"سأرسل لك السيجار فور وصولى إلى هافانا". الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، مخاطبًا نظيره المصري جمال عبد الناصر
كان الوقت هو خريف عام 1960، حينما التقطت عدسات الكاميرات صورة للرئيس جمال عبد الناصر، أثناء حديثه مع نظيره الكوبي الشاب فيدل كاسترو، لم يوضح أبيض وأسود الصورة الكثير من تفاصيله، إلا أنه بدا كحديث ودي، وهو الوصف الذي أكده الخبر القصير المنشور على موقع "جمال عبد الناصر" التابع لمكتبة الإسكندرية، ويقول الخبر إن حديثًا غير رسميًا دار بين الزعيمين حول السيجار الكوبي والتماسيح المصرية.
في ذلك الوقت كان عبد الناصر، وبفضل إجراءات اتخذها على مدار 8 أعوام، رسخّ أقدامه كعسكري أزاح حكم الملكية عن مصر، وطارد بسلاح الإقطاع أفراد الطبقة المخملية المقربة من القصر، ورفع شعار الاشتراكية، فكان طبيعيًا أن يكون على قائمة زيارات فيدل كاسترو حديث العهد بالرئاسة، الذي ألحقه الموت صباح اليوم بأبناء حقبة ميّزها التناطح الصريح بين رموز معسكري الشيوعية والرأسمالية.
لليسار دُر
يرتدي زيًا عسكريًا أخضر اللون، مطلقًا لحيته، وينفث فمه دخان السيجار، بالتبادل مع إطلاقه وابل من العبارات الهجومية ضد الولايات المتحدة الأمريكية، ربما بتلك التفاصيل ستحفظ أذهان العالم صورة "كاسترو".
الثوري الشيوعي، هكذا يمكن تعريف الرجل، وفقًا لانحيازاته التي اتضحت مبكرًا، فالشاب المولود منذ 90 عامًا، لعائلة ثرية في إحدى مقاطعات الجنوب الشرقي لكوبا، وبعد أن انهى دراسة القانون في جامعة بالعاصمة هافانا، اختار التمرد ليس فقط على حياة الترف العائلي، بل وعلى نظام البلد نفسه- الرأسمالية- منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي.
وفي سبيل التغيير، قرر فيدل أليخاندرو كاسترو، برفقة شقيقه الأصغر راؤول، التصدي لنظام رئيس بلادهما المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، فولجينسيو باتيستا، بمحاولات ثورية متكررة، تخللها الزج بهما إلى السجن لمدة عامين حتى 1955، ودشن في أعقابهما الأخ الأكبر من المكسيك، حركة مسلحة تحمل اسم "26 يوليو"، تخليدًا لذكرى معركة بين رجاله والحكومة.
وتكللت جهود الشقيقان "كاسترو" وأتباعهما المسلحين، في العام 1959 بالنجاح، حين دخلا في يناير/ كانون الأول العاصمة هافانا منتصرين، لتتحول كوبا إلى النظام الشيوعي، ولا تعرف منذ ذلك لقبًا لرئيسها إلا "كاسترو"، إذ امتد حكم فيدل إلى العام 2008، حين قرر التخلي عن الحكم، لكن لم يذهب الكرسي لغريب، إذ تولى الحكم أخاه الأصغر راؤول.
الديكتاتور القمعي، وهكذا أيضًا يمكن تعريف "كاسترو"، حظى في شبابه بفرصة الانخراط في الحياة السياسية، عن طريق عضويته في الحزب الأرثوذوكسي، ليقضي وهو رئيس على الحياة الحزبية، عن طريق تعزيز قوة الحزب "الشيوعي" فقط، ويصبح "زعيمًا" للحياة العسكرية والسياسية، فضلًا عن تأميم الصحافة وقمع وسجن المعارضين، الذين نجح بعضهم في الفرار إلى منفى اختياري في الأراضي الأمريكية، حيث يقيم بعضهم الآن احتفالات على شرف وفاة "الديكتاتور".
سيجار كوبا وتماسيح مصر
"استقبل الرئيس عبد الناصر، فيدل كاسترو، فى مقر وفد الجمهورية العربية، وبدأ اجتماعهما على الفور" كان هذا مستهل خبر صغير كُتِب بتاريخ 28 سبتمبر/ أيلول 1960.
وتحت عنوان "حديث ودي للرئيس عبد الناصر مع كاسترو"، ذكر الخبر الحديث الودي الذي أعقب المحادثات الرسمية، إذ قال "قدم "كاسترو" لعبد الناصر هدية عبارة عن صندوق رائع من جلد التمساح، ولما فتح الرئيس الصندوق وجد فيه بعض منتجات كوبا المحلية"، وسرد الخبر الحوار: "الرئيس ضاحكًا: كنت أظن أن فيها سيجار هافانا. كاسترو فى حماسة: سأرسل لك السيجار فور وصولى إلى هافانا. الرئيس: لا داعى لأن تزعج نفسك فقد أهدانى راؤول كاسترو كمية من السيجار أثناء زيارته للقاهرة".
وجمع "كاسترو" و"عبد الناصر"، بخلاف الحديث الودي، أمورًا أخرى على أصعدة تنوعت بين الاقتصاد والسياسة والحريات، فكلاهما ارتدى الزي العسكري، وأزاح نظام، وعادى "الإمبريالية الرأسمالية" متجسدة على وجه الخصوص الولايات المتحدة، التي تحالفا مع خصمها اللدود روسيا، وانتهجا سياسات خلقت لهما شعبية على مستوى الفقراء، والفضل لمجانية التعليم والرعاية الصحية، لكنهما في المقابل التصق بهما وصم "الديكتاتورية" بسبب تأميم المجال العام، والزج بالمعارضين خلف السجون.
المخلص لكراهية "أمريكا"
التحالف مع روسيا، الاتحاد السوفيتي السابق، قد تكون سببًا وجيهًا وكافيًا، لخلق عداوة بين نظام كوبا الشيوعية والولايات المتحدة الرأسمالية، لكن بذور العداوة انغرست منذ مهد حكم "كاسترو"، حين أعلن، تماشيًا مع سياسة بلاده الجديدة، تأميم الشركات الأمريكية، لترد "واشنطن" بفرض حظر اقتصادي على "هافانا" حتى اليوم.
شهدت الحرب بين الطرفين معارك عديدة، معلنة وخفية، منها عملية "خليج الخنازير" 1961، التي حاولت من خلالها إدارة الرئيس الأمريكي جون كينيدي إسقاط النظام الكوبي الوليد، على أيدي عسكريين كوبيين، فرّوا من البلاد بعد زوال عهد "باتيستا"، لكنها انتهت بالفشل، وكذلك موافقة "كاسترو" عام 1962، على نشر صواريخ نووية روسية، بالقرب من الأراضي الأمريكية.
ومنذ ما يربو على نصف القرن، ظل"كاسترو" مخلصًا لكراهية الولايات المتحدة، حتى بعد زيارة الرئيس باراك أوباما التاريخية لكوبا، ظل ما في القلب في القلب، فالمعركة التي دارت بلا هوادة، كانت أكبر من التجاوز الدبلوماسي، بعد ما شهدته من جولات، تارة بالخطب والتصريحات مقابل العقوبات، وتارة بمحاولة الإزاحة عن الحكم، وأحيانًا كثيرة عن وجه الأرض بأكملها، عن طريق محاولات اغتيال لـ"كاسترو" قدّرها مسؤولون أمريكيون بـ638 محاولة، تخطاها الرجل جميعًا.
المرض وتقدم العمر وحدهما، فعلا ما لم تنجح فيه الولايات المتحدة، أُقصى "كاسترو" عن الحكم عام 2008، ثم عن الحياة اليوم، لتنطوي صفحة سياسية حملت اسمه وجمال عبد الناصر المصري، ثم هوجو تشافيز الفنزويلي، وأخرى ثورية توثقها صوره مع الأيقونة الثورية الأشهر تشي جيفارا، الذي كان أوفر حظًا بالحصول على إجماع أكبر حول شخصه الثوري الكاريزمي، وذلك بالمقارنة بـ "كاسترو" الذي تتقاطع صفتا الثوري والديكتاتوري في شخصيته.