في عام 1955، أبرم الرئيس جمال عبد الناصر، في إطار محاولاته لتقوية الجيش المصري، صفقة تسلح مع أحد حلفائه في معسكر أوروبا الشرقية، تشيكوسلوفاكيا، لتسارع إسرائيل ردًا على تلك الصفقة، بتوطيد العلاقات مع النصف الغربي من القارة، واختارت لتلك المهمة عسكري من أحد مؤسسيها هو شيمون بيريز.
"صديقي العزيز".. كلمتان تصدرتا خطاب رسمي موجه عام 2013 من الرئاسة المصرية إلى نظيرتها الإسرائيلية؛ فأثارتا قطاع واسع من الشعب المصري كاره لإسرائيل والتطبيع معها؛ فصب غضبه على المُرسِل الذي كان وقتها الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي، وكان يخاطب نظيره، الشخص نفسه صاحب المهمة سالفة الذكر في الخمسينيات، شيمون بيريز.
واليوم بمفارقة قدرية بحتة، وبينما يحيي الناصريون وأنصار القومية العربية من مصر ودول أخرى، الذكرى السادسة والأربعين لرحيل جمال عبد الناصر، كعادتهم في 28 سبتمبر/ أيلول من كل عام، أعلنت إسرائيل وفاة الشخص نفسه المُكلف بمهمة الخمسينيات ضد "ناصر" والمُخَاطب برسالة "مرسي"، الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز.
وتوفى "بيريز" عن عمر ناهز 93 عامًا، بعد صراع مع المرض- جلطة دماغية- أُودع على إثره إحدى مستشفيات تل أبيب، 14 سبتمبر/ أيلول الجاري، لتنتهي مسيرة سياسية لشيمون بيريز، دون انتهاء حديث البعض عن اعتباره "محارب لأجل السلام" والبعض الآخر عن كونه "مجرم حرب".
أشكينازي أسس إسرائيل
حوالي 7 عقود سياسية عاشها "بيريز"، كانت نقطة بدايتها عام 1934، عندما وطأت قدم اليهودي الأشكينازي المولود في بولندا، أرضًا صارت فيما بعد عام 1948 "دولة"، كان هو أحد آبائها المؤسسين، وسُميت إسرائيل.
على الرغم من أن العام 1934 يسبق تاريخ تأسيس إسرائيل بأربعة عشر عامًا كاملة، إلا أن موقع الكنيست الإسرائيلي، يؤرخ لتلقي "بيريز"، وهو بعد صبيًا في الحادية عشرة من عمره، تعليمه في "تل أبيب" التي لم تكن موجودة بعد، وذلك في مدرستي "بلفور" و"جيولا"، وبعدهما درس الزراعة في إحدى مدارس منطقة "بن شيمن"، ليرتحل شابًا إلى الولايات المتحدة ويدرس في جامعتي نيويورك وهارفارد.
بدءًا من العام 1947، انضم الشاب شيمون مع زميليه ديفيد بن جوريون وليفي إشكول إلى منظمة الهاجاناه العسكرية الصهيونية، التي أعلن عن تأسيسها "لحماية الممتلكات اليهودية"، بينما يعتبرها البعض حتى اليوم "عصابة قتلت ونهبت الفلسطينيين" واستمر في عضويتها حتى بعد قيام دولة عبرية، بموجب "وعد بلفور" وانتهاء الانتداب البريطاني على أرض فلسطين.
"ديمونة" ورئاسة الحكومة
ينظر الإسرائيليون لـ"بيريز" باعتباره رمزًا قوميًا، ليس فقط لكونه أحد مهندسي تأسيس دولتهم، بل لأنه لعب أدوارًا بارزة في مراحل مفصلية وحرجة من عمرها، كان منها ترأسه وفد وزارة الدفاع- التي تقلد فيما بعد مناصب مهمة فيها- إلى الولايات المتحدة للحصول على صفقة أسلحة للدولة الوليدة.
وتحرك "بيريز" عام 1955 لتوطيد علاقات دبلوماسية مع فرنسا، عدوة عدوهم اللدود في ذلك الوقت جمال عبد الناصر، ردًا على إبرامه صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، وبعدها بعام واحد فقط انطلق العدوان الثلاثي ضد مصر، الذي كان بيريز أحد المخططين له بوصفه القائد العام للجيش الإسرائيلي
لكن العام الذي شهد انطلاقة قومية وسياسية لـ"بيريز" كان 1959، حين أصبح عضوًا في الكنيست الإسرائيلي، بالتوازي مع مسؤوليته عن إنشاء مفاعل "ديمونة" النووي في صحراء النقب.
كان اسم "بيريز" طيلة أعوام الستينيات والسبعينيات، يتردد جنبًا إلى جنب مع أسماء "بن جوريون" وجولدا مائير وموشى ديّان وإسحق رابين، وهذا الأخير تغلب عليه عام 1974، حين كانت بلدهما تختار خليفة لرئيسة الوزراء "مائير"، المُستقيلة بسبب هزيمة حرب أكتوبر 1973، فذهب الكرسي لـ"رابين" الذي اختار "بيريز" لحمل حقيبة الدفاع في حكومته.
لكن لم يُحرم "بيريز"- الذي صار رئيسًا لحزب العمل، من المنصب الرفيع في بلده، إذ تولى رئاسة الوزراء في الفترة من عام 1984 إلى 1986، والتي واجه فيها تحديًا اقتصاديًا فيما بعد حرب لبنان الأولى التي شنها الجيش الإسرائيلي عام 1982، وحصدت أرواح آلاف العرب.
أوسلو ونوبل
مع تعاقب الانتخابات، وصعود وهبوط أسهم السياسيين الإسرائيلين وأحزابهم التي كان أبرزها "العمل" الذي ينضوي بيريز تحت لوائه، و"الليكود" ذو الفكر اليميني، تغير موقع "بيريز"، من رئاسة الحكومة إلى حمل حقائب وزارات مثل التعاون الدولي، والخارجية، في حكومتي إسحق شامير ثم إسحق رابين.
وفي حكومة "رابين" كان "بيريز" أحد فريق اتفاق أوسلو المبرم بين إسرائيل وفلسطين برعاية أمريكية عام 1993؛ لينال بفضله عام 1994 جائزة نوبل، بالتشارك مع "رابين" والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهي الجائزة التي لم تحمه من معاداة من رأوه واحدًا من المسؤولين عن الانتهاكات الإسرائيلية بحق العرب، على مدار عقود، سواء في عمليات عهد "الهاجاناه" أواخر الأربعينيات ضد الفلسطينيين، أو حتى "عناقيد الغضب" عام 1996 التي خلفت ضحايا بين آلاف القتلى والمصابين والنازحين، وذلك أثناء رئاسته للوزراء.
وعاد "بيريز" لمقعد رئاسة الحكومة بعد عام واحد من "نوبل"، خلفًا لإسحق رابين الذي اغتيل عام 1995، ويليه على المقعد نفسه شخصيات أغلبها من اليمين مثل بنيامين نتنياهو وآرييل شارون، إلى أن انتهى الأمر بـ"بيريز" بعد عدة مناصب في حكومات إلى تولي منصب شرفي أكثر من كونه تنفيذي، وهو رئيس الدولة، منذ عام 2007، خلفًا لموشيه كتساف.
لم تمر فترة رئاسة "بيريز" لإسرائيل - والتي وقعت في منتصفها أحداث ثورية غيرت أنظمة في دول عربية- مرور الكرام، فبعد تولي حكم مصر نظام يقوده محمد مرسي، ابن الإخوان المسلمين وهي الجماعة الأم المنبثقة من رحمها حركة "حماس"، فوجيء الرأي العام المصري بخطاب "مرسي" لـ"بيريز"، فأثير الهجوم ضده والجماعة، لدرجة إنكار "مرسي" علمه بفحوى الخطاب، وهو ما لم يفت على إسرائيل ورئيسها الرد عليه.
وتحت رئاسة "بيريز" شنت إسرائيل عملياتها العسكرية على الشعب الفلسطيني، والتي كان أعنفها "الرصاص المصبوب" ضد قطاع غزة 2008/2009، بجانب عمليات تهجير لهم وتوسع في بناء المستوطنات مقابل هدم منازل الفلسطينيين، وما زالت العمليات متواصلة في ظل ولاية خليفة "بيريز" في الرئاسة منذ 2014، رؤوفين ريفيلين.