أيام قليلة وتنطلق الدورة الرابعة والخمسين من معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي يعدُّ كرنفالًا اجتماعيًا لا يقتصر الاهتمام به على القارئ المهتم بجديد دور النشر فقط، لكنَّ هذه الدورة التي ستنطلق يوم 24 يناير/ كانون الثاني الجاري ربما ستكون الأصعب على محبي الكتب والفُسَح والعاملين بصناعة النشر على السواء.
لا يتعلق الأمر فقط بتخوف الناشرين من عزوف القراء عن الشراء بسبب زيادة أسعار الكتب، نتيجة القفزة الكبيرة في سعر الدولار أمام الجنيه منذ أكتوبر/ تشرين الماضي وما تبع ذلك من زيادة ضخمة في أسعار الورق، ولكن أصحاب الصناعة أنفسهم لم يتمكن كثير منهم من المشاركة في المعرض لعدم قدرتهم على توفير القيمة الإيجارية للمساحات التي توفرها الهيئة العام للكتاب.
ورغم إقدام وزارة الثقافة على خفض الزيادة المقررة لسعر المتر الخاص بإيجار الأجنحة إلى 5% بدلًا من 12.5% التي كانت مقررت سلفًا، لا تزال تمثل القيمة الكلية للإيجار أزمة لدى الكثيرين.
البيع بالوكالة
لا يستطيع أي ناشر استئجار مساحة أقل من 9 أمتار لو كان مصريًا، و18 مترًا إن كان أجنبيًا، وفي حين وصلت قيمة إيجار المتر حاليًا إلى 1260 جنيهًا، فإنه يحتاج لدفع 11340 جنيهًا على الأقل بالإضافة إلى مصاريف التشغيل الأخرى التي يتطلبها العمل في المعرض المستمر لنحو أسبوعين، وهو ما يمثل عبئًا على ناشر لا يضمن أن تعوض مبيعاته ما أنفقه حتى من دون مكسب.
وكحلٍّ لدعم الناشرين الصغار، قررت الهيئة العامة للكتاب، الجهة التي تنظم المعرض، تخصيص جناح مجمع بمساحة تصل إلى 45 مترًا يتسع لـ 14 ناشرًا من الجدد الذين لا تحتاج معروضاتهم إلى جناح كامل، بحيث تتاح لكل منهم مساحة ثلاثة أمتار لعرض إصداراته، لكنَّ دارًا مثل "معجم" مثلًا، التي تأسست في عام 2020، لا تجده حلًا مناسبًا في الوقت نفسه، لضيق المساحة المقترحة وعدم مناسبتها لعرض إصداراتها "كمان مينفعش أبقى ناشر كتاب للروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد وأحطه في جناح مشترك، يبقى بهين نفسي وبهينه"، حسب حديث مؤسسها أحمد فتحي للمنصة.
لذا قرر فتحي، الذي لن يستطيع المشاركة بنفسه في الدورة الحالية من المعرض، منح إصدارته لناشر آخر يُسوُّقها بدلًا منه في جناحه.
لكنَّ هذه الخطوة التي لجأت إليها معجم مثل ناشرين آخرين لم يتمكنوا من المشاركة في المعرض، تمثل في الوقت نفسه عبئًا ماديًا إضافيًا على الدار المضيفة، ولن تكون خيارًا سهلًا يوافق عليه كثيرون، حيث لا يستطيع أي ناشر عرض كتب دار نشر أخرى بالوكالة دون أن يمتلك جناحًا تقل مساحته عن 18 مترًا، وهذه ميزة ستتوفر فقط لدور النشر الكبيرة التي يضيق جناحها في أحيان كثيرة بإصدارتها هي نفسها، يوضح فتحي للمنصة أن دار النشر الحاصلة على التوكيل "ستقوم بعرض كتبي، لكن ذلك لا يعني أن نقسم القيمة الإيجارية علينا".
الغياب عن المعرض واللجوء إلى الوكالة هذا العام ليست خطوة يقدم عليها الناشرون الصغار وحدهم، وإنما تبحث دار مثل ميريت، الموجودة في سوق النشر منذ 25 سنة، عن ناشر آخر يعرض إصداراتها.
فبسبب تعثرها ماديًا وتراكم مديونياتها من الإيجارات المتأخرة عن المشاركات السابقة بالمعرض، رفضت الهيئة العامة للكتاب أن تمنحها مساحة هذا العام للمشاركة قبل تسديد ما تدين به، ويقدر بحوالي 100 ألف جنيه، حسبما صرح مؤسس ميريت محمد هاشم للمنصة.
وكان إسلام بيومي، رئيس الإدارة المركزية للمعارض، أكد في تصريحات سابقة أن الناشرين الذين لم يسددوا الإيجار في الدورة الماضية لن يشاركوا في معرض 2023 إلا بعد تسديد مديونياتهم كاملة.
ويشير هاشم إلى أنه يبحث حاليًا عن فرصة لعرض كتبه في المعرض في جناح دار المعارف بالوكالة، لكن الأمر ما يزال قيد التفاوض.
ليس دعمًا
قد لا تبدو مبادرات الدعم التي قدمتها وزارة الثقافة والهيئة كافية سواء للناشرين الصغار أو المتعثرين، لكن سعيد عبده، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، يؤكد للمنصة أن الاتحاد طالب بخصم نسبة تصل إلى 25%، خلال اجتماعه مع وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني، ولكنها اعتذرت عن زيادة نسبة التخفيض، فميزانية المعرض مرصودة من قبل توليها الوزارة.
لا يفهم محمد البعلي، صاحب دار نشر صفصافة، السبب الذي يدفع وزارة خدمية مثل الثقافة لرفع خدماتها "وهي المفروض بتقدمها من أموال دافعي الضرائب"
وتولت كيلاني وزارة الثقافة في شهر أغسطس/ آب من العام الماضي، خلفًا للدكتورة إيناس عبد الدايم.
ويرى عبده أن الحكومة تُحاول "جاهدة" دعم صناعة النشر "لكن كل دولة ليها ظروفها الخاصة، فيه دولة تستطيع إلغاء قيمة الإيجار كلها، ودولة ممكن تعمل خصم"، ويُكمل حديثه بقوله "للأسف ليس كل ما نطلبه نقدر نحققه على الأرض"، لا يبرر عبده للحكومة، بحسب قوله "أنا كمان ناشر ويهمني أخدم الناس كلها، أنا مفوض عنهم، لكن في حدود الاستطاعة".
ما يقوله عبده لا يبدو مقنعًا لناشرين آخرين سيشاركون في الدورة الحالية من المعرض بالفعل، ويرون أن تلك "الجهود" حسبما يسمّيها عبده "غير داعمة" من الأساس.
لا يعتقد شريف بكر، صاحب دار نشر العربي، أن الدولة تدعم صناعة النشر من الأساس، فخصم الإيجار بحسبه هو خصم في نسبة الزيادة ولا يقدم حلًا في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الورق بشكل جنوني، حسب قوله.
ويضيف للمنصة "كل الصناعات خلال أزمة فيروس كورونا أخدوا منح أو تعويض من صندوق الكورونا ما عدا النشر"، لذا تشكلت لديه قناعة أن سوق النشر ليست ضمن أولويات الدولة في مقابل دول كثيرة تراه أمرًا حتميًا "لأن أهميته غير المادية أعلى بكتير".
كذلك لا يفهم محمد البعلي، صاحب دار نشر صفصافة، السبب الذي يدفع وزارة خدمية مثل الثقافة لرفع خدماتها "وهي المفروض بتقدمها من أموال دافعي الضرائب".
وتستنكر كرم يوسف، صاحبة دار الكتب خان، الأمر أيضًا، مؤكدة أن المشاركة في معرض الكتاب، يجب أن تكون مجانية "زي ما كتير من الدول العربية بتتعامل مع الناشرين"، مضيفة للمنصة "بنشتغل في صناعة، مكوناتها كلها بتيجي من برة"، وتعتبر تلك المشاركة التاسعة لدار الكتب خان في معرض الكتاب "ودي أول سنة أكون داخلة المعرض وأنا مش عارفة فعلًا هننجح ولا لا".
كيف يكون الدعم؟
ورغم أن فاطمة البودي، صاحبة دار العين للنشر، تقدر قيمة الخصم المُقدّمة من الهيئة العامة للكتاب، مؤكدة للمنصة "لو الهيئة تقدر تقدّم أكتر من كدا لتخفيض الإيجارات كانت عملت، لكن احنا عارفين إن الدولة في أزمة اقتصادية"، لكنه في الوقت ترى أن ثمة حلول أخرى لدعم الصناعة بشكل أفضل.
تقترح البودي أن تبادر الوزارة بإقامة معارض للكتاب داخل قصور الثقافة، يُعفى فيها الناشر من رسوم الاشتراك "لأنه بيكون مُحمل بتكاليف نقل الكتب والإقامة"، وتقترح كرم يوسف وشريف بكر وأحمد فتحي أن تدعم الدولة صناعة الورق، وحول دون احتكاره.
وكذلك يقترح محمد البعلي في حديثه إلى المنصة، أن تُخصص ميزانية للمكتبات في المدارس "كل واحد وهو بيدفع المصاريف، يكون فيه بند للمكتبة، لو تم الشراء منها بشكل دوري من سوق النشر المحلي أو معرض الكتاب، هتساهم في إنعاش سوق الكتاب بشدة"، بالإضافة لتخصيص ميزانية أيضًا لشراء الكتب في مراكز الشباب، والمكتبات العامة وقصور الثقافة، كذلك مكتبات الجامعات، مشيرًا إلى أهمية تعاون الوزارات مثل وزارة الشباب والرياضة والتعليم مع وزارة الثقافة لإنعاش سوق الكتاب.
غير أن سعيد عبده يرى أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الدولة حاليًا تحول دون تقديمها الدعم المقترح، قائلًا للمنصة "مكتبة مصر العامة لسة بتشتري كتب، لكن وزارات زي التعليم والثقافة ميزانيتها في الأساس ضعيفة".
الرهان على القارئ
ربما يكون الاتجاه للنشر الإلكتروني حلًا للأزمة التي يعانيها سوق النشر الورقي، حسب حسين عثمان، مؤسس دار ريشة، التي ستشارك في الدورة الحالية من المعرض من خلال دار نشر أخرى، واتخذت قرارًا بطرح إصدارتها إلكترونيًا قبل طباعتها، فالناشرون كما يقول للمنصة يجب أن يتغيروا "وفقًا للتحديات التي يواجهونها"، وإن دورة هذا العام ستكون "مفصلية في تاريخ الكتاب الورقي".
يقدر الناشرون الذين تحدثت إليهم المنصة، أن تشهد أسعار الكتاب الورقي زيادة تقدر بنحو 40% نتيجة الظروف السابقة كلها، ورغم تأكيد فاطمة البودي أن دار العين، مثلًا، حاولت الالتزام "بأقل هامش ربح عشان نسهل على جمهورنا والكُتّاب إن كتبهم تتباع"، فإن الزيادة المفترضة قد تدفع ببعض الكتب لأن يتخطى أسعارها الـ200 جنيه، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمام دور النشر جميعها والقارئ على السواء.
لذلك أعلن اتحاد الناشرين عن مبادرة مع بنكي الأهلي ومصر لتوفير خاصية تقسيط مشتريات الكتب عن طريق الفيزا خلال الدورة المقبلة من المعرض.
ورغم عبثية أن يقوم قارئ بتقسيط سعر كتاب يريد شراءه، فالأولوية في الشراء حسب كرم يوسف لا يجب أن تكون للقراءة وإنما "للأكل والشرب"، ورغم ذلك ما تزال وزملاؤها يراهنون عليه ويؤمنون بقدرته على إنقاذ الكتاب وصناعته وإن تخلت الدولة عن ذلك.