خلال كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة دعا يائير لابيد رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته، الدول العربية والإسلامية "من السعودية إلى إندونيسيا" إلى الاعتراف ببلاده وفتح حوار مع حكومته، انتصارًا للسلام الذي وصفه بأنه "من أكثر القرارات شجاعة".
لابيد الذي سيترك منصبه خلال أيام ليتسلم غريمه بنيامين نتنياهو قيادة حكومة وصفت بأنها الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، أضاف في كلمته التي ألقاها في نيويورك سبتمبر/ أيلول الماضي "إسرائيل معنية بتحقيق السلام مع جيرانها.. مع كل جيراننا.. لن نذهب إلى أي مكان آخر.. الشرق الأوسط هو بيتنا.. نحن باقون هنا لأبد الآبدين.. وندعو جميع الدول الإسلامية – من السعودية إلى إندونيسيا، أن تعترف بذلك وأن تتحدث معنا ويدنا ممدودة للسلام".
ودعا لابيد جيرانه العرب بأن يحلوا الصداقة والكرامة والخير المشترك محل "الصراعات"، مدعيًا أنهم أثبتوا رغبتهم في السلام "أثبتنا رغبتنا في السلام.. معاهدة السلام مع مصر تنفذ بحذافيرها على مدار 43 عامًا.. معاهدة السلام مع الأردن قائمة منذ 28 عامًا.. نحن دولة تفي بكلمتها وتلتزم بالاتفاقيات.. أثبتنا رغبتنا في السلام من خلال اتفاقيات إبراهيم وقمة النقب والاتفاقيات التي أبرمناها مع العالم العربي".
قبل تلك الكلمة بنحو 6 شهور، نجح لابيد بوصفه وزيرًا للخارجية في حكومة نيفتالي بينيت في استضافة وزراء خارجية مصر والإمارات والبحرين والمغرب في مدينة سديه بوكير بصحراء النقب جنوبي دولة الاحتلال، فيما عرف حينها بـ"قمة النقب".
وبعد انتهاء المحادثات التي جمعت المطبعين الجدد؛ الإمارات، والبحرين، والمغرب، والمُطبع الأول؛ مصر، مع عدوهم السابق وصديقهم الحالي وبحضور الراعي وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، اصطف الجميع على منصة واحدة قرب منزل ومقبرة الزعيم الصهيوني الشهير بن جوريون، وشبكوا أيديهم أمام الكاميرات ووزعوا الابتسامات في كل اتجاه، في رسالة مفادها أن إسرائيل في طريقها لأن تكون دولة طبيعية في المنطقة، وأن قطار التطبيع الذي انطلق لن يتوقف وستلتحق به دول المنطقة واحدة تلو الأخرى.
خلال تلك القمة أعرب وزير خارجية الإماراتي عبد الله بن زايد عن أسفه لضياع 43 عامًا دون أن يتعرف فيها العرب إلى الإسرائيليين بشكل أفضل "أضعنا هذه الأعوام الثلاثة والأربعين (منذ أبرمت مصر وإسرائيل معاهدة السلام عام 1979) وخسرنا على مدار تلك الأعوام معرفة بعضنا بعضًا بشكلٍ أفضل والعمل معًا، وتغيير السردية التي نشأت عليها أجيال من الإسرائيليين والعرب".
منذ عقود طويلة وزعماء الكيان الصهيوني يحلمون بزرع بلادهم كدولة طبيعية في الشرق الأوسط. استخدموا في سبيل تحقيق ذلك القوة العسكرية الباطشة ثم لجأوا في وقت لاحق إلى سلاح السلام والتسلل والتآمر إلى جانب القوة العسكرية، حاولوا بشتى الطرق تهميش القضية الفلسطينية وسعوا إلى ربط جيرانهم بشبكة مصالح اقتصادية وأمنية في سبيل تطبيع العلاقات مع شعوب المنطقة.
في الدول الديمقراطية عندما لا تتفق خيارات الأنظمة مع إرادات الشعوب، تتخلى الحكومات عن مواقعها مفسحة المجال لبدائل تُعبر عن إرادة الناس
نجحت الدولة العبرية بالدعم الأمريكي في جر بعض الحكومات العربية إلى تفاهمات واتفاقيات تطبيع، لكن محاولتهم لكسر الحاجز النفسي مع الشعوب العربية فشلت جميعها، لأن الحقوق الفلسطينية لا تزال ضائعة.
"هدف جهاز الموساد كان دائمًا الوصول إلى وضع نحافظ فيه على العلاقات بمستويات مختلفة"، قال يوسي كوهين الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي، قبل عامين، مضيفًا "نحن نتحدث عن كسر في السقف الزجاجي القائم بيننا والدول العربية، والحديث يدور عن سنوات من الاتصالات التي أديرت بطريقة دقيقة للغاية".
في الدول الديمقراطية عندما لا تتفق خيارات الأنظمة مع إرادات الشعوب، تتخلى الحكومات عن مواقعها مفسحة المجال لبدائل تُعبر عن إرادة الناس، لكن في منطقتنا العربية التي لا تعترف سوى بإرادة الفرد الواحد، فلا مجال لمناقشة خيارات الناس ورهاناتها. فرضت أنظمتنا علينا التنازل وعقدت الاتفاقيات مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، لكنها لم تفلح في تغيير قناعات الشعوب العربية وظلت القضية الفلسطينية رغم محاولات التطبيع البارد والساخن هي قضية العرب المركزية.
لم تتمكن الشعوب العربية من الخروج للتعبير عن رفضها للمعاهدات والاتفاقيات التي أبرمتها بعض الأنظمة خلال العامين الماضيين مع إسرائيل، واعتبر البعض أن صمت العرب على التقارب بين تل أبيب والعواصم العربية هو أحد أشكال القبول بشرعية الأمر الواقع، وأن الحلم الإسرائيلي بالتغلغل في المحيط العربي أصبح قريبًا.
لكن المشاهد التي نقلتها شاشات الفضائيات ومنصات السوشيال ميديا لتعامل عينات عشوائية من الجماهير العربية مع صحفيين إسرائيليين، في كأس العالم بالدوحة أظهرت حجم الرفض والكراهية للكيان الغاصب للأراضي والحقوق العربية في فلسطين.
تحت عنوان "مونديال الكراهية"، كتب الصحفيان الإسرائيليان راز شاشنيك وعوز معلم تقريرًا مطولًا بصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، أبرزا فيه حالة الإحباط التي يعيشها مراسلوا وسائل الإعلام الإسرائيلية بسبب رفض الجماهير العربية التطبيع والتعامل معهم ومقاطعتهم، مقابل الانتصار للقضية الفلسطينية.
واستعرض مراسلا الصحيفة انطباعاتهما بعدما تجولا في شوارع العاصمة القطرية الدوحة وحاولا تبادل أطراف الحديث مع الجماهير العربية.
"غير مرغوب بنا"
ويقول شاشنيك ومعلم في مقدمة التقرير الذي نشر الأسبوع الماضي "عندما وصلنا قطر توقعنا معاملة عادية كصحفيين يغطيان حدثًا دوليًا، لكن بدلًا من ذلك نشعر بالعداء ونواجَه ونُستقبل بالشتائم ونظرات الكراهية من المشجعين من الدول العربية"، وأضافا "في مونديال قطر أدركنا أن الكراهية لإسرائيل ليست من الحكام والأنظمة والحكومات وإنما من الشعوب والناس والجماهير في الشارع..".
وفي رسالة بعث بها التقرير إلى المجتمع الإسرائيلي كتب شاشنيك ومعلم "من المستحيل عدم إطلاعكم على ما نمر به هنا، نحن لا نقصد تجميل صورة الواقع، نشعر بأننا مكروهون ويكتنفنا العداء. نحن غير مرغوب بنا".
ويروي الصحفيان أنه في الأيام الأولى للمونديال "كان في الإمكان تبادل التحيات وأن نقول مرحبًا ونمد يديْنا للمصافحة، عرَّفنا أنفسنا على أننا إسرائيليان، لكن عندما رأينا أن ذلك يؤدي دائمًا إلى مواجهة صعبة وصدام واحتكاك مع العرب وصولًا إلى الشتائم الصارخة بلغة يمكن فهمها، قررنا تعريف أنفسنا كصحفيّين من الإكوادور".
"وقف الفلسطينيون أو القطريون والتقطوا الصور ليسخروا منا، ولوّح المشجعون التونسيون بلافتة ضخمة كتب عليها 'فلسطين حرة' خلال المباراة ضد أستراليا، وتم رفعها في الدقيقة الـ48"، في إشارة إلى نكبة فلسطين في 1948. ويضيف التقرير "انتشر المقطع الذي صوره أحدهم على نطاق واسع ونحن ننكر الجنسية الإسرائيلية وندعي أننا من الأكوادور، حيث حاولت وسائل الإعلام العربية إظهار أن الإسرائيليين جبناء".
هذه الحالة دفعت صحيفة معاريف إلى أن تتساءل "هل سيستمر الوضع في إقامة علاقات مع القادة العرب فقط أم تستطيع إسرائيل تغيير المعادلة بأن تتغلغل للعرب أنفسهم؟".
وقالت الصحيفة في تقرير لها نشر مطلع الشهر الجاري أنه بعد 45 عامًا من زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الصادمة إلى القدس، يجب على إسرائيل أن تجد طريقة لاتفاقية سلام مع الشعب المصري، مشيرة إلى أن المصريين يشعرون بالعار من تلك الاتفاقية.
قد تنجح تل أبيب في جر الأنظمة العربية إلى فخ المعاهدات وقمم واتفاقات التعاون الاقتصادي التي تعقد في العلن وخلف الستار في الغرف المغلقة، لكنها لن تفلح في إقناع الشعوب العربية بأنها دولة طبيعية، ولن تتمكن من التغلغل في مجتمعاتنا، طالما حقوق شعبنا الفلسطيني مهدرة ودماؤه تسيل وأرضه تستباح.
أثبتت الجماهير العربية أنها غير قابلة للتطويع وأنها لم تنس فلسطين ولن تنصاع مثل الأنظمة التي ظنت أنها قد تحفظ أمنها عبر ربطها بالأمن الإسرائيلي، أكدت تلك العينة التي أظهرت ميلها الفطري دون تخطيط أو تدبير وعلى الهواء مباشرة أن دولة الاحتلال ستظل منبوذة، مهما راهن البعض على تذويبها في محيطنا العربي.