كيف هبط لقب "باشا" في مصر حتى صار يطلق على "أمين الشرطة"؟ هل يختلف ذلك عن إطلاق المصريين "باشمهندس" على الميكانيكي، و"دكتور" على أي أحد الآن؟ هل هو خوف في الأولى، ومجاملة في الثانية، وتدليل في الثالثة؟ أم سخرية مبطنة؟ أم انتقام يسكن اللا شعور من كل صاحب لقب حقيقي أو مكانة علمية؟
إن المصريين بارعون في جذب الألقاب إلى طاحونة السخرية التي يمسكون جيدًا بمقودها. وكلما اعتمدت السلطة على فئة معينة في بناء مشروعها ثم أخفق ذلك المشروع، سارع الناس إلى تلقف الألقاب، مهنية كانت أو مستمدة من وجاهة مستحقة أو مشتراة، وطحنوها، ليفرغوها من مضمونها في أغلب الأحيان. وأحيانًا يفعلون ذلك تشبهًا وتمثلًا لتلك الألقاب لتعويض أي نقص يسري في نفوسهم حيال الوظائف الرسمية الكبرى.
التدرج الوظيفي للقب
فحين اعتمد النظام الناصري على المهندسين في المشروع الصناعي، صارت وظيفة الهندسة قرينة بحلم السلطة، فلما انتهى الأمر إلى تزعزع ذلك المشروع مع الانفتاح الاقتصادي. لم يعد اللقب مربوطًا بكليات الهندسة إذ صار المصريون يطلقونه على أي شخص. وسارع خريجو المدارس الصناعية إلى التقاط اللفظ وحملوه، وارتاحوا لمناداة الناس لهم به، ثم دخلت فئة الحرفيين، لاسيما الميكانيكية، وصاروا أيضًا ينادون بـ"باشمهندس"، وأمعن الناس في الابتذال والسخرية، أو في التدليل والمجاملة، فكان يفرقون ضاحكين بين "الباشمهندس" وهو خريج كلية الهندسة، و"الباشمهندز" وهو أي شخص له علاقة بعالم الآلات والورش حتى لو كان أميًا.
قبل المهندسين كانت السلطة تعتمد على الحقوقيين وممثلي النخب السياسية في مرحلة ما قبل يوليو 1952، فكان منهم رؤساء الأحزاب والزعماء وقادة الرأي العام وبعضهم صاروا كتابًا وإداريين كبار. وكان لقب "ميتر"، ولا يزال، يطلق على المحامين، لكنَّ الناس يتهكمون على أي محامٍ لا يملك أدواته جيدًا بوصفه أنه "نصف متر" وأحيانًا "ربع متر" وهكذا.
ومع النخبة العسكرية التي صعدت في الحياة الإدارية ظهر لقب "كابتن"، موزعًا على عالم الرياضة، لا سيما كرة القدم، وضباط الجيش الذين تقاعدوا وساحوا في السلك الإداري، ومنهم من كان يحلو له أن ينادى باللقب الذي يحمله داخل التشكيلات العسكرية وهو "أفندم"، الذي لا يخلو من رائحة لقب "أفندي" أيضًا، الذي كان أول درجة في سلم المكانة الاجتماعية، يتبعه البيك ثم الباشا، لكن "أفندم" فيه اختلاف كثير عن "أفندي"، فالثاني درجة في سلم الترقي الاجتماعي، والأول تعبيرًا عن الهيبة والطاعة.
في الريف استمر الفلاحون ينادون أبناء المدارس وخريجيها باسم "أستاذ"، وهو تقليد لا يزال قائمًا إلى الآن وإن كان في تراجع. فحين يسبق أحدهم اسم ما يناديه بلقب "الأستاذ فلان" يدرك السامعون أن المنادى قد نال حظًا من التعليم، جعله جديرًا بذلك اللقب.
ولما اعتمدت السلطة على حملة الدكتوراة في تولي المناصب الوزارية وما دونها، أكبر الناس هؤلاء، فلما واصلت الدولة إخفاقها في بناء مشروع قادر على صناعة النهضة والتقدم، جذب الشعب لقب "دكتور" إلى ساحة السخرية أو المجاملة، فصاروا يطلقونه على أي أحد، واتسع ذلك الأمر، حتى أصبح ظاهرة، لا تخطئنها الأذن على المقاهي، وفي الشوارع.
سألت ذات مرة نادلًا يعمل في مقهى، بعد أن لاحظت تكرار مناداته لكثير من الجالسين بـ "الدكتور": هل كل هؤلاء دكاترة فعلًا؟ فأجابني "أنا أريح الزبون.. والكلام ليس عليه جمرك". تزامن ذلك مع منح الفضائيات كل يوم لقب "دكتور" لكثير من ضيوفها، بتدبير من عندها، حتى يبدو للمشاهد أنه الرجل المختص في الموضوع المطروح للنقاش.
بين الضيوف من كان يلفت انتباه المذيع إلى أنه ليس دكتورًا، ومنهم من استحسن اللقب فصمت، وحتى الذين نبهوا، لم يجدوا أذنًا مصغية، في ظل إصرار المعدين والمذيعين على ذلك، فصمتوا في كمد، وبعضهم ظل يرى أن ذلك ليس من حقه، أو أن منحه اللقب عبر التلفزيون هكذا بلا عناية، قد يدعو من يعرفونه جيدًا إلى السخرية منه، أو اتهامه بانتحال صفة ليست له. هناك من ذهب لمواصلة دراساته العليا، كي ينجو من المناداة بلقب لا يحمله.
حتى الدكاترة أنفسهم راحوا يسخرون من أوضاعهم، ففي النهاية الدكتوراة درجة جامعية أو شهادة دراسة كبرى إن لم يكن المستوى العلمي والمعرفي لحاملها معبرًا عنها تحولت من مزية إلى عبء. فالذين يستحقون اللقب، لأنهم حازوه عن جدارة، راح يؤرقهم بمرور السنين منحه بإفراط إلى من لا يستحقونه، حتى أنني وجدت أحد حملة الدكتوراه ينادي بائعة الفجل في السوق بقوله "يا دكتورة"، وراحت تنظر إليه في عجب، وفي عينيها شعور بأنه يسخر منها، لكنه في الحقيقة كان يسخر من نفسه.
ما يُخلع من ألقاب غير مستحقة على كثيرين فهذا ترتيب تصنعه القريحة الشعبية المفعمة بالتحايل والمداراة والسخرية أحيانًا
أخوية الجماعة
أيام صعود الجماعات السياسية الإسلامية في الحياة الاجتماعية المصرية شاع لقب "أخ"، فكل منهم كان ينادي زميله في الجماعة أو التنظيم بـ "الأخ"، فيسبق كل قول يوجهه إليه بـ "يا أخي"، معتبرًا أنها أخوَّة في الله. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء الأعضاء، بل راحوا يطلقونه على أي أحد توددوا إليه، أو لتقريبه منهم.
ووجد بعض الأعضاء ممن لا يحملون شهادات دراسية أو بين الحاصلين على الدبلوم فقط، في كلمة "أخ"، فرصة للشعور بالمساواة داخل الجماعة، التي لا تبني هرمها المادي والمعنوي على الشهادات العلمية إنما أسباب أخرى، قد تكون الإخلاص أو الأقدمية في صفوفها، أو دفع ثمن أكبر جراء الانتماء إليها، أو تحصيل معرفة دينية أكثر.
وقد شاهدت بعيني كيف كان حملة الشهادات ممن لا ينتمون لتلك الجماعات يضيقون بمناداتهم بـ "أخ" معتبرين ذلك تمييعًا لحالهم، أو تقليلًا من شأنهم، وحين كان بعضهم يعترض، لأنه مهندس أو طبيب أو مدرس، ويريد مناداته باللقب الذي يستحقه كان أتباع الجماعة يردون عليه "هل تكره الأخوة في الله يا أخي"، بل إن هؤلاء كانوا يعتبرون أن لقب "أخ" عزيز وغالٍ، وعلى من يُنادى به أن يحمد الله عليه، ويتمسك به، لا أن ينفر منه.
دعه ينتعش
قد نرى في كل هذه الألقاب إما سخرية أو تمييعًا أو محاولة لفرض تصور أو اتجاه سياسي أو ديني، لكن هناك ألقابًا أخرى يستملحها المنادون بها، فالضباط ينادي بعضهم بعضًا بـ "فلان بيه"، وكذلك يفعل وكلاء النيابة والقضاة. أما المواطن فينادي رجال الشرطة، بدءًا من الأمين أو الصول وحتى اللواء بلقب "باشا"، أيًا كانت رتبة الضباط، ودرجة صف الضباط. وانسحب الأمر في السنوات الأخيرة على بعض ضباط الجيش، لا سيما أولئك الذين انخرطوا في الحياة الإدارية داخل الدولاب الحكومي.
ولا تخلو مناداة المواطن لأي من هؤلاء بـ "الباشا" من تحايل، يتصف به المصري في تعامله مع رجال يمثلون السلطة أو يعبرون عنها. فالناس قد وجدت ارتياحًا لدى الذين ينادونهم بتلك الألقاب، فأفرطوا فيها، حتى صار أصحابها يستغربون أي أحد ينادي أحدهم برتبته الفعلية، كأن يقول له "يا حضرة الضابط" أو "سيادة المقدم".
ربما أدرك المصري بفطرته أن الضباط هم ورثة دولة البشوات التي كانت قائمة قبل يوليو 1952، فاستعاد الألقاب التي ألغيت في عهد عبد الناصر، ليخلعها على ورثة السلطة، وهم إن كانوا بالأساس ضباط الجيش، الذي أزاحوا الملك، فإن المواطن لم يكن يتعامل مع هؤلاء مباشرة، إلا نادرًا، بينما كل التعامل اليومي يتم مع رجال الشرطة، الذين يمثلون في نظر البسطاء "الحكومة الفعلية"، حتى أن المصري حين يرى دورية شرطة قادمة، يقول "جاءت الحكومة"، وحين تقبض الشرطة على شخص يقول الناس "أخذته الحكومة".
يختلف كل ذلك بالطبع عن الألقاب الرسمية، التي يبدأ المصريون بها كتابة الشكاوى والمذكرات الرسمية والطلبات الحكومية ويتم تداولها أيضًا بين الموظفين في مختلف الدواوين والدوائر والمصالح والهيئات والمؤسسات، كأن يطلق على المدير العام لقب "سعادة"، أو يقال "سعادة السيد" ثم يضاف إليها اللقب "مهندس" أو "دكتور"، فإن كان رئيس العمل قادمًا من الجيش يحلو له أن ينادى بـ "سيادة اللواء". أما الوزير فهو "معالي"، ورئيس الجمهورية "فخامة".
هذا المتبع في دوائر الحكومة يختلف كثيرًا عما يتداوله الناس في الشارع، فمناداة شخص بلقب مربوط بمكانته الوظيفية هو نوع من ترتيب العمل الإداري، أما ما يُخلع من ألقاب غير مستحقة على كثيرين فهذا ترتيب تصنعه القريحة الشعبية المفعمة بالتحايل والمداراة والسخرية أحيانًا، تحت لافتة تقول "دعه ينتعش.. دعني أمر".