على سبيل المجاز، يخلع البعض على المشهد السياسي الحالي في مصر صفات "الاستبداد المملوكي"، والأمر في ظني مجرد محاولة للمقاربة والاشتباك اللغوي مع وضع جديد منبثق من داخل دولة حديثة، أكثر منه توصيف سياسي اجتماعي جاد.
لربما جاء استدعاء المجاز من فرط وطآت الاستبداد، ومن الإحساس بالاستهانة بما كان يُعد بداهة "حقوقًا أساسية للمواطنة". وربما أيضًا لاستشعار البعض بما يمكن تسميته ارتدادًا عن الحداثة بالمجمل، بشكل يذهب بالذهن إلى المقاربة مع الصيغة السياسية والاجتماعية التي سبقت التحديث، وهي صيغة الحكم السلطاني لعسكر المماليك المجلوبين من آسيا الصغرى، والمدعومين ماليًا من كبار التجار في المدن الكبرى.
لسنا في ذلك العالم بطبيعة الحال، فمصر منذ زمن بعيد دولة حديثة على مستوى البنية والتنظيم. وأنماط الاستبداد المعاصر فيها حداثية بامتياز، مهما بدت بدائية وقهارة. ولو ارتدت مصر، دولة وشعبًا، إلى ما قبل الحداثة؛ فلن يمكننا إدارة تعايش مشترك يجمع بين عشرات الملايين من السكان، بما يتطلبه ذلك من إنتاج وخدمات معقدة.
لذا، فمهما بلغت درجات التأزم والاحتقان، ستظل الحداثة هي قدرنا المعاصر، وسنظل أبناء لعالمها. وعلينا الوعي بأنه من دون ما أنتجته الحداثة من بناء وتنظيم ستتعرض قطاعات واسعة من سكان مصر إلى الفناء، بالمعنى الحرفي للكلمة. الأمر ليس هزلًا بالمرة.
كنت أشرت، في مقال سابق، إلى أن الإهانة والتكدير ملمحان أساسيان لأسلوب الطغيان الحالي في مصر، والإهانة والتكدير تحديدًا، وليس القمع العاري بالضرورة. ذلك لأن القمع المجرد قد يستنفر المقاومة طالما وجه نحو بشر لا يزالون في نظر قاهريهم ذوات لها كرامة ومعنى، أما التكدير والإهانة اليومية فعملية تسعى بوعي ونية وإرادة إلى إشعار الإنسان بالضآلة واللا جدوى، بهدف إجباره على نسيان وتناسي طبيعة وجوده المادي كمواطن في دولة حديثة.
لكن فقدان الإدراك هذا ليس ناتجًا عن فرط الخضوع القسري والذليل للاستبداد فقط؛ لأن جانبًا منه يأتي مدفوعًا بإرادة "حكيمة" و"حرة "، تنازلت طوعًا وتواطئت مع ذلك الطغيان بعدّه الشرط اللازم للحفاظ على "السلام الاجتماعي" في ضوء سيادة ظروف وملابسات سياسية، محلية وإقليمية وعالمية، تتسم بالتعقيد والضبابية، وتلوّح دائمًا بسيناريوهات أسوأ، تهدد بإمكانية تحويل شبه الدولة إلى لا دولة.
المال العام سيظل عامًا حتى لو تبدد
من داخل عملية الخضوع والتواطؤ والإرباك تغيب حقائق بديهية داخل ما تبقى من "جدل عام" في مصر. وهنا، سأضرب مثالًا ببعض النقاشات الدائرة عن الأزمة المالية الحالية وسبل الاشتباك معها.
زادت المديونية العامة المصرية بمعدلات متسارعة أثرت على ماليتها العامة بوضوح، وأخلت بهيكل الالتزامات على نحو أعاد ترتيب الأولويات بشكل مختلف، أثر بوضوح على ثروة واستهلاك المواطن وأمنه الاقتصادي. ولن أناقش هنا والآن المسار الذي أفضى إلى ذلك الوضع المزري والمسؤولين عنه.
أي نشاط اقتصادي متولد عن عمل هيئة عامة وطنية هو ملكية عامة، بصرف النظر عن الجهة التي تشرف حالًا على إدارته
مطروح على المائدة خيارات شديدة المحدودية تتحرك من داخل منطق النيوليبرالية، تقول إن على مصر تشجيع الاستثمار الأجنبي عبر بيع الأصول العامة، وتخفيض قيمة الجنيه إلى الحد الذي يشجع فوائض المال الخليجي والأجنبي على الاستثمار في بيئة اقتصادية هي غير جاذبة بالتعريف. وقبل هذا كله، على الدولة أن توفر المناخ التنافسي السوي اللازم لطمئنة الاستثمار متوسط وطويل المدى للعمل في السوق.
ومن داخل ذلك الجدل المحدود جدًا، توجد زاويتان للنظر تنطلقان من حالة ذهنية وشعورية يختلط فيها الضجر باليأس والخوف. واحدة ترى ضرورة المضي قدمًا في المسار الذي يبدأ بقيام الدولة ومؤسساتها السيادية المختلفة بالتخلي عن حصصها السوقية الموجودة حاليًا، وتنظيم عملية بيعها، سواء للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي. وأخرى تستشعر خطرًا من أن تُباع الأصول العامة بأبخس الأثمان، فضلًا عن اليأس من إمكانية قبول القوات المسلحة والأجهزة السيادية بالتنازل عن "استثماراتها".
ولكن يغيب عن هذه الجدالات مفهوم ومعنى "الملكية العامة"، وأنه من الأصل لا يوجد شيء اسمه اقتصاد الجيش أو اقتصاد سيادي، طالما الالتزامات قومية بالمجمل ويتحملها كل المصريين. وأن أي نشاط اقتصادي متولد عن عمل هيئة عامة وطنية هو ملكية عامة، بصرف النظر عن الجهة التي تشرف حالًا على إدارته.
وأنه حتى ولو غابت الرقابة العامة والشعبية عن مجالات الأعمال هذه، فستظل في النهاية "مالا عامًا"، وممتلكاتها ملكًا عامًا للشعب المصري. وأن أي ملكية عامة هائمة التعريف، سواء عن جهل أو تعمد، يجعلها تتحرك في مساحة رمادية بين العام والخاص والمشترك، سيأتي يوم وتُرد إلى موقعها الطبيعي كملكية عامة خاضعة لرقابة عامة.
وعليه، فإن أي تصرف في ملكية عامة في غيبة قرار ورقابة المؤسسات العامة والشرعية هو عملية فساد واختلاس أو تبديد، طال الزمان أو قصر. وبالتبعية فأن أي ديون أو التزامات تراكمت على الشعب المصري والدولة المصرية في ملابسات كتلك، ستعد ديونًا فاسدة غير ملزمة للأجيال القادمة، وليس بالضرورة أن تتحملها الأمة المصرية، وسيتم تقييمها سياسيًا قبل أي شيء.
إعادة الثقة في الاقتصاد الوطني تتطلب الحفاظ عليه أولًا
وليس معنى أن هناك سخطًا شديدًا من طريقة ومآلات إدارة السوق المصري، ومن داخله طريقة إدارة الأصول العامة، أنها ليست أصولًا عامة. وهي الحالة الذهنية التي ينزلق إليها البعض، فنراهم يتماهون مع منطق رجال أعمال محليين لا موطن لأموالهم سوى الأرباح وتراكم رأس المال، أو التماهي مع منطق الاستثمار الأجنبي القادر والمستعد فى أي لحظة على الهروب من دون أي التزامات.
ولكي لا تخضع مصر لشروط صندوق النقد الدولي تفصيلًا، يجب على الاقتصاد المصري أن يتماسك كاقتصاد وطني، وليس كنهبة سرية مُختطفة ومعرضة للتبديد بقرارات هنا وهناك. لأن إعادة الثقة في الاقتصاد الوطني تتطلب الحفاظ عليه أولًا، وبالتالي فإن عملية التصرف في الملكيات العامة تتطلب أولًا إعادة تنظيمها بالشكل الذي يجعلها شفافة وقابلة للمراقبة. حينها ستتحدد الرؤى، وتختلف وتتجاذب الاتجاهات بشأن الطريقة المثلى لإداراتها أو التصرف فيها. لكن ما دون ذلك هو فساد وإفساد وجريمة وطنية ستترافق مع تبديد ثروة مصر وبيعها بالبخس والرخيص.
شرط كل ما سبق، هو أن تكون الموازنة العامة المصرية واحدة وشفافة، يدخل في أبوابها كل بنود وعناصر الاقتصاد الوطني بكافة أنشطته ومؤسساته وصناديقه، كى نعرف حقوقنا والتزاماتنا بالتفصيل، جميعها وكافة، وبصرف النظر عن الأجهزة التي تتبعها. فمبدأ وحدة الموازنة العامة لم يعد ترفًا، وسيتحقق إن عاجلًا أم آجلًا. وإن لم يكن بأيدينا فسيكون على أيدي الدائنين، كما حدث في عهد الخديو إسماعيل منذ قرن ونصف، وهو ما لا نتمناه، بل وما لا يجب أن نسمح به.
صحيح أن وطأة القهر والإذلال قد تُنسي البعض "البديهيات الوطنية"، كما لو كانت ترفًا ثقافيًا لا يمكن الاشتباك معه. لكن هذه الأوضاع الصعبة لن تُغير من كون البديهيات بديهيات، وأن كل مال عام في حوزة مؤسسات عامة هو ملكية عامة للشعب المصري، وأن أي فهم لحقوقنا والتزاماتنا سيتحدد بناء على قراءة موازنة عامة واحدة موحدة شفافة.
دون ذلك فمصر ليست دولة والمصريون ليسوا شعبًا، وهو أمر غير جائز نظريًا وعمليًا مهما استخدمنا لغة المجاز المملوكي. ربما يبدو هذا الكلام صعبًا على مسامع البعض في اللحظة الراهنة، خاصة الذين أدمنوا العمل والجدل والحوار تحت أي شرط، وقد يعتبره البعض سقفًا مرتفعًا في ظل وضع شديد المرارة، ولكن هذه هي الاستحقاقات التي سنواجهها إن عاجلا أم آجلًا، فضلًا عن أننا ندفع أثمانها بالفعل خلال السنوات الخمس الأخيرة من مستويات معيشتنا وتوقعاتنا، أثمانًا باهظة، وقابلة للزيادة والتفاقم بمتواليات سريعة.