأصول ومنع الحكومة من التحكم في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار. فحين يحضر الصندوق أو البنك الدولي مع نظام دون سياسة أو استراتيجية، ومن سماته الفشل، ومحاط بشبكات فساد واسعة، سيحل الخراب حتمًا.

باعت الدولة الأرجنتينية أغلب شركاتها الكبرى، عماد اقتصادها المستقل، كشركات الغاز والبترول على سبيل المثال، وبأسعار أقل بكثير من قيمتها الحقيقية، كي تستجيب لشروط الدائنين، وجدولة فوائد الديون. ولم تضع خطوطًا حمراء لمنع بيع رأس المال الأرجنتيني الاستراتيجي، واكتفي الحكام بكلمات الطمأنة التقليدية دون الدخول في تفاصيل.

عادة ما يكذب العسكريون حين يقومون بالانقلابات، فيتحدثون كثيرًا عن إنقاذ الوطن، وعن الأخلاق، ويبدون في منتهى التدين والورع، بينما يكون الهم الأول لعصاباتهم، بالإضافة للقمع والقتل، هو نهب البلاد. فكان العسكريون الأرجنتينيون نسخة من بينوشيه وعائلته في تشيلي، أو فرانكو الإسباني وعائلته، فاسدين ولصوصًا.

لكن التاريخ يخبرنا أن الكذب هو فضيلة الحكام والسياسيين المتطلعين إلى السلطة، فمثلما يقول بعض المؤرخين والمحللين السياسيين "إن صدق السياسي فلن ينتخبه أحد". فعلينا أن ننضج قليلًا، وألا نتعامل مع الكذب مثلما كانوا يلقنوننا في طفولتنا؛ "من يكذب سيدخل النار". فالحكام يعلمون جيدًا أن السلطة هي الجنة التي عليهم التمسك بها، ولا يهتمون إن كانت هناك جنة أخرى، أو نار للكاذبين بعد الموت.

لا يتوقف الكذب عند التعبيرات الأخلاقية أو الدينية أو الوطنية، بل أن تعبير "الديمقراطية" يتحول إلى تعبير طاهر، حاضر في خطابات الحكام خلال تحويلهم للبرلمان الأرجنتيني، كنموذج، إلى مجرد مصطبة لمجموعة من الطبالين والمنتفعين ممن يصوتوا على قرارات وقوانين لا يعلمون مضمونها.

تختلف سرعة تحويل البرلمانات إلى مصاطب للكاذبين والطبالين حسب ظروف كل بلد. قد تحدث في شهور قليلة، وقد تستغرق بضع سنوات على يد رئيس الأرجنتين كارلوس منعم، الذي يتباهى البعض بأن أصله عربي، وكيف ننجح خارج بلادنا، بدليل وصول عربي لحكم بلد كبير مثل الأرجنتين. في حين كان منعم مجرد لص تافه، لعب دورًا أساسيًا في تسهيل نهب الشركات الكبرى الأوروبية والبرازيلية –لم تدخل أيامها شركات الخليج في المزاد- لبلده، مقابل العمولات والسمسرة.

لم يكتف منعم بالبيع وبالبرلمان الديكور، فهناك عمليات جانبية من الضروري تنفيذها؛ تأميم القضاء وتحويله لمجرد أداة في يد السلطة التنفيذية، تأميم النقابات وقصقصة أجنحتها المستقلة، ورشوة قياداتها وشرائهم، وإضعاف الأحزاب الديمقراطية لإنهاء أي إمكانية لتداول السلطة سلميًا، وضمان دعم المؤسسة الدينية، عبر منحها الامتيازات، وعبر النغمة الدينية المتكررة في الخطاب السياسي.

قدم المخرج الأرجنتيني بينو سولاناس في 2004 فيلمه التسجيلي الطويل ذاكرة النهب، الذي يحكي فيه عن متتالية السياسات الفاسدة والفاشلة، التي أدت في مطلع الألفية الجديدة لانهيار المجتمع الأرجنتيني وجوع الناس، وخروجهم للشوارع.

من الممكن تغيير "ذاكرة النهب" بـ"تقرير للنهب". لكن اختيار عنوان "سرد أحداث عملية نهب معلنة"، المؤدي للمعنى نفسه، مقصودة، فربما تحيل العارفين بالأدب إلى رواية جابرييل جارثيا ماركيز الشهيرة، المتناولة لذلك القتل المُعلن والمُقرر سلفًا، بانتظار لحظة التنفيذ، دون أن ينبه أحد الضحية التي ستُقتل.

فيلم ذاكرة النهب


يوم يخرج الناس

قُتل في انتفاضة ديسمبر 2001 الأرجنتينية 34 شخصًا. لم يتضاعف رقم الضحايا لتوافر عدد من العوامل السياسية، أهمها غياب قدرة الجيش على النزول للشوارع والتدخل والانقلاب، بعد تاريخه الدموي خلال فترة الديكتاتورية العسكرية، وملاحقة قياداته وضباطه ومحاكمتهم بعد انهيارها، فلم يكن للأرجنتينيين أن يسمحوا برؤية الدبابات في الشوارع من جديد.

وكذلك لوجود بقية من أحزاب ومجموعات وحركات اجتماعية لها وجود في المجال العام، لعبت أدوارًا تعبوية وتنظيمية بحكم قبولها مجتمعيًا، وشكلت الظهير السياسي للانتفاضة، مثل "أمهات وجدات ميدان مايو" اللاتي لعبن سابقًا خلال الديكتاتورية العسكرية أدوارًا أساسية في تحدي وفضح العسكريين، والمطالبة يوميًا بمعرفة مصائر أبنائهم المختفين والمقتولين.

ليس لدينا في مصر "أمهات مايو"، ولم يعد لدينا أحزاب أو مجموعات، أو حتى أفراد، يملكون أي حضور أو قبول في هذا الشيء المسمى بالمجال العام، فلا نعرف ما سيحدث إن خرج الناس يومًا.

لكننا نعرف، على الأقل حاليًا، أنه لن يُسمح لأحد بتنفيذ فيلم في مصر على غرار "ذاكرة النهب"، الذي وللمفارقة تلقى تمويلًا من صندوق وزارة الثقافة الأرجنتينية لدعم السينما. ولم يتعرض فريقه، أو أي من المشاركين فيه، إلى أي نوع من أنواع التضييق أو العقاب.

ونعرف أيضًا بديهية أن الشعب لن يرحل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.