في اقتراح يعبر عن مدى قلق قطاع ليس بالصغير من سكان حي الزمالك بالقاهرة، طالبت إحدى المشاركات في جروب مغلق بالتعاقد مع شركة أمنية يمكنها التعامل مع غزو شباب إمبابة والأحياء الأخرى القريبة لشوارع الحي الذي كان أرستقراطيًا في فترة مبكرة من حياته، التي بدأت في القرن التاسع عشر.
لا يختلف الاقتراح كثيرًا عمّا يفعله سكان الكومباوندات "الأرستقراطية الجديدة" التي تحمل أسماء متأمركة، مثل بيڤرلي هيلز، وقطامية هايتس، وأب تاون كايرو. حيث يفحص رجل أمن خاص كل الزوار لإبعاد أي دخلاء غير مرغوب بهم.
يستدعي ذلك للذاكرة مطالبة ممثل كوميدي، كان شهيرًا، الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2014 بأن يمنع الدخول والخروج و"نقفل البلد علينا". كان اقتراح الممثل مستحيلًا لأن مصر تعتمد بشكل رئيسي على أنشطة تحتاج لدخول وخروج الناس منها بسهولة مثل السياحة التي يتعيّش منها ملايين المواطنين وتوفّر العملة الصعبة للبلد.
لا شك لدي في جدية قلق ومخاوف آلاف من سكان الحي الذي دار به الزمان مثلما دار بالطبقات الاجتماعية العليا من المجتمع في الخمسين عامًا الأخيرة. ولكن اقتراح إغلاق الزمالك، رغم شعبيته على الجروب، مستحيل. ليس فقط لأنه يفتقر لأي سند قانوني، ويميز بين المواطنين، بل لأن الزمالك حي في مدينة وليس مشروعًا سكنيًا جديدًا مسوّرًا ومغلقًا على أصحابه. حي به عشرات المدارس والكليات والمطاعم والفنادق والمكاتب المهنية.
ويدرك عدد من سكان الحي المتدهور الحال أن سلطتهم الحقيقية والرمزية تآكلت بشدة، حيث هجر الزمالك معظم الأغنياء نحو الضواحي المسورة الجديدة المحيطة بالقاهرة خلال العشرين عامًا الأخيرة. بينما بات سكانها من الوزراء والمسؤولين السابقين ضعيفي النفوذ، حتى أن عددًا منهم شارك في وقفة احتجاجية أواخر العام الماضي على مشروع لدق خوازيق في النيل وبناء موقف سيارات ضخم في مدخل حيوي للحي. ولم يلتفت إليهم أحد، ولا حتى مسؤول متدني المستوى في المحافظة!
ولكن من هم "الشباب الغزاة" الذين أثاروا قلق السكان؟ ولماذا تدفقوا على الزمالك في السنوات الأخيرة؟
المتنفس الوحيد الباقي في قلب القاهرة!
وسط شوارع الزمالك الضيقة، وعلى الأرصفة المحطمة لشوارعها الأكبر نسبيًا، يسير هؤلاء الشباب بين السيارات الزاحفة في زحام مروري يلتهم معظم اليوم. يُمكنك عند السير في الشوارع الجانبية أن ترى شابًا وفتاة ممسكي الأيدي في حوار هامس يتقارب فيه الوجهان بين سيارتين متوقفتين بحذاء أرصفة انخلعت بعض بلاطاتها وحجارتها.
أو ترى جماعات مختلطة منهم يسيرون في الشوارع في مرح وعبث. يقف الشباب أمام محال بعينها، يلتقطون صورًا لبعضهم البعض بجهد وعناء حتى تكون الصور جميلة. تكتظ المساحات العامة بالشباب في منزل كوبري 15 مايو القادم من المهندسين، حيث يتزاحمون عند مدخل ساقية الصاوي، خاصة لو كانت هناك حفلًا غنائيًا.
أو يتراصون على السور الحجري للنيل عند المنزل الآخر للكوبري القادم من بولاق أبو العلا، وخلفهم على الجانب الآخر من النيل تشهق أبراج ساويرس القبيحة بينما يقف بجوارهم قصر عائشة فهمي تحت حصار الكوبري والدخان والإهمال.
عشرات يسيرون في جماعات تتدفق منها حيوية وطاقة الشباب، وبعض عنفهم وخشونتهم، ورغباتهم المتفجرة، وممارستهم المفرطة لحرية يبدو أحيانًا أنها تبدأ وتنتهي، بالنسبة لهم، داخل هذه الجزيرة المتعبة، الزمالك.
يصل الزحام أشده يومي الخميس والجمعة بسبب عطلة نهاية الأسبوع، ثم في الأعياد حيث يتبارى الشباب أحيانًا في أزيائهم أو قصّات شعرهم. هذه فتاة بجيبة جلدية قصيرة فوق الركبة، وهذا شاب طلى بعض شعره بألوان زاهية، وتلك فتاة بحجاب مبتكر تضع ذراعها حول خصر رفيقها.
يرتدي معظمهم بنطلونات جينز ممزقة بحساب، وأحذية رياضية مقلدة لماركات عالمية، وتي شيرتات تحمل صورًا وشعارات. ويحمل كثير منهم كاميرات تصوير رقمية، بينما يشرع الباقون هواتفهم المحمولة لالتقاط الصور لرفاقهم.
ويقف كثير من هؤلاء المراهقين أمام عدد متزايد من مطاعم الوجبات السريعة والكافيهات، يلتهمون الساندويتشات أو يمعنون النظر في قوائم الأسعار. وفي ساعات الليل المتأخرة، أو الصباح المبكرة، يتشاجر بعضهم، عادة بالزعيق والسباب دون تلاحم. أو يغنون ويتحدثون بصوت عال، فيقلقون راحة النائمين من كبار السن.
يشعر الواحد بطاقة متفجرة من حوله، وجرأة حسية تختفي على الأغلب بمجرد عبور الكباري الخارجة من جزيرة الزمالك إما نحو وسط البلد، حيث يتسكع مخبر بين كل مخبرين اثنين وحيث أُغلقت معظم الأماكن العامة ومقاهي الشارع، أو نحو إمبابة وبولاق، حيث السيطرة الذكورية المحافظة والشوارع الضيقة الخانقة التي لا تمنح الشباب أي فضاء حقيقي، أو حرية، ولو حتى نسبية، في استعراض بعض مشاعرهم وارتداء ما يحلو لهن/لهم.
جنة المطاعم والكافيهات للطبقة الوسطى والفقيرة
وإضافة لوجود بعض الخضرة والشوارع العريضة والحرية النسبية، صار حي الزمالك أيضًا مرتعًا للمقاهي ومطاعم الوجبات السريعة التي تتسيّد شارع 26 يوليو الرئيسي، الذي يقسم الجزيرة قسمين؛ قبلي وبحري.
تهيمن المطاعم على الأرصفة والشوارع الرئيسية. وتتنافس مؤسسات الدولة مع نقابات العاملين فيها مع القطاع الخاص في هذا المجال. تحول مثلًا سور نادي ضباط القوات المسلحة بالزمالك لسلسلة من المحال، أو كما وصفها مدير النادي بأنها شراكة بين النادي والمستثمرين، عبارة عن "كافيهات وكافيتريات... على واجهة النادي ونقّيناها كـ براندات عشان أخدم جميع الأذواق". بينما تسيطر نقابات متعددة على جزء ضخم من كورنيش أبو الفدا.
ولهذه المقاهي والنوادي والمطاعم جمهورها الضخم الذي يفتقر عادة لما يكفي من أماكن ركن السيارات، فتنغلق الطرق بصف ثان من السيارات المتوقفة، والتي يبدو أن الدولة تتعامل معها كلها كمصدر دخل، إما عن طريق المخالفات المرورية، أو غرامات إشغال الطرق لمحال القطاع الخاص، أو لمخالفاتها بشأن الترخيص. وقبل هذا كله تدخل الدولة أو مؤسساتها المتعددة كصاحبة محال ومساحات تعرضها للتأجير، أو تستغل وضعها المتميز لتبني نوادٍ مغلقة على شاطئ النيل.
وليس دخول الحكومة ومؤسساتها في سوق الأرض والبناء والتسليع بجديد منذ بدأ التطوير العقاري المحموم في الساحل الشمالي لآلاف الوحدات التي لا تُشغل سوى شهرين في العام، انتهاء بما يسمي بالمدن الجديدة في أنحاء البلاد في الأعوام القليلة الماضية.
وفي نحو عشر سنوات، اعتبارًا من 2011، زاد نصيب قطاع العقارات في الناتج المحلي الإجمالي خمسة أضعاف ليصبح حوالي 20% بحلول عام 2020 (الصناعة حوالي 16% والزراعة 12.5%). وصارت وزارة الإسكان مركز تحقيق أرباح عن طريق هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وخاصة عن طريق الوحدات الفاخرة والمتوسطة، لتتضاعف أرباحها من مليار جنية سنة 2010 إلى عشر مليارات جنيه سنة 2019.
وفي الوقت نفسه، ومع حمى إزالة الأشجار والمساحات العامة الخضراء بداعي توسيع الطرق وإقامة الكباري، تقلّص نصيب الفرد من المساحات الخضراء العامة في القاهرة ليصل الى 1.5 متر للفرد، مقارنة بـ16 مترًا تتطلبها المعايير العالمية.
تاريخيًا، لم تكن هناك مساحات عامة مشتركة تذكر في الشوارع الأهلية، أو العشوائية، للأحياء القريبة نسبيًا من الزمالك، مثل إمبابة والكيت كات والورّاق وأرض اللواء وبولاق أبو العلا.
لم يبدأ تهاوي الزمالك أو الأحياء "الأنيقة" مع ظهور شباب هذه الأحياء المفتقرة لمساحات عامة، بل ربما بدأ منذ خمسين عامًا وصار لا مفر منه، بعد تشييد مبانٍ شاهقة بطريقة سيئة على بنية تحتية عاجزة عن استيعابها.
المشكلة الحقيقية ليست الشباب.. ولكن!
لا يحتاج الواحد أن يسير طويلًا في شوارع الزمالك ليدرك أن أحد أهم مصادر مشاكلها العمرانية هو غياب أي تخطيط معقول، والشراهة الطامعة لمشاريع استهلاكية، وخاصة المطاعم والمقاهي. وأخيرًا، العدد الهائل لتلك الأبراج الضخمة القبيحة التي تُثقل كاهل شوارع الحي الصغير وبنيته المتعبة.
هناك أبراج جدة والمصري والتونسي والبرج المستدير المرتفع المهجور أمام حديقة الأسماك، وغيرها من العمائر الشاهقة التي تفتقر كلها لما يكفي من أماكن توقف السيارات وترهق البنية التحتية المترنحة للمياه والكهرباء والصرف والطرق في الحي، مع افتقارها لأي عمليات صيانة حقيقة داخلية وخارجية فضلا عن الرداءة في التشييد ومخالفات بعضها لقواعد الأمن والحريق.
كانت هذه البنايات، وليس الشباب، هي بداية الغزو الحقيقي الذي ضرب عرض الحائط بقوانين البناء وبالنسيج الاجتماعي لحي سكني قديم. وتزامن هذا أيضًا مع صعود هائل لما تسميه الدكتورة جليلة القاضي بـ"التحضر العشوائي"، حيث تحولت الأدوار الأرضية للأعمال التجارية، وشُيدت مبان واطئة قبيحة داخل حدائق ومداخل العمارات القديمة لتصبح مطاعم ومحلات بقالة وجزارة، بينما هُدمت العديد من القصور والفيلات الصغيرة لتصبح عمارات شاهقة أو مولات تجارية عجيبة!
وعوضًا عن حل مشاكل الأحياء القديمة، التي كانت عريقة مثل الزمالك وجاردن سيتي وهليوبوليس وشبرا ووسط البلد، صارت أحياء الطبقات الوسطى في مصر نهبًا لمشاريع الكسب السريع قصير الأجل. وفي نفس الوقت، صارت بعض الأحياء التي احتفظت ببعض المساحات العامة ملجأً للشباب المختنق في الأحياء الأفقر والأكثر ازدحامًا، وخاصة تلك المتيسر الوصول لها سيرًا على الأقدام، أو بمواصلات سريعة منخفضة الثمن نسبيًا.
الماضي القريب والحاضر البائس يشيران إلى أن مصير هذه الأحياء شبه المحتوم، مثل سابقاتها في القرن الماضي، هو الاهتراء البطيء تحت أعين حكومة ونخبة قررت الفرار إلى الأحياء المسوّرة والتجمعات البعيدة نسبيًا، وترك المدينة القديمة وقلبها تتهاوى أو تعاني من خطط عجيبة لتحويل بعض عشوائياتها إلى مناطق سكنية وتجارية تشبه مدن الخليج، مثلما جرى في مثلث ماسبيرو، أو يسعى البعض حالمين للقيام به في جزيرة الوراق التي تقع شمال جزيرة الزمالك.
لا يترك هذا أمام بعض سكان الزمالك العاجزين عن إيصال أصواتهم ورغباتهم رغم ما تبقى لهم من مكانة اجتماعية سوى التفكير في حلول مستحيلة مثل بناء أسوار تحميهم من غزو الطبقات الأفقر أو الأدنى اجتماعيًا. أو توظيف شركات أمن تقرر من له حق دخول الحي وتقوم بطرد أو إخضاع المخالفين!
صارت الخصخصة، بما فيها الحلول الأمنية، هي الحل الوحيد المطروح ممن يسعون للحفاظ على ما تبقى، بعد أن صارت خطة الحكومة المفضلة للفرار من الحلول الصعبة للمشاكل المزمنة هي الخروج من العاصمة القديمة وتركها لمصيرها. أو القيام بتدخلات تهدف للحصول على مزيد من الإيرادات لها ولقطاع الأعمال في مجالات التشييد والبناء ومحال الاستهلاك اليومي.
لا ضوء ما في نهاية هذا النفق المظلم الذي انحشرت فيه القاهرة سوى السعي بكل الوسائل الممكنة لإيقاف ما يُسمى بعمليات التطوير، حتى تتبدل الأوضاع السياسية والاقتصادية، ويصبح بمقدور سكان كل حي ومدينة في مصر المشاركة في اتخاذ القرار عبر مجالس محلية أو غيرها من سبل الحكم الرشيد في تقرير مصيرهم سويًا في إطار قوانين رشيدة حقيقية يتم تنفيذها، ولكن ما أبعدنا عن هذا!
المصادر: من أهم الكتب التي لجأ لها الكاتب من أجل البيانات والتحليلات، بترتيب صدورها، "التحضر العشوائي" لجليلة القاضي، المركز القومي للترجمة (2009)، “Understanding Cairo, The logic of a City out of Control” by David Sims, AUC Press (2010)، و"نشتري كل شيء: تحولات السكن والعمران في مصر"، تحرير يحيي شوكت وشهاب إسماعيل، المرايا (2022)، إضافة لمواقع معنية بالمدينة وعلاقتها بالسكان مثل مرصد العمران.