منشور
الأحد 29 يناير 2023
- آخر تحديث
الاثنين 30 يناير 2023
قبل نحو أسبوعين غرد الأستاذ الدكتور المهندس نجيب ساويرس، مجيبًا عن سؤال من أحد متابعيه على تويتر حول ما إذا كان هناك نظام عسكري حقق نجاحًا اقتصاديًا، بالإشارة إلى تجربة الجنرال "بينوشيه" في شيلي واستعانته بالشيكاغو بويز "، في إشارة لفريق الاقتصاديين الذين تولوا إعادة هيكلة الاقتصاد الشيلاني بعد انقلاب 1973.
نجح ساويرس كعادته في إثارة الجدل وجذب الأنظار، ونال جراء تعليقه المقتضب الكثير من النقد وبعض التحليل. فيما انصب النقد على ما رآه البعض تناقضًا في موقف ساويرس بين ادعاءاته السياسية الليبرالية الديمقراطية، وانحيازاته الاقتصادية لنمط نيوليبرالي قاسٍ من الصعب أن يطبق إلا في ظل نظم شديدة القمعية مثل ديكتاتورية أوجستو بيونشيه (1973-1990). وانصرف آخرون إلى نقد تجربة بينوشيه نفسها وفريقه الاقتصادي النيوليبرالي الآتي من جامعة شيكاغو، معتبرين إياها مجرد فقاعة نجاح مزعومة.
بعيدًا عن التركيز على مواقف أو عقائد أو اتساق ساويرس كمحور للتحليل والنقد، يُفهم من تعليق المهندس نجيب أنه إن كان لازمًا ولا بد من حكم سلطوي عسكري، فالأفضل أن يُعطى العيش لخبازه -وخبازوه هنا من وحي تجربة شيلي هم الخبراء التكنوقراط الآتون من واحدة من أفخم أقسام الاقتصاد في الولايات المتحدة آنذاك.
وفقًا لهذه الرؤية، فقد انتفع هؤلاء الخبراء من قبضة بينوشيه الحديدية في إطلاق قوى السوق الحرة ما جعل شيلي واحدة من أسرع اقتصادات أمريكا الجنوبية نموًا، وواحدة من أكثرها تفوقًا من حيث نصيب الفرد من الدخل القومي، وكلها مؤشرات وإشارات للنجاح على الأقل في المفهوم الاقتصادي النيوليبرالي الذي يُعلي من قيمة معدلات النمو ولا يقيم ذات الأهمية لمؤشرات أخرى كالمساواة في توزيع الدخل والثروة، ناهيك عن العوامل غير الاقتصادية كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات.
تزامن تعليق ساويرس حول بينوشيه وإطلاق قوى السوق الحرة مع تعليق "فني" صادر عن المهندس هاني توفيق، الاقتصادي المحلي المشهور، يحتفي فيه بانخفاض الجنيه، فيما عُد تعويمًا ثالثًا أو رابعًا ربما، جاء فيه "هذا هو التعويم المتوقع والمطلوب، فلن يأتي استثمار مباشر وهناك سعرين للدولار، المفترض: 1) حزم تمويلية مناسبة وعاجلة للمتضررين، 2) ذخيرة دولارية لدى المركزى للقضاء المبرم على السوق السوداء".
ما الذي يجمع بين تعليقي ساويرس وتوفيق؟ أرى أمرين على الأقل: الأول هو نوع من الإيمان والتسليم بأن الحل يكمن في قوى السوق الحرة سواء على المستوى الكلي في حالة بينوشيه و"إصلاحات" فتيان شيكاغو، أو على مستوى قطاعات بعينها كسياسة سعر الصرف، فالسوق آلية مضمونة ومُجربة ومحل ثقة، وكل ما ينقص هو إطلاقها من عقالها حتى ينطلق النمو وتزيد التنافسية وينجذب الاستثمار ويتوحد سعر الصرف ويتضخم الوحش وهكذا.
أما الأمر الثاني فهو أن معلقينا الاثنين يريان المشكلة على مستوى السياسات أي الأفعال التي تتخذها السلطة العامة إزاء الاقتصاد بغض النظر عن بنية السلطة أو النظام السياسي أو الأيديولوجيا الحاكمة، فهذه الأمور كلها عوامل "غير اقتصادية" في حد ذاتها، إلا بقدر تقاطعها وتأثيرها على عمل السوق، ولا تهم التفاصيل طالما كان الأمر مسندًا لأهله من ذوي الخبرة أولي العزم من الاقتصاديين النيوكلاسيكيين ليفعلوا "الصح" بإطلاق قوى السوق.
هل يتميز المهندسان ساويرس وتوفيق في ذلك عن غيرهما من المؤمنين المُسَّلمين بأسس النيوليبرالية في العالم؟ لا.. فقد كانت هذه هي العقيدة القويمة طيلة الثمانينيات والتسعينيات. ولكن ما يميز الخط الفكري للاثنين، وهما من رموز اليمين النيوليبرالي في مصر بحكم حضورهما المكثف في النقاش العام حول الاقتصاد، وربما الفن والثقافة والسياسة في حالة ساويرس، ما يميز خطهما الفكري أنه أشد أصولية وسلفية من الخطاب الليبرالي الاقتصادي حول العالم اليوم.
إن رؤية مركبة كهذه من داخل مسلمات النيوليبرالية ذاتها تبدو غائبة عن خيال رموز اليمين الليبرالي في مصر اليوم لصالح تصور جامد ومتجمد في قالب تجارب تاريخية تجاوزها الخطاب النيوليبرالي نفسه
إذ يغلب على الاقتصاديين والمفكرين عالميًا إحساس عميق بأزمة النظام النيوليبرالي سواء اقتصاديًا، مع عدم تعافيه قط من الانهيار المالي في 2008، أو سياسيًا مع أزمة الديمقراطية الليبرالية وحدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي في بلدان ذات تاريخ ديمقراطي مؤسسي عريق مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ناهيك عن بلدان مثل الهند والبرازيل.
ربما لم يفقد هؤلاء إيمانهم بتفوق "السوق" من حيث المبدأ اقتصاديًا وسياسيًا، ولكن لكي يأتي السوق بمعجزاته المُنتظرة، يجب أن يعمل وفق شروط قد لا تكون مُتحققة في عالم اليوم، وبدون هذه الشروط المؤسسية والسياسية فإن الأسواق لا تعمل بل ننتهي إلى حالات من فشل السوق Market Failures.
ولطالما احتلت فكرة فشل السوق قسمًا مركزيًا وجوهريًا في فكر مؤسسي النظرية النيوليبرالية مثل فريدريك فون هايك، الآتي بالعقيدة القويمة من وسط أوروبا في الأربعينيات إلى الولايات المتحدة وهو أستاذ ميلتون فريدمان، الذي هو بدوره أستاذ فتيان شيكاغو، بالنسبة لهؤلاء قد يأتي السوق بمفعول السحر.
ولأن السوق الحرة لا توجد في فراغ بل تتطلب الكثير من الترتيبات المؤسسية والسياسية والاجتماعية والثقافية كي توجد وتستقر، كان العالم خلال العقدين الماضيين يقترب أكثر فأكثر من تعديل تصوراته عن شروط ومحددات عمل السوق. ومن هنا بدأ ينظر البعض إلى اتساع هوة اللامساواة في الدخل والثروة، وأثرها السلبي على الديمقراطية الليبرالية كتعبير عن فشل للسوق.
تماماً كما يرى البعض حاليًا أن غياب دور الدولة التنظيمي كان سببًا وراء أزمات 2008 و2009 المالية، والمصدر المحتمل لأزمات أخرى مستقبلية ربما تكون أشد فتكًا وتدميرًا، عبر عن ذلك الدكتور محمد العريان في كتابه "اللعبة المتاحة" المترجم عن الإنجليزية، والذي يشرح فيه أوجه الضعف في عمل البنوك المركزية التنظيمي، ومن ثم فرص حصول انهيار مالي عالمي آخر. وخلافًا للمهندسين ساويرس وتوفيق، فإن العريان يكتب من مركز النظام النيوليبرالي العالمي كأحد وجوه التحليل المالي وحكماء الاقتصاد.
إن رؤية مركبة كهذه من داخل مسلمات النيوليبرالية ذاتها تبدو غائبة عن خيال رموز اليمين الليبرالي في مصر اليوم لصالح تصور جامد ومتجمد في قالب تجارب تاريخية تجاوزها الخطاب النيوليبرالي نفسه في محاولة تبرير وجوده.
المفارقة، أن شيلي شهدت انتفاضة شعبية هائلة في 2019-2020 أفضت إلى تغييرات سياسية كبيرة أبرزها الإتيان برئيس اشتراكي، واتفاق القوى السياسية على صياغة دستور جديد يحل محل الدستور الذي صاغه ووضعه النظام العسكري في عهد بينوشيه، ورغم عدم قدرتهم على الاتفاق على تفاصيل دستور جديد إلا أن التمسك بالدستور القديم لم يعد مطروحًا.
وجريًا على نفس الخط سمحت الانتفاضة الشعبية في 2019 بإلغاء البرلمان لقانون كان ينص صراحةً على تحويل 10% من مبيعات الشركة الحكومية المصدرة للنحاس إلى القوات المسلحة الشيلانية، وهو قانون صدر لأول مرة في 1958، وتم تكريسه بعد انقلاب 1973، مع العلم أن النحاس يشكل حاليًا نحو 25% من صادرات شيلي الإجمالية بجانب 36% لصادرات تعدينية أخرى، وأن إنتاج وتصدير النحاس يظل في يد شركة كوديلكو الحكومية، والتي لم يفكر بينوشيه ونخبته العسكرية في خصخصتها ذات يوم كونها تمثل مصدرًا أساسيًا من مصادر إيرادات الدولة، وبالأخص المؤسسة العسكرية في شيلي.
لا يمثل ساويرس وتوفيق نفسيهما بل يعبران عن قطاع مهم ومؤثر من النخبة الاقتصادية في مصر ممن يمكن وصفهم بممثلي اليمين المحافظ اقتصاديًا واجتماعيًا، وفيما يبدو فهؤلاء لا تتفق رؤاهم ولا مصالحهم بالكامل مع ما يجري في مصر، ويرغبون في بعض التغييرات هنا وهناك، ولكن خيالهم يعاني من الكثير من السطحية والجمود وربما عدم الإلمام بما يجري حولنا في العالم.