الجمهوريات البحرية أو المدن الدولة، هي مدن ظهرت وقويت في إيطاليا وقت تفككها في العصور الوسطى، كوَّنت كل منها قوة اقتصادية هائلة عن طريق التجارة، ثم كونت أساطيل وجيوش من المرتزقة، وصارت لها موانيء ومستعمرات في بلاد بعيدة مثل مستعمرة جالاتا الجنوية في تركيا والتي تحدثت عنها في مقال سابق، وكذلك سردينيا وكورسيكا وجزر بحر إيجة والأدرياتيكي وشمال أفريقيا، بل أن البندقية كانت تحتل قبرص وأجزاء من اليونان، وحاربت أيضًا تلك الجمهوريات واحتلت بعضها بعضًا أحيانًا مثلما احتلت جنوة البندقية وحبست الرحالة ماركو بولو.
من تلك الجمهوريات نذكر أمالفي وبيزا وجنوة والبندقية (فينيسيا) وأنكونا وراجوزا وجيتا وتراني ونولي، التي تركزت على سواحل إيطاليا والبحر الأدرياتيكي وسواحل كرواتيا، وهي ظاهرة ليست قاصرة على العصور الوسطى، فهناك أمثلة أخرى للمدينة الدولة في العصور القديمة مثل روما وآثينا وقرطاج، وغيرها من مدن تحولت إلى إمبراطوريات، وأمثلة أخرى في العصر الحديث مثل سنغافورة وموناكو والفاتيكان وسان مارينو.
من فرط قوة هذه الدول في تلك الفترة أن بابا روما ليون الرابع استعان بجيوشهم في حملاته ونذكر عندما زودت جيتا البابا بالسفن في معركة أوستيا ضد المسلمين، بل أن البندقية استولت على القسطنطينية نفسها لفترة أثناء الحملة الصليبية الرابعة بمعاونة الجنود الصليبيين، وحاولت هي وجنوة وانكونا حمايتها من دخول محمد الفاتح في 1453، وبعدها حاربت البندقية الإمبراطورية العثمانية لخمسة عشر عامًا انتهت بمعاهدة القسطنطينية في 1479.
لكنني سأركز هنا على جمهوريات العصور الوسطى لتشابه ظروف ظهورها وجغرافيتها وتطورها مع جمهوريات بحرية أو دول مدينة جديدة ظهرت مؤخرًا في العصر الحديث، مثل الكويت وقطر واﻹمارات والبحرين، وهذا ليس تصنيفي أنا لهم، لكن تصنيف جيفري باركر لقطر والإمارات مثلًا في كتابه The City-state Through History وكذلك ديفيد روبرتس في كتابه عن قطر، أما اﻹمارات فيضعها في هذا التصنيف كل من الديموجرافي الدنماركي هانسن موجنس والدكتور جويل كوتكين في مقال بمجلة فوربس.
من أهم أوجه الشبه من وجهة نظري هو عنصر الثروة، فقد كان للتجار الكلمة العليا وكوّنوا هم الطبقة الحاكمة في جمهوريات إيطاليا البحرية، فقد كان رجال البنوك مثلًا هم حكام جنوة، ودول الخليج لديها ثراء ناتج من البترول ثم التجارة. أما من ناحية الجغرافيا فالعزلة والحماية الطبيعية عنصرين مهمين في الخليج والجمهوريات الايطالية، ففي الخليج الصحراء تحمي تلك المدن الساحلية، أما في أوروبا فكانت طبيعة تكون تلك المدن من بحيرات مثل البندقية وأنها محاطة بالمستنقعات حمت تلك الدول من الغزو؛ فشل اللومبارديون في الاستيلاء عليها في 1177، وفشل شارلمان، ثم مات ابن شارلمان الملك بيبين عام 810 متأثرًا بإصابته بالحمى أثناء حصاره للبندقية التي فشل في احتلالها.
ولأن الجمهوريات الإيطالية لم تكن ذات حضارة قديمة عريقة تفخر بها، ولا أمجاد تاريخية مثل اليونان وروما، فلجأت إلى السرقة من الحضارات الأخرى، ففي عام 828 سرق تاجران من البندقية رفات مار مرقس الرسول من الإسكندرية بمساعدة رهبان يونانيين بحسب المؤرخ دونالد نيكول في كتابه بيزنطة والبندقية: دراسة في العلاقات الدبلوماسية والثقافية.
وبحسب لوحة من الموزايك تزين كنيسة سان مارك في البندقية، وهي الكنيسة التي بنيت خصيصًا لإيواء جثمان القديس مرقس، فوضعوه في مركب وغطوا الجثمان بطبقات من لحم الخنزير المقدد حتى لا يكتشفه الجنود المسلمين الذين لم يكن مسموحًا لهم بالكشف عن لحم الخنزير. وأصبح مار مرقس هو القديس الحامي للبندقية وكنيسته مزارًا دينيًا مهمًا، يعطي أهمية كبرى للمدينة سياسيًا ودينيًا فوق المنافسين، حتى استردت الكنيسة القبطية المصرية تلك الرفات في عام 1968، وهو ما تحدثت عنه في مقال سابق أيضًا.
لكن والحق يقال لم يكن كل شيء مسروقًا، فلتلك الجمهوريات نصيب كبير في حدوث ما يسمى بعصر النهضة، فقد استقدموا وتبنوا الكثير من العلماء والفنانين والمخترعين إلى بلادهم وأجزلوا لهم العطاء، مثل ليوناردو دافينشي، المولود في فلورنسا، والذي أثرى البندقية بفنّه وأيضًا بهندسته العسكرية التي حمت البلاد ورجحت كفتها على أعدائها.
وكذلك كان لفنانين من جميع أنحاء أوروبا اﻷثر الكبير على العمارة والنحت والرسم، في البندقية، مثل بيتر بول روبنز من ألمانيا وأنتوني فان دايك الفلمنجي الهولندي ودييجو فاليسكويز من إشبيلية بإسبانيا، فمنحوتاتهم وروسومهم مازالت تزين أسقف القصور والكنائس حتى اليوم،
وكذلك تأثر الفن في جنوة بالرسامين الفلمنج الهولنديين، مثل اﻷخوين لوكاس وكورنيلس دي وايل، ونشأت مدرسة الرسم هناك التي صار من روادها برناردو ستروزي.
طموحات خليجية
نشاهد شيئًا مشابهًا لذلك في دول الخليج، فقد أقامت قطر متحف الفن الإسلامي في الدوحة في 2008، الذي يحتوي قطعًا أثرية من كل الدول الإسلامية مثل تركيا وإيران ومصر حيث توجد بالمتحف 63 قطعة أثرية مصرية، واستقدمت المهندس الصيني إيو مينج بي مصمم هرم متحف اللوفر ليصمم هذا المتحف، والذي قال إنه استوحى تصميمه من قرطبة والقاهرة ودمشق.
فهل التزمت الإمارات الصمت حيال تلك المنافسة الثقافية؟ الحقيقة لا، فقد بنت أبوظبي متحف اللوفر في 2017، بعد مفاوضات يقال إنها استمرت 30 عامًا، وانتقادات شديدة لمتحف اللوفر باريس لسماحه بهذا، كان أبرزها اتهام ألان رايدينج من النيويورك تايمز لمتحف اللوفر انه باع اسمه مقابل 250 مليون دولار، وأن هناك صفقة مع الحكومة الفرنسية بمقدار 1,3 مليار دولار، إلى جانب بيع 40 طائرة إيرباص وأسلحة بعشرة مليارات دولار، وترميم قصور فرنسية وإطلاق أسماء شيوخ اﻹمارات عليها. ووقع 4700 من المثقفين الفرنسيين وثيقة تعارض تلك الصفقة الثقافية.
ويُذكر أن المتحف الإماراتي مسموح له باستخدام اسم اللوفر لمدة 30 عامًا فقط. وحرص متحف لوفر أبوظبي على عرض آثار وأعمال فنية من مختلف دول العالم وليس من الشرق فقط.
وجاري أيضا إنشاء متحف جوجنهايم أبوظبي، باستعارة اسم متحف جوجنهايم الشهير في نيويورك باتفاقية مع مؤسسة سولومون جوجنهايم، ويذكر أن الإمارات أيضًا تبث قناة ناشيونال جيوجرافيك أبوظبي وتصدر مجلة بنفس الإسم بالشراكة مع شبكة فوكس العالمية، الى جانب عدد من المشاريع العالمية الأخرى مثل برج خليفة في دبي (اﻷطول في العالم).
وتمنح الإمارات الآن أيضًا جائزة البوكر العربية، التي في الحقيقة ليس اسمها بوكر ولكنها تُمنح بالتعاون مع الجائزة الأصلية واسمها هو الجائزة العالمية للرواية العربية، ورويدًا رويدًا تخفت أصوات العواصم الثقافية الأخرى في المنطقة مثل القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق وتونس، وينتقل مركز الثقل وكذلك الكفاءات والخبرات الى الجمهوريات البحرية الجديدة.
تتنافس كذلك قطر والإمارات في عدد الجامعات الأجنبية التي تفتتح فروع على أراضيهما، ففي قطر فروع لجامعة جورج تاون الأمريكية وجامعة أبردين وجامعة نورثامبريا وجامعة كارنيجي ميلون وغيرها، بينما في الإمارات توجد جامعة نيويورك في أبوظبي ومعهد نيويورك للتكنولوجيا وجامعة السوربون الفرنسية في أبوظبي، وجامعة أميتي وجامعة ميشيجان ستيت وجامعة ميدلسكس ومعهد روشيستر للتكنولوجيا وجامعتي بيرمنجهام وساوث ويلز في دبي.
في زيارات كثيرة للندن اكتشفت وجود منافسة قطرية إماراتية أيضًا في قلب لندن، فاشترت قطر محلات هارودز الشهيرة، واشترت أيضا منطقة كامدن العريقة، والقرية الأوليميبة وفندق كلاريدج وفندق بارك لين انتركونتيننتال وثكنات تشيلسيا والقائمة تطول جدًا. وتمتلك الإمارات متجر بي إتش إس في شارع أوكسفورد، ومتجر هيرميس في شارع مايفير وقصر إسكوت بالاس في بيركشاير ونادي مانشيستر سيتي لكرة القدم، وعددًا ضخمًا من الفنادق والمحلات إلى جانب المنازل والقصور التي انكشف أمرها فيما سمي بوثائق بنما، ويرعى طيران الإمارات تلفريك لندن السياحي الذي يعبر نهر التيمز.
وتحذر مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في بحث منشور على موقعها من دور تلعبه إمارة دبي في الفساد المالي العالمي والجريمة السياسية والمنظمة، فالبحث يبدي قلقه من وجود عناصر إجرامية عالمية تعمل من خلال دبي مثل أمراء الحرب الأفغان ورجال عصابات روس وغاسلي أموال من أوروبا ومخالفين للعقوبات الدولية على إيران، كما يبدي قلقًا من سوق العقارات في دبي حيث يجتذب مسؤولين فاسدين من دول نامية، يشترون عقارات فاخرة بأموال مسروقة من شعوبهم ويستخدمونها لغسيل أموالهم، كما تنشط في دبي سوق للذهب المستخرج من مناطق الصراعات ليتم غسله ودخوله السوق العالمية كذهب شرعي.
ولكن هل يقتصر طموح الجمهوريات الجديدة على الثقافة والتجارة والمال؟ أم أن لها طموحات أخرى عسكرية وجغرافية بل ربما إمبريالية؟
تكونت جيوش الجمهوريات البحرية الإيطالية في غالبيتها من المرتزقة، اعتمدت تلك الجمهوريات على الكوندوتييرو وتعني المقاول بالايطالية، وهو قائد عسكري يوفر جنوده لمن يدفع، واعتمدت تلك الدول عليهم في حروبها ضد بعضها بعضًا وفي حروبها الخارجية، فاستأجرت جنوة 15 ألف جنديًا مرتزقًا في حربها ضد بيزا في 1282، وفي 1406 استطاع المرتزقان أنجيلو تارتاجليا وموزيو سفورزا احتلال بيزا وضمها بالقوة لجمهورية فلورنسا، وكانت من نتائج ذلك أيضًا انقلابات عسكرية مثل استيلاء المرتزق فرانسيسكو سفورزا على الحكم في ميلانو وتعيين نفسه دوقا للمدينة سنة 1450.
بحسب المعارض القطري جابر الكحلة المري فنسبة اﻷجانب في جيش قطر 70%، وفي فبراير/ شباط 2016 أعلنت القوات المسلحة القطرية عن فتح باب تجنيد مواليد قطر من الجنسيات الأجنبية، ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتور طارق فهمي، إن الجيش القطري يحتوي عناصر من باكستان وأفغانستان وجنسيات أفريقية وعربية وخبراء أمريكيين، وتزعم المعارضة الصومالية لنظام الرئيس فرماجو أنه يتعاون مع الحكومة القطرية بتوريد مجندين صوماليين، وتتهم قناة العربية قطر وتركيا بتجنيد 2000 صومالي للحرب في ليبيا، كذلك يتهم المرصد السوري لحقوق الإنسان قطر باستضافة 400 مرتزق سوري.
يقول تقرير لنيويورك تايمز إن اﻹمارات استعانت بمرتزقة من شركة بلاك ووتر اﻷمريكية، لدعم قدراتها العسكرية، كما زعمت صحيفة يوراسيان تايمز الهندية أن الإمارات تستخدم مرتزقة من أمريكا اللاتينية في الحرب في ليبيا واليمن، كما نشر موقع الشرق للأبحاث الاستراتيجية بحثًا لجوناثان فينتون هارفي يزعم فيه اعتماد الإمارات على المرتزقة في ليبيا واليمن، وأن لمحمد دحلان دور في التعاقد مع المرتزقة، كما زعم البحث أيضًا عن تجنيد الإمارات لمقاتلين من الجنجاويد السودانيين للحرب بجوار حفتر.
ويزعم رونين بيرجمان وديفيد كيركباتريك من النيويورك تايمز ان هجومًا ارهابيًا استهدف ميناء بوساسو الصومالي الذي تديره شركة إماراتية ربما يكون تم بتدبير قطري، في إطار حرب بالوكالة بين قطر والامارات على النفوذ في القرن اﻷفريقي، حيث تمول الدولتان فصائل مختلفة بالمال والسلاح والتدريب من اجل السيطرة على المواني والموارد الطبيعية لذلك البلد الفقير، ادى الهجوم الى قتل مدير الميناء وهو من الجنسية المالطية.
وبجانب التدخل الإماراتي العسكري المعروف في ليبيا واليمن، احتلت اﻹمارات جزيرة سقطري اليمنية في 2018 بنشر قوات دون تنسيق مع حكومة الرئيس عبد ربه هادي. وذلك رغم احتلال إيران لثلاث جزر إماراتية منذ عام 1971 وهي طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى.
وتدير شركات إماراتية العديد من المواني الاستراتيجية حول العالم، منها مثلا شركة موانيء دبي العالمية، التي تدير ميناء الجزائر العاصمة وميناء جيبوتي وميناء بورت دو فوتور في السنغال وميناء العين السخنة في مصر وميناء مابوتو في موزمبيق وبورتو نوفو في الأرجنتين وبورتو سوسيدو في جمهورية الدومنيكان وميناء كالاو في بيرو وبورتو كابيلو في فنزويلا وعدد آخر من الموانيء.
العلاقات مع إسرائيل
وحرصت كلتا الدولتين على علاقات جيدة مع دولة إسرائيل، ربما لتحييدها حيال أطماعهما الاستراتيجية الواضحة في المنطقة، فكانت قطر هي أول دولة خليجية تقيم علاقات تجارية مع إسرائيل في 1996، لكن شابت العلاقات الكثير من المشكلات بسبب دعم قطر لحركة حماس، ورعت قطر محادثات بين إسرائيل وحماس في الدوحة في 2015، وزار شمعون بيريز الدوحة في 2007 بشكل رسمي، وزارها من قبل في 1996، وزارت تسيبي ليفني الدوحة أيضًا في 2008.
أما اﻹمارات فوَّقعت إتفاقية سلام بوساطة أمريكية مع إسرائيل في 13 أغسطس 2020، وكانت إسرائيل افتتحت مكتبًا لبعثة دبلوماسية رسمية في أبو ظبي في العام 2015 وان كانت بعثة خاصة بالوكالة الدولية للطاقة المتجددة، وزار عوزي لانداو وزير البنية التحتية الاسرائيلي الإماراتي في 2010، لحضور مؤتمر وكانت هذه أول زيارة لمسؤول إسرائيلي تبعها زيارة لوزير الطاقة في 2016، وفي 2019 تم توجيه دعوة ﻹسرائيل للمشاركة في المعرض اﻹماراتي إكسبو 2020. ولحقت بها البحرين منذ عدة أيام باتفاقية سلام وتطبيع.
وبينما تدعم قطر حزب النهضة اﻹخواني في تونس، اتهم الرئيس السابق منصف المرزوقي اﻹمارات بأنها عدوة للديمقراطية، وأنها تتدخل في السياسة التونسية الداخلية في عدد من التصريحات الصحفية، وزعم اﻹعلامي التونسي سفيان بن فرحات أن الرئيس الراحل السبسي أسر له أن اﻹمارات طلبت منه إزاحة النهضة مقابل الوفاء بالتزامات مالية نحو تونس، وجمدت اﻹمارات مشاريع لها في تونس مثل مشروع بوابة المتوسط ومشروع مدينة تونس الرياضية بعد وصول حزب النهضة للحكم.
والتدخلات اﻹماراتية والقطرية في عدد آخر من الدول العربية مثل الجزائر والمغرب وسوريا ولبنان وغيرها يطول الكلام عنه، واﻷمر لا يتعلق بالسياسة والاقتصاد فقط، فالإمارات مثلا تحاول الاستحواذ على القطاع الصحي في عدد من الدول العربية من بينها مصر وتونس عن طريق ما يسمى مجموعة مستشفى شمال أفريقيا القابضة باستثمارات تصل إلى 200 مليون دولار، وقد اشترت مجموعة أبراج كابيتال اﻹماراتية حوالي 15 مستشفى في مصر منها مثلًا النيل بدراوي والنخيل وكليوباترا والقاهرة التخصصي إلى جانب سلاسل معامل الفحوصات الطبية مثل البرج والمختبر، بحسب المعهد المصري للدراسات، وذلك وسط اتهامات بالاحتكار وارتفاع أسعار الخدمات الطبية للمواطن.
جزيرة اللؤلؤة في قطر
ومن الطريف أن دبي تنشئ العديد من القنوات المائية التي تشبه قنوات البندقية، بل إنها تؤسس فينيسيا عائمة على بعد أربعة كيلومترات من الشاطيء وداخل الخليج، وستستورد قوارب الجندول الشهيرة من فينيسيا اﻷصلية للتنقل داخلها، أما قطر فلديها جزيرة اللؤلؤة حيث تقع فينيسيا قطر بمجاري مائية وكباري تشبه البندقية، هذا الى جانب مول فيلاجيو المبني على هيئة قناة مائية ويمكن التنقل فيه بركوب الجندول.
ظروف ونتائج مختلفة
وفي النهاية، رغم وجود هذه التشابهات بين الجمهوريات البحرية الإيطالية في العصور الوسطى وعصر النهضة، والجمهوريات البحرية الجديدة في الخليج العربي من حيث النشأة وطبيعة الحكام والسياسة الخارجية والحربية، والرغبة في التوسع، وإنشاء موانئ وقواعد ومستعمرات في بلاد أجنبية، بل وفي جانب الثقافة والفن باستيراد ما تفتقده البلاد من فن ومثقفين، إلا أن ثمة اختلافات علينا اﻹشارة إليها مثل اختلاف طبيعة العصر الذي ظهرت فيها تلك الجمهوريات القديمة، ما قبل الدول الوطنية، ونجاحها رغم استيراد العقول واﻷفكار في خلق نهضة ثقافية وحضارية حقيقية، على العكس من الجمهوريات البحرية الحديثة التي تلجأ للفك والتركيب، أو استيراد اﻷسماء والأفكار، دون إضافة عنصر محلي أو المساهمة في خلق نهضة حقيقية.
فهل ستصل دول الخليج الى النهضة التي حققتها الجمهوريات البحرية الإيطالية؟ في الحضارة والفن والثقافة تحديدًا؟ وهل تُبنى الحضارات بالإيجار؟ في ظل الاختلاف بين اﻷزمنة، هل ما نجح في عصر ما قبل الدولة الوطنية بمعناها الحديث سينجح الآن؟ لندع هذا للمستقبل ليقرره.
أعلم أن هذا اﻷمر كان يحتاج لأن أكتب أكثر من هذا بكثير، لكني لم أرد أن أثقل على القارئ الذي يقرأ مقالًا قصيرًا في وسط النهار، وربما أتوسع في الأمر في بحث أكاديمي مستقل.