في منتصف نهار الأحد الموافق 31 يوليو/تموز 2016 احتشد قرابة أربعين ألف تركي في شوارع كولونيا الألمانية. لم يؤثر قرار المحكمة الدستورية الألمانية بمنع بث خطاب مباشر للرئيس التركي عبر الفيديو على همة الحاضرين. هتافات المؤيدين تكفلت بحمل رسائل إردوغان إلى مبنى الحُكم في برلين. إعادة العمل بعقوبة الإعدام قرار شعبي، تركيا تصوغ نموذجها الديمقراطي وفقًا لتقدير قادتها لحجم التهديدات، لا مجال لوصاية أوروبية تؤطر حملة أنقرة التطهيرية بمواثيق حقوقية أو طموحات عضوية أوروبية.
انتهت فعاليات التأييد دون أن تتحقق هواجس الشرطة المحلية، التي نشرت قرابة ثلاثة آلاف من عناصرها في شوارع المدينة، بوقوع اشتباكات عنيفة بين مؤيدي إردوغان ومعارضيه الذين انقسموا إلي ثلاث كتل احتجاجية، موزعة بين أضداد اختلفت محليًا واجتمعت على معارضة إردوغان: النازيين والخُضر واليسار. ألمانيا وإن تجاوزت الاختبار الأمني إلا أنها لن تتجاوز الاختبار السياسي بنفس السلاسة. أسئلة عديدة وُلدت من رحم التظاهرات، ومخاوف قديمة جددتها مطالب التظاهرات ترتكز على أضلاع مثلث النفوذ التركي في الداخل الألماني؛ المعادلة الحاكمة لعلاقة أنقرة بالاتحاد الأوروبي في أعقاب محاولة الانقلاب، وعلاقة أبناء الجاليات بالمهجر.
برلين - أنقرة.. بدايات التصدع
لم تمض ساعات علي تلميح إردوغان إلى إمكانية إعادة العمل بعقوبة الإعدام من جديد، حتى سارعت برلين على لسان المتحدث باسم الحكومة شتيفان زايبرت للتهديد بإيقاف نهائي لمفاوضات العضوية الأوروبية حال انتهاك أنقرة للالتزامات الحقوقية الأوروبية ممثلة في بروتوكولي 6 و 13 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي صادقت عليها أنقرة. لا مجال للحديث عن عضوية تركية محتملة على المدي البعيد في ضوء مخرجات مسار التفاوض الذي بدأ رسميًا في أكتوبر 2005. منذ ذلك التاريخ لم يُفتح من فصول التفاوض الخمس والثلاثين سوى سبعة عشر فصلًا، ولم يُستكمل منها نهائيًا سوى فصل وحيد متعلق بالتجارة والاقتصاد. رغم ذلك اعُتبر التهديد الألماني انتكاسة إضافية ليس للمسار التفاوضي شديد التعقيد، وإنما لتوازن معادلة القوي بين برلين وأنقرة، التي شهدت فترة استثنائية من الاختلال لصالح أنقرة في الفترة بين شهري أكتوبر/تشرين الأول 2015-مارس/آذار 2016 في أعقاب أزمة اللاجئين.
التهديد الذي يتدفق عبر اتجاه أوحد من برلين لأنقرة ظل القاعدة التي تُسيّر نمط العلاقة بين حكومتي العدالة والتنمية والمسيحي الديمقراطي طيلة العقد الأخير. في خطوة استباقية لبداية مسار المفاوضات وقّعت الحكومة التركية في التاسع والعشرين من مايو/آيار 2005 على بروتوكول إضافي مكمل لاتفاق أنقرة 1963 الساعي لضم تركيا إلى السوق الأوروبية المشتركة، ومهّد البروتوكول الطريق لعضوية الاتحاد الجمركي. بموجب البروتوكول الإضافي باتت أنقرة ملتزمة بتوسيع قاعدة التعاون لتشمل الدول العشر المنضمة حديثًا للاتحاد ومن بينها قبرص. رغم ذلك رفضت تركيا السماح بحرية حركة السفن والطائرات من الموانيء والمطارات القبرصية في خطوة عدّتها برلين عدائية، فدفعت مع الشريك الفرنسي بالتصعيد إلي أقصاه.
مفوض شؤون توسيع الاتحاد الأوروبي هدد بإنهاء المفاوضات ردًا على التعنت التركي، قبل أن تنخفض حدة الموقف الأوروبي بحلول موعد القمة الدورية في نوفمبر/تشرين الثاني 2006 لتستقر عند حدود تعليق فتح ثمانية فصول من مفاوضات العضوية. لم تكتف برلين بذلك، أكدت علي عدم توافر نهاية متوقعة لمسار التفاوض، الذي ينتهي عادة بانضمام الدولة المرشحة، مع طرح دوائر الدبلوماسية الألمانية مفهوم الشراكة المميزة كخيار أكثر قابلية للتحقق من العضوية الكاملة، وهو الخيار الذي ظل صامدًا حتى أكتوبر 2015.
كسرت أنقرة الإطار الحاكم وحازت للمرة الأولي على موقع المبادرة في التهديد بفضل مصادفة جغرافية جعلتها بوابة لأكبر موجة من النزوح اختبرها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بات بإمكان إردوغان أن يهدد صراحة بإغراق أوروبا باللاجئين، أغرقها بالفعل في غضون ست أشهر بمليون ومائتي ألف لاجيء تدفقوا تحت أعين خفر السواحل التركي للجزر اليونانية الأربع ومنها إلى قلب البلقان وصولًا إلي ألمانيا. أجبر المستشارة الألمانية علي التراجع عن موقف صارم ليمين الوسط بعدم وجود أفق لعضوية تركية محتملة. استثمر العزلة الألمانية في محيطها الأوروبي لتمرير سلسلة من الإجراءات المهددة لجودة النظام الديمقراطي من اعتقالات لإغلاق صحف وصولًا لمقاضاة الساخر الألماني يان بومرمان برضاء كامل من الحكومة الألمانية التي اكتشفت توافر مادة في قانون العقوبات المحلي تتيح قبول الدعاوي المتعلقة بإهانة رموز دولة أجنبية. فرض علي أوروبا شروطًا بالغة القسوة للقبول بإيقاف تدفق اللاجئين عبر مسار شرق المتوسط من الحصول علي 6 مليار يورو، فتح الفصلين 17 و 33 من فصول مفاوضات العضوية، فضلًا عن تسريع خارطة طريق تحرير الفيزا لإعفاء المواطنين الأتراك من فيزا الشنجن بحلول أول يوليو.
استمرت أنقرة في موقع متقدم بأفضلية ورقة اللاجئين حتي حدوث محاولة الانقلاب، بدا وكأن كفة الميزان مالت حيث اعتادت دومًا باتجاه برلين، التي صعّدت بوتيرة محسوبة من ضغطها باستخدام ورقتي العضوية والانتقادات الحقوقية، فكان لزامًا علي أنقرة استكشاف أوراقها من جديد.
حشد كولونيا.. تصدير الأزمة
أكثر الساسة الألمان تشاؤمًا لم يتوقع يومًا أن يشكل العمال الضيوف، الذين قدموا في أوائل السبعينات إلي برلين بموجب اتفاق استقدام العمالة التركية، ربع تعداد المواطنين الألمان من أصول أجنبية. كان مُقدرًا أن يعود الضيوف من حيث أتوا مع انتهاء المهام الموكلة إليهم بحفز المعجزة الاقتصادية الألمانية التي أرسى دعائمها وزير الاقتصاد والمستشار لاحقًا لودفيج إيرهارد في أوائل الخمسينيات. حدث العكس وتمدد الوجود التركي تدريجيًا من كولن إلي بوخوم إلي برلين. لم يتزحزح الإنكار الرسمي رغم ذلك. المراسلات التي نشرتها مجلة "دير شبيجل" في 2014 بين المستشار هيلموت كول ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر عكست عمق الخلل في إدارة مستقبل التواجد التركي. أبلغ المستشار تاتشر في العام 1982 نيته استبدال نصف الأتراك بمواطنين من البرتغال وايطاليا أكثر قدرة علي تقبل القيم الثقافية الأوروبية. نية لم تتحقق يومًا، واستمر تقصير الدولة في مشاريع دمج الأتراك، وأنتج في الأخير انعزال شعوري ومادي فيما يعرف بالأحياء الموازية، وبالتبعية فراغ في علاقة السلطة الفيدرالية بالأتراك، استثمرته أنقرة في بناء أذرع دينية وسياسية تربط أبناء المهجر بالوطن الأم.
الاتحاد التركي الألماني للشؤون الدينية، التابع مباشرة لرئاسة الشؤون الدينية التركية، والمعروف اختصارًا باسم DITIB مثَل - وما زال - اليد الطولى لأنقرة في إدارة الشؤون الروحية للمواطنين الألمان-الأتراك، يكتسب دوره النافذ من واقع سيطرته على نحو 900 مسجد كلاسيكي أو ملحق بالفناء الخلفي، وأخرى علي المنابر بعدد يقارب الألف من الخطباء الموفدين مباشرة من أنقرة، فضلًا عن انتساب ما يزيد عن 120 ألف تركي إلي كياناته.
يمكننا الرجوع للوراء قليلًا، تحديدًا لتاريخ 26 أكتوبر الأول 2008. في ذلك التاريخ افتتح رئيس وزراء ولاية نوردهاين فيستفالن بيير شتاينبروك يرافقه وزير الشئون الدينية التركية علي بارداك أوغلو أكبر مساجد ألمانيا قاطبة، مسجد ميركتس، الذي استوحي طرازه من وحي تصميم مسجد السلطان أحمد في اسطنبول، علي مساحة بلغت 2500 متر مربع، وسعة استعابية ناهزت 1500 مُصلٍ، وقبة يصل ارتفاعها لحوالي 23 مترًا ومئذنة تشق سماء ألمانيا بطولها الواصل 34 مترًا. حينما حل موعد الافتتاح كان العلم التركي يعلو العلمين الألماني والأوروبي، والخطبة التركية مقدمة علي التقديم الرسمي الألماني، في إشارة بالغة الدلالة علي هيمنة أنقرة هلي المشهد الديني لجانب من المواطنين الألمان.
الأذرع السياسية لأنقرة أو تحديدًا لحزب العدالة والتنمية، وإن كانت مستحدثة وأقل تأثيرًا من الهيئة الروحية، إلا أن المهام التي تضطلع بها للتسويق لمشروع العدالة والتنمية في أوساط الجالية التركية ليست محدودة. يأتي في المقدمة اتحاد الأتراك الأوروبيين الديمقراطيين المعروف اختصارًا باسم UETD والذي تولى في مناسبتين تنظيم خطابين حاشدين لإردوغان في كولن عامي 2008 و 2014 عارض فيهما إردوغان من قلب ألمانيا سياسة الاندماج الألمانية المستحدثة داعيًا مواطنيه لعدم قبول الاستيعاب في الوعاء الحضاري الألماني، ثم تحل كيانات أخري في مرتبة أقل كثيرًا كحزب "ائتلاف الديمقراطيين الألمان" تحت التأسيس بقيادة رمزي آرو الذي أطلق برنامجه الأساسي في 26 يونيو/ حزيران 2016، ومبادرة مسلمون في الاتحاد المسيحي MIDU التي تجمع قرابة مائتي عضو من ذوي الأصول التركية، المنتظمين حزبيًا في صفوف قلعة يمين الوسط الألماني، الاتحاد المسيحي الديمقراطي، برئاسة سيهان سوجور المحسوب علي دوائر العدالة والتنمية.
الدوائر السياسية الثلاث ومن قبلها الاتحاد التركي-الألماني للشؤون الدينية مكنت إردوغان من تحقيق نتائج قياسية في الانتخابات النيابية الأخيرة بحصوله علي 60% من أصوات الجالية. قياسًا علي ما سبق كان متوقعًا بشدة أن تستجيب القواعد للمؤسسات الوسيطة حين تقرر أنقرة استثمار ورقة الجالية في مباراتها الطويلة مع برلين.
عشرات ألوف الأتراك حملوا رسالة مفادها أن تركيا ما زالت صاحبة اليد الطولى في إدارة شؤون ملايين الألمان، بمقدورها حشد ألمان لمعارضة سياسات ألمانية، والدفاع عن مباديء لا تتسق والقانون الأساسي الألماني مثل حق الحكومة التركية في إعادة إقرار عقوبة الإعدام، والدفاع عن حكومة لا تنحاز ألمانيا لسياساتها الحقوقية، والهتاف عاليًا بـ "الله أكبر" قبل أداء النشيد الوطني الألماني. نجحت إذن تركيا فيما فشلت فيه ألمانيا تجاه جانب من مواطنيها، نجحت في استغلال ورقة الجالية لتكثيف الضغط السياسي علي برلين في محاولة لإعادة تعريف ميزان القوة بين الطرفين من جديد، والأهم أثبتت المخاوف المتعلقة بقدرتها علي تصدير مشاكلها المحلية إلي الساحات الألمانية بكل ما يحمله الأمر من هواجس حكومية من أن يستغل اليمين المتطرف تضارب الولاءات لصالح مشروعه الدعائي ضد اللاجئين، علي اعتبار أن النموذج التركي يجسد الحال الذي سينتهون إليه بعد عقدين أو ثلاثة، إضافة لمخاوف من إمكانية تطور أي انقسام محتمل بين الأتراك إلي عنف لفظي وربما جسدي، خصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار الفسيفساء العرقية والطائفية والسياسية التي تشكل ملامح الجالية.
جاويش أوغلو: الحشد وحده لا يكفي
اختار وزير الخارجية التركي توقيتًا مثاليًا لمضاعفة الضغط علي برلين. أجري حوارًا مع جريدة فرانكفورتر ألجامينه نُشر في ذروة الفعاليات المؤيدة لإردوغان ، هدد فيه بتراجع تركيا عن اتفاق اللاجئين، ما لم تمنح المفوضية الأوروبية للمواطنين الأتراك حرية التنقل بين دول منطقة الشنجن دون الحصول علي تأشيرة، في خطوة تصعيدية لم تتوقعها بروكسل، خصوصًا بعد حوار الرئيس التركي مع القناة الأولي الألمانية، حيث أكد على التزام أنقرة بجانبها من الاتفاق. السجال الكلامي بين بروكسل وأنقرة اقتصر علي اتهام إردوغان لبروكسل بعدم الوفاء بكل الالتزمات المالية التي أقرها اتفاق اللاجئين في مارس/آذار 2016، أعقبه تفنيد المتحدث باسم المفوضية اتهامات إردوغان بتبيان حجم المخصصات التي بلغت 105 مليون يورو لصالح هيئات إغاثية كمنظمة أطباء بلا حدود، وبرنامج الغذاء العالمي. لكن لم يتم التطرق قط لأي احتمالية للتراجع عن اتفاق اللاجئين.
واقع الحال أن تركيا لا تعلق آمالًا كبيرة علي إعفاء مواطنيها من فيزا الشنجن في وقت قريب حتي لو كان الإعفاء يشكل أحد بنود اتفاق اللاجئين. تحرير الفيزا يرتبط شرطيًا بوفاء أنقرة بخريطة الطريق التي تم توقيعها في ديسمبر/كانون الأول 2013 بين مفوضية الشؤون الداخلية للاتحاد ووزير الخارجية التركي. استوفت أنقرة بالفعل 67 شرطًا ما دفع المفوضية الأوروبية للتوصية بإعفاء الأتراك من الفيزا حال استكمال الخمسة شروط المتبقية. بيد أن أنقرة اختارت التصعيد بادعائها السيادة الكاملة في رفض تطبيق إحدي المواد الخمس المتبقية (المادة 65 المتعلقة بقانون مكافحة الإرهاب) لضمان حرية ملاحقة العناصر المتهمة بالدعاية للحركات الإرهابية.
قوبلت الرغبة التركية بالاستثناء من بند مكافحة الإرهاب برفض أوروبي صارم كي لا تنشأ سابقة قد تتكرر لاحقًا في مفاوضات تحرير الفيزا مع جورجيا وأوكرانيا. ولا يُتوقع بحال أن يتزحزح الاتحاد الأوروبي عن اشتراطاته السابقة خصوصًا مع تفاقم التجاوزات الحقوقية، ولا أن تلتزم تركيا في وقت الاضطراب بما رفضت التقيد به في وقت السلم الأهلي الكامل. ما المقابل الذي تطمح إليه أنقرة إذن في ظل سياق معقد لن يفضي لتحرير الفيزا؟ الصمت الأوروبي أولًا عن ممارسات الحكومة التركية، وإعادة معادلة التهديد لوضع مارس 2016، مع إدراك أوروبا أن أي نكوص تركي عن اتفاق اللاجئين سيعني شرخًا هائلًا في المشروع الأوروبي، لا تستطيع ألمانيا تحمل تبعاته من اهتزاز الثقة في دورها القيادي، وتزايد حدة الاستقطاب بين الكتل الأوروبية، وصعود مضاعف لليمين المتطرف.
في التحليل الأخير..
التصعيد بين برلين وأنقرة ما زالت محسوبًا حتي اللحظة من الطرفين. لا رغبة لتركيا في خسارة أهم شريك اقتصادي لها في القارة أو تقييد أفق المساومة علي الامتيازات الاقتصادية كبديل عن الامتيازات السياسية للعضوية الكاملة. في المقابل لا رغبة لبرلين في تصعيد يفضي لانسحاب تركيا من دورها كشرطي للحدود الخارجية للاتحاد، أو توتر يدفع أنقرة تجاه موسكو بخطوات متسارعة. بين قرار محتمل بإعادة عقوبة الإعدام يقابله إنهاء مباشر لمفاوضات العضوية، وبين رفض أوروبي لتحرير الفيزا يقابله انسحاب تركي من اتفاق اللاجئين، بين هذا وذاك تبدو احتمالات التصعيد في المستقبل القريب أقرب من احتمالات الاحتواء. كلا الطرفين بدأ يتحسس أوراق الضغط الاستراتيجية تحسبًا لتدهور محتمل. وفي حين لم تستطع برلين تطوير أدواتها بما يتجاوز الملف الحقوقي وملف العضوية، نجحت أنقرة في إضافة متغير جديد لورقة اللاجئين، تضمن بموجبه استعادة مساحة القيادة في علاقتها مع برلين.. الجالية التركية في قلب ألمانيا!