أحد الأهداف الاستراتيجية الذي تكررت الإشارة إليه في الاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض جديد بثلاثة مليارات دولار، وكذلك في كل الاتفاقات السابقة، هو أن "يقود القطاع الخاص عملية التنمية في مصر" أو private sector-led growth.
الافتراض النظري في قلعة التنمية الرأسمالي التي يمثلها صندوق النقد والبنك الدوليين من مقرهما في واشنطن، هو أن الدولة فاشلة في إدارة الاقتصاد، ويعني تداخلها فيه مزيدًا من الفساد والبيروقراطية والهدر وانعدام المنافسة، وهي كلها نواقص يفترض ألا تكون موجودة في القطاع الخاص الذي يسعى بشكل أساسي لزيادة الربح، وبالتالي يفترض فيه حرص أكبر في إدارة الموارد والأموال.
ومن الناحية السياسية، فإن قيادة القطاع الخاص للاقتصاد يفترض أن تعني مشاركة أوسع للمواطنين في الرقابة على تصرفات الحكومة واتخاذ القرارات المتعلقة بالشأن العام واحترام حقوق الإنسان، من منطلق كونهم دافعي ضرائب. وأصبح الافتراض الذي يجب على الجميع قبوله كمُسلَّمة هو أنك إذا أردت الانتقال نحو الديمقراطية وتحقيق الشفافية والقضاء على الفساد، فعليك تقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد إلى الحد الأدنى مقابل تمكين القطاع الخاص.
اكتسبت هذه الفرضية المزيد من الزخم في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في 1991، وسعي الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة إلى ترسيخ قناعة أن سيطرة الدولة بشكل كامل وخانق على الاقتصاد كان أحد أسباب انهيار الإمبراطورية الشيوعية الضخمة. اعتُمدت هذه النظرية في روسيا وكل دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق، أو ما كان يعرف بحلف وارسو. وانطلقت عملية واسعة لخصخصة الشركات المملوكة للدولة لرجال أعمال مقربين من نظم الحكم الجديدة، وسط اتهامات واسعة بالفساد والرشوة.
في تلك الفترة كنتُ أنهيت للتو دراستي الجامعية. وعندما حصلت على منحة ماجستير في العلوم السياسية من إحدى الجامعات البريطانية، قررت أن أختبر في رسالتي صحة تلك النظرية ومدى إمكانية تطبيقها في مصر، وتحديدًا ما إذا كانت قيادة القطاع الخاص للتنمية ستؤدي في النهاية إلى نظام ديمقراطي وتخفف من هيمنة الدولة على النشاط السياسي برمته.
وللوصول إلى نتائج ذات مصداقية، أجريت 40 مقابلة مع كبار رجال الأعمال المصريين في مطلع التسعينيات، كان السؤال الرئيسي فيها هو ما إذا كان القطاع الخاص في مصر مهتمًا أساسًا بالانتقال نحو الديمقراطية ويعتبره أولوية. وبينما أيد كل من التقيت بهم منح دور أكبر للقطاع الخاص في قطاعات جديدة من الاستثمار وتخفيف المعوقات البيروقراطية وتقديم الإعفاءات الضريبية وإقامة نظام قضائي فعال للفصل العاجل في المنازعات، لم يتحدث أحد تقريبًا عن أهمية الإصلاح السياسي أو الانتقال نحو الديمقراطية باعتباره أحد أهداف القطاع الخاص في مصر.
بل إن كثيرًا ممن التقيت بهم رأوا أن الديمقراطية والانتخابات التعددية النزيهة قد تضران في الواقع بعملية التنمية الاقتصادية، وأن المطلوب هو "الاستقرار" في ظل قيادة الرئيس حسني مبارك الذي مكث في الحكم ثلاثين عامًا قبل خلعه، بزعم أن المصريين غير مستعدين بعد للانفتاح السياسي، تمامًا كما قال لاحقًا اللواء الراحل عمر سليمان وهو نائب لرئيس الجمهورية "Egyptians are not ready for democracy" (المصريون ليسوا مستعدين بعد للديمقراطية).
اللواء عمر سليمان نائب الرئيس السابق، يعرب عن اعتقاده بأن المصريين "لا يملكون ثقافة الديمقراطية".
وبعد عقود من هيمنة الدولة على الاقتصاد، خاصة في المرحلة الناصرية، تبين من خلال البحث الذي قمت به أن غالبية كبار رجال الأعمال في مصر يرون أنفسهم جزءًا من النظام، وليس منافسًا له كما يفترض صندوق النقد الدولي، وتحديدًا من ناحية ارتباط وتشابك المصالح بين الطرفين.
ومن هذا المنطلق، تبين أن غالبية رجال الأعمال الذين التقيت بهم كانوا أعضاءً مؤثرين في الحزب الوطني الحاكم الذي كان يرأسه مبارك، تمامًا كآلاف المواطنين الذين كانوا يرون في الحزب جواز مرور لتحقيق مطالبهم الشخصية لا أكثر.
وتضخم تشابك المصالح بين رجال الأعمال والدولة بشكل أكبر بعد ترأس جمال مبارك، نجل الرئيس المخلوع، لجنة السياسات في الحزب المنحل، التي ضمت بعض أكبر رجال الأعمال في مصر. ووصفت آخر حكومة في عهد مبارك بـ"حكومة رجال الأعمال"، إذ تولى فيها أحد كبار المستثمرين في قطاع المستشفيات وزارة الصحة، ومستثمر سياحي وزارة السياحة، وثالث وزارة الصناعة والتجارة، ورابع وزارة الإسكان.
بعد ثورة 25 يناير 2011، أراد بعض رجال الأعمال مسايرة الأجواء العامة في الرغبة نحو التحول الديمقراطي، وبدأوا بالفعل في تمويل أحزاب مختلفة لضمان استمرار الدفاع عن مصالحهم وسماع صوتهم. وبعد أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي منصبه قبل تسع سنوات، لم يعد هناك رسميًا حزب حاكم، بل عدد من الأحزاب المعروفة بقربها من النظام ودعمها له، تضم في عضويتها عددًا معتبرًا من رجال الأعمال، يتبرعون بسخاء لمبادرات حكومية مثل "صندوق تحيا مصر" أو يرعون المؤتمرات العديدة التي تنظمها الدولة كمؤتمر الشباب وغيره.
وبالتزامن، تنامت بشكل غير مسبوق استثمارات القوات المسلحة في العديد من القطاعات خاصة الإنشاءات والمباني، بالمشاركة مع عدد محدود من كبار رجال الأعمال الذين يحصلون على ما يعرف بـ"عقود من الباطن". وبالتالي، استمرت الشراكة القوية بين الدولة وقطاع رجال الأعمال، حتى لو يكن الطرف الأخير راضيًا تمامًا عن ذلك التوسع الكبير لدور الدولة في الاقتصاد.
وظلت قضية الإصلاح السياسي في ذيل الأولويات، وموضوعًا لا يُطرح للنقاش في أوساط رجال الأعمال، سواء توسع دورهم أو تقلص.
وحتى البرنامج الطموح الذي أعلنته الدولة لخصخصة شركاتها والمعروف بـ"وثيقة ملكية الدولة"، لا يعني بالضرورة تنامي دور القطاع الخاص بالقدر الذي يتطلع له الشركاء الدوليون الذين ما زالوا متمسكين بنظرية دعم القطاع الخاص كمسار وحيد نحو الإصلاح السياسي وتخفيف الطابع السلطوي للدولة في مصر ودول المنطقة.
فملكية الدولة في الاقتصاد المصري ضخمة للغاية، وأكثر من نصف الأموال المودعة في البنوك تعود لشركات القطاع العام، التي تمثل مع الجهاز البيروقراطي للدولة والجيش والشرطة أكبر موظِّفٍ للمصريين. وحتى إعلان رئيس الوزراء مؤخرًا طرح 32 شركة للبيع، لا يعني أنها ستُخصخص بالكامل أو تُطرح للمواطنين من خلال أسهم يتم شراؤها في البورصة لتوسيع قاعدة القطاع الخاص في مصر، كما يدعو صندوق النقد الدولي.
فالحكومة لجأت أصلًا لبرنامج الخصخصة من أجل الحصول على أموال بأي طريقة لسداد ديون وفوائد ديون عاجلة وإلا ستعلن الدولة إفلاسها مع تنامي الديون الخارجية بمعدلات غير مسبوقة حتى تجاوزت 150 مليار دولار.
وفي الواقع، فإن أحد أهم الأسباب التي قد تؤدي لعدم تنفيذ برنامج الخصخصة الطموح الأخير هو عدم رغبة الحكومة نفسها في التخلي عن ملكية شركاتها بالكامل، مكتفية بطرح نسب من الأسهم لا تتجاوز 40% على "مستثمرين استراتيجيين"، يُقصد بهم الصناديق السيادية الخليجية الصديقة، لا تكفيهم في المقابل نسبة أسهم لا تمنحهم حق الإدارة الذي يسعون إليه.
ومع التراجع الحاد في سعر العملة المحلية والاحتياج العاجل للأموال، فإن الأسعار التي ستطرح لشراء الأنصبة المطروحة للبيع لن تكون بالضرورة هي الأفضل.
والخلاصة، أن القطاع الخاص لن يقود قريبًا عملية التنمية في مصر كما ينادي الصندوق، الذي لا تمانع الحكومة ترديد شعاراته فقط من أجل الحصول بشكل عاجل على القرض والأموال الأخرى المنتظرة من دول الخليج، لسداد الديون وفوائدها، واستيراد السلع الأساسية.