IMDB- برخصة المشاع الإبداعي
مشهد من فيلم توري ولوكيتا

ذلك القادم من الجانب الآخر ليس أنا بالتأكيد

منشور الثلاثاء 7 مارس 2023

لم يكن العام الماضي سهلًا في أي من صوره، فما كاد الإنسان يتعافى من وطأة جائحة كورونا، حتى خيمت الحرب الروسية على أوكرانيا بظلامها الذي عاد يذكر بالنهاية المحتملة للعالم. في ظل تلك الظروف الإنسانية والاقتصادية الصعبة التي فرضتها الجائحة والحرب من بعدها، يبدو طبيعيًا أن تعالج سينما تلك السنة ذلك الرعب/القلق، لكن اللافت أن أكثر من عمل صدروا في نهاية 2022 دارت عن الخواء الوجودي.

فنصوص سينمائية متعددة، ومن جنسيات مختلفة، اهتمت بطرق متباينة برصد العلاقة بين الذات والآخر، والبحث عن إجابة شافية لسؤال يتكرر ضمنيًا داخل قصصها مفاده "من أنا؟"، وآخر يتبعه بالضرورة "لماذا أنا هنا بالتحديد؟".

تعالٍ مستتر

في فيلم المخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس الأحدث "باردو: سجل كاذب لحفنة من الحقائق"، يستشيط البطل سيلفيرو، المكسيكي المقيم في بلد الأحلام، غضبًا أثناء حواره مع موظف جوازات المطار، قبل دخوله إلى الولايات المتحدة، حين يرفض الأخير اعتباره أمريكيًا، في الوقت ذاته ينعته سلفيريو بالصفة نفسها نظرًا لملامحه التي تشبه الهنود أو ربما السكان الأصليين للقارة الجديدة.

ترايلر فيلم باردو


موقف عبثي يُغلف بكوميديا سوداء يعيشها شخوص "بادرو"، وفي مقدمتهم سيلفيرو، الذي يبحث عن ذاته وسط مجد زائف، فهو العالق بين عالمين؛ المكسيك التي غادرها منذ عشرين سنة ويوهم نفسه بالانتماء إليها عبر صناعة أفلام وثائقية عن مهمشيها، وأمريكا التي يعيش فيها ويحمل جنسيتها دون أن يتمتع بمواطنته كاملة، مما يكسب شخصيته ازدواجية ينكرها خلال أحداث الفيلم المتلاحقة.

عادة ما نلاحظ في أفلام أليخاندرو جونزاليس اغتراب البطل عن عالمه على صعيد الحدث والشعور، كما في أفلام Birdman, Babel, Biutiful، لكن اللافت في تجربته السينمائية الجديدة، هو تقديمه بطلًا يغترب عن أفكاره بالمثل، وكأنه يعيش في عالم موازٍ يتعالى فيه عن حقيقته وجوهره ليقع فريسة سرمدية الضياع بين الصدق والادعاء.

لا يخلو "باردو" من الرمزية التي تتجلى في رفض طفل سلفيرو القدوم للحياة وتفضيله البقاء في رحم أمه، حيث يقع الفيلم وأحداثه في منطقة وسط بين الواقع والخيال السحري، أو بالأحرى ديستوبيا سحرية تنتهي بمواجهة سلفاريو لذاته التي لا يعرفها.

القضاء على الذات

رغم اختلاف القصة والحبكة بين باردو وفيلم القديس عمر Saint Omer، لكنهما يلتقيان من حيث الجوهر والتناقض الذي يعيشه أبطالهما، والحضور الواضح لسؤال "من أنا"؟

بشكل عام تهتم المخرجة الفرنسية أليس ديوب في أفلامها بثيمة الذات والآخر من خلال حكايات المهاجرين، حيث تكشف ملامح الادعاء والإنكار في بعض الأحيان التي يعيشها الشخوص داخل أعمالها التسجيلية، وكذلك فيلمها الروائي أول القديس عمر الحاصل على جائزتي أسد المستقبل ولجنة التحكيم الكبرى بمهرجان فينيسيا 2022.

ترايلر القديس عمر


ينطلق الفيلم من حكاية راما التي تُدّرس في الجامعة وتستعد لكتابة رواية جديدة مستوحاة من قضية لورانس كولي، الفتاة الإفريقية الوافدة لفرنسا للدراسة التي تتهم في جريمة قتل لجنينها.

منذ اللحظة الأولى تعتمد ديوب في سرد حكايتها على توريط المشاهد مع الأبطال، بداية من راما التي لا تنفك تتابع القضية حتى تتوحد بطريقة ما مع بطلتها.

يتشارك الاثنان لون البشرة والمشاعر المتباينة تجاه جنين حملت به لورانس من فرنسي يكبرها سنًا، كذلك فإنهما يتماهيان مع "ميديا" بطلة النص المسرحي الذي تدرسه راما لطلابها، ويحكي أسطورة إغريقية لأم قتلت أبنائها للانتقام والبحث عن حياة جديدة، فيتحول ما يضمه  النص من أفكار متناقضة مثل الحب والكره، الحقد والعشق، الوجود والعدم، المجد والذل، إلى مشاعر إنسانية تعيشها المرآتان، أو النساء الثلاث إن حسبن ميديا، وكأن كل منهن الوحيدة في الحياة التي تعيش تلك المشاعر وتحاول النجاة منها بمفردها.

يتعامل الفيلم مع الذات على مستويات عدة، حيث يقدم تأويلات مختلفة لقيمة الوجود، بداية من العيش في بلاد تنظر بعنصرية للغريب، وتنمطه كمُستغل دائم، كذلك الوجود على قيد الحياة ومن يمتلك سلطة البقاء، حين استباحت لورانس إنهاء حياة طفلتها الرضيعة بيدها كما فعلت ميديا، وكما تفكر راما أن تفعل تفاديًا لشعورها الدائم بالاغتراب عن عالمها وواقعها.

القديس عمر فيلم يعتمد على قصة حقيقية لسيدة أنهت حياة طفتلها بيدها وحضرت المخرجة أليس ديوب جلسات محاكمتها كما فعلت راما في الفيلم، الملفت أن العمل لم يقف عند حدود الجريمة المعلنة أو السيدة المهاجرة بل يتجاوز لطرح وجودي عن قيمة الحياة وهوية صاحب اليد العليا في رسمها، من زاوية نسوية بجدارة تتواكب مع معجزة الميلاد والموت، ليعبر عن ثقل متراكم متوارث يحمله المهاجرين جيل بعد آخر رغم النجاح والتحقق الظاهري.

الواقع القاسي على الشاشة

ينتمي الأخوان لوك وجون بيير داردان، إلى عالم الواقع وما يحمله من تفاصيل، كما هو الحال في فيلمهما الأخير "توري ولوكيتا Tori and Lokita"، الحاصل على سعفة كان الذهبية للذكرى 75، الذي يعد صرخة صامتة في وجه قسوة واستغلال المهاجرين في الشمال.

ترايلر فيلم توري ولوكيتا


يقدم الفيلم توري الصبي ولوكيتا اليافعة كشقيقين يحاولان تأمين حياتهما في أحد ضواحي بلجيكا، غير أن الأحداث تكشف لاحقًا عدم وجود صلة دم بينهما، وفيما تحيق بهما الصعوبات، يضطران للانخراط في توزيع المخدرات لتأمين المال، غير أن الأسوأ لم يأت بعد،  فيتعرض الاثنان إلى كافة أشكال الاستغلال، مثل الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي، كذلك يكشف الفيلم خلال أحداثه أن أشكال الاستغلال تأتي أيضًا من أصحاب البشرة السمراء أصحاب النفوذ في تلك البلاد.

من دون تجميل يقدم الأخوان داردان الواقع والحقيقية على الشريط السينمائي، بعيدًا عن الرمزيات كما فعل أليخاندرو جونزاليس في تعامله مع أزمة الإنسان والوجود والبقاء مبتعدًا عن التأويل الوجودي في عالم أليس ديوب، فبحسب الأخوين داردان السينما وجه آخر للواقع لذلك يسيران مع توري ولوكيتا رحلة انتهت بشكل دراماتيكي تفرقا خلالها، رغم استمرار حلمهما بآدمية لن تتحقق.

إن الأفلام الثلاثة سالفة الذكر، رغم اختلاف قصصها الواضح، فإنها تتفق في رؤية واضحة للعالم المخيف والمليء بتناقضات تكبل الفرد أثناء محاولاته المتكررة لإدراك النجاة، بعيدًا عن الجماعة التي لم تعد تمثل سبيلًا أو غاية في حد ذاتها. هل تلك المحاولات قراءة للعالم الحالي الذي أدت به "الجماعة" إلى الهلاك؟ هل الفرد ينجو وحده؟ اللافت أن سؤال "من أنا" هو الخطوة الأولى نحو الجماعة وليس العكس. ولكن الإجابة عليه ضرورية لنجاة الأخيرة.