قبل نحو 6 سنوات، بدأ مصنع إدفينا التابع للشركة القابضة للصناعات الغذائية، إنتاج أول علبة تونة من خلال إجراء بعض التعديلات على خط إنتاج الأسماك، ولاقت تلك الخطوة احتفاء من المسؤولين عن الشركة مع وعود بـدراستهم للمزيد من التطوير في قدرات المصنع.
رغم ذلك لم يدم الاحتفاء الحكومي ببداية صناعة إدفينا للتونة في 2017 طويلًا، حيث توقف الإنتاج التجريبي بعد عدة أشهر.
محاولات الشركة الطموحة تلك لم تكن الوحيدة من نوعها، فقد خاضت مصانع محدودة محاولات شبيهة، لكن المحصلة لم تأت على قدر ما بشرت به من آمال.
قصة إدفينا مع التونة
لا توجد أسباب معلنة من الشركة أو الحكومة لتفسير ذلك التوقف السريع لإدفينا، لكن مسؤول سابق بالشركة وقت تصنيع التونة، قال للمنصة إن إدفينا كان أمامها فرص واعدة للتوسع في تلك الصناعة، خاصةً مع توفر معظم احتياجات الإنتاج المتمثلة في أسماك التونة والعمالة وخط إنتاج لتصنيع العلب الخاصة بها، وآخر لاستخدام مخلفات الأسماك في تصنيع منتجات أخرى. لذا يرجح أن ضغوط المستوردين هي التي ساهمت في التراجع عن تنفيذ المشروع.
ويعلق المصدر بقوله "المستورد كأي قطاع خاص يسعى للحفاظ على مكاسبه المادية ومحاربة أي أفكار تقلل من مكسبه.. استيراد التونة بيكسّب زي الآثار والمخدرات".
لكن مصدر آخر، وهو مسؤول حالي بالشركة، قال للمنصة إن الشركة وجدت أن التجارب الأولى للإنتاج كشفت عن عدم تحقق الجدوى الاقتصادية من وراءه، ويضيف في هذا السياق "لو عملنا خط إنتاج تونة بإمكانيات المصنع التكلفة كانت هتكون أعلى من السعر بالسوق".
الجدال حول جدوى إنتاج التونة انتهى مع الاتجاه مؤخرًا إلى بيع خطوط إنتاج إدفينا في المزاد العلني، التي من ضمنها خط إنتاج الأسماك.
لم تنته إدفينا بمقتضى ذلك المزاد، ففي 2020 تم الإعلان عن استراتيجية تطوير لعدد من الشركات التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية، التي اشتملت على خطة لدمج شركتي قها وإدفينا في كيان يعمل في مُجمع للصناعات الغذائية بمدينة السادات لزيادة المنتجات الغذائية.
لكن مع انتقال الشركة من مقرها السابق في دمياط إلى مدينة السادات ازدادت صعوبة عودتها لحلم صناعة التونة، كون مقرها الجديد يقع بعيدًا عن السواحل ما يرفع من تكلفة نقل الأسماك ويزيد من نفقات الإنتاج.
ويرى النائب بمجلس الشعب، ضياء الدين داوود، أن الشركة كان من الممكن تجديدها في نفس مقرها السابق والاحتفاظ بقدرتها على صناعة الأغذية السمكية، وقال للمنصة "أسطول صيد عزبة البرج على مسافة قريبة من المصنع وبالتالي فإن المكان الأنسب له هو المكان السابق (دمياط) لتقليل تكاليف النقل".
القطاع الخاص على خط المواجهة
يعيدنا حديث مُصنّعي التونة في القطاع الخاص مرة أخرى لسيناريو ضغوط المستوردين كتفسير لمحدودية هذه الصناعة.
يقول هاني المنشاوي، رئيس شركة سمر مون لتصنيع الأسماك، للمنصة إنه تعرض لضغوط من قبل المستوردين عندما بدأ تشغيل خط إنتاج للتونة بمصنع الشركة في عام 2017، لكنه يفضل عدم الاستفاضة في الحديث عن الأمر "مش حابب أتكلم كتير في الموضوع ده.. كل واحد بيدافع عن رزقه".
وتعكس بيانات التجارة ضخامة حجم واردات البلاد من التونة المعلبة، حيث ارتفع حجم الوارد منها من
نحو 107.9 مليون دولار عام 2011 إلى 227.5 مليون دولار في 2021، بحسب البيانات التي حصلت عليها المنصة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وتأتي تايلاند على رأس قائمة الدول المورّدة لمصر تليها فيتنام، بحسب بيانات الجهاز عن أول 9 أشهر في 2022.
وتستورد مصر هذه الكميات، وعلى الرغم من ثراءها النسبي بسمك التونة، فإن تلك الأسماك تستخدم لأغراض أخرى بجانب الصناعات الغذائية. يقول بكري أبو الحسن، شيخ ونقيب صيادي السويس، إن "النسبة الأكبر من أسماك التونة التي يتم صيدها في مصر تكون من البحر الأبيض المتوسط خلال فصل الصيف، ثم تُباع لاحقًا إلى تجار سوق العبور والمطاعم".
والسبب الرئيسي وراء عدم استغلال تلك الثروة السمكية في العملية الصناعية هو أن التونة المصرية المتوفرة على السواحل المصرية هي سمكتيّ الزعنفة الصفراء والزرقاء، وهي أنواع مرتفعة السعر كما يقول المنشاوي، بخلاف سمكة سكيب جاك منخفضة السعر المتوفّرة في تايلاند، التي تستحوذ على جزء كبير من الواردات للسوق المصري.
مشكلة العلبة الصفيح
يظل حديث المصنعين عن "ضغوط المستوردين" غير موثق بأي دليل يثبت صحته، بينما تشير الدلائل الأكثر قوة إلى أن مشكلات التمويل ونقص الصناعات المكملة هي العقبة الرئيسية أمام "تمصير التونة".
وبحسب المنشاوي الذي يرأس شعبة الأسماك بغرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات المصرية، "لا يوجد في مصر سوى خطيّ إنتاج للتونة، أحدهما في مصنع مجموعة بورسعيد ستار والآخر في شركة سمر مون، فيما يجرى إنشاء مصنع ثالث بالإسكندرية".
تجربة سمر مون كانت قصيرة العمر، حيث بدأت العمل في 2017 وتوقفت عن إنتاج التونة منذ 2021، بسبب ما واجهته من مصاعب في التمويل، وفقًا للمنشاوي.
"تلقينا طلبات تصديرية عديدة من الدول العربية والأفريقية لتوريد التونة، لكن المشكلة كانت في صعوبة الحصول على تمويل بنكي لتعزيز الطاقة الإنتاجية بشكل يوفي احتياجات السوقين المحلي والتصديري"، على حد قوله.
أما سليمان جمال، المدير التنفيذي لمجموعة بورسعيد ستار للأسماك، فيوضح أن شركته واجهت مشكلة نقص المتاح في السوق المحلي من العلب المعدنية، ما كان يضطرها لاستيراد هذه الخامات من السعودية، وهو ما رفع التكلفة النهائية للمنتج وزاد من صعوبة منافسته للمستورد.
ومنذ 2019 خفضت "بورسعيد" إنتاجها من التونة إلى 50 ألف علبة شهريًا تُباع في منافذ البيع الخاصة بالشركة فقط.
صعوبة توفّر علب صفيح لتعبئة التونة من ضمن أبرز العقبات التي دفعت شركة سمر مون أيضًا إلى وقف عملية الإنتاج بالمصنع عام 2021 بحسب المنشاوي، "واجهت الشركة صعوبة في استيراد علب التونة بسبب نقص السيولة خلال جائحة كورونا، ثم أتت أزمة توفّر السيولة الدولارية اللازمة للاستيراد بداية 2022 لتُنهي آمال الاستيراد".
حاولت سمر مون حل مشكلة توفّر علب التونة الصفيح باستخدام علب زجاجية صلاحيتها 3 سنوات إلا أنها لم تلقى قبول المستهلكين.
المفارقة أن شركة إدفينا كانت قادرة على حل مشكلة "علب التونة"، إذ كان لديها خطيّ إنتاج علب صفيح وأغطية، لكنهما كانا ضمن خطوط الإنتاج المعروضة للبيع في المزاد العلني.
ويرى المسؤول الحالي بمصنع إدفينا أن هذين الخطين لم يكن من المُجدي استمرارهما، "تلك الخطوط تعمل منذ ستينيات القرن الماضي ومتوقفة عن العمل منذ سنوات، كما أن حجم إنتاجها منخفض للغاية مقارنة بالماكينات الحديثة".
بجانب المشكلات السابقة، عانى منتجوا القطاع الخاص مثل إدفينا من ارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب عدم قدرتهم على تطوير صناعة ملحقة للاستفادة من مخلفات الأسماك، "تتخلص مصانع التونة من 65% من السمكة، ولا تستخدم سوى النسبة المتبقية في عملية التصنيع"، كما يقول سليمان جمال، المدير التنفيذي لمجموعة بورسعيد ستار.
ويضيف "بقية سمكة التونة التي تتخلص منها المصانع حاليًا هي التي تجعل السعر مناسب للمستهلك في النهاية، حيث يمكن الاستفادة من مخلفات الأسماك في تصنيع منتجات أخرى مثل مسحوق السمك الذي يدخل في تصنيع الأعلاف، وزيت البروتين لتصنيع المُصنّعات الطبية، ومياه السمك بالمزارع السمكية كسماد للأرض".
بالرغم من العقبات السابقة، لا زالت شركات مثل "بورسعيد ستار" تطمح في مواجهة هيمنة التونة المستوردة، إذ تعاقدت على استيراد خط إنتاج لصناعة منتجات من مخلفات الأسماك وبالتالي زيادة إنتاج التونة، لكن أزمة ضعف التدفقات الدولارية المتفاقمة منذ مارس/آذار الماضي عطلت من مخططات بورسعيد، والعديد من المصانع التي تطمح في توسع قدراتها الإنتاجية.
"الشركة تنشيء حاليًا مصنعًا جديدًا لمخلّفات الأسماك، لكن أزمة تأخر الإفراج الجمركي عن بعض الماكينات المستوردة بسبب نقص الدولار تسببت في تأخر التشغيل، حيث كان من المفترض بدء العمل به أغسطس (آب) الماضي"، كما قال جمال.