منشور
الأربعاء 4 يناير 2023
- آخر تحديث
الخميس 12 يناير 2023
كتبت رسالة نصية قصيرة على واتساب فتلقيت ردًا عليها رسالة صوتية طويلة. ربما كان صديقي يقود سيارته ولا يمكنه الكتابة. ربما يحتاج الواحد وقتًا أقل ليرسل بصوته ما يريد بدلًا من كتابته بأنامله على شاشة الموبايل، لكنَّ الرسالة الصوتية لا تسمح، لشخص مثلي مهووس بالدقة، أن يقوم بالمراجعة والتغيير وضبط الكلمات والمعاني على مهل.
بعدها وصلني إيميل تطلب فيه محررة تعمل على نصوصي الصحفية أن أسجل فيديو عن موضوع المقال. وفكرت أن أرد عليها فورًا: المقال موجود ويفي بالحاجة يا صديقتي. ولكني تمهلت وفكرت بعقلية الناشرة التي تعرف أن الصور والفيديوهات تجلب مشاهدات أضعاف أضعاف ما يجتذبه النص، ويزيد منها أن المتلقي، خاصة على السوشيال ميديا، يشارك الپوستات المرئية مع دوائره أكثر بكثير مما يفعل مع تلك المكتوبة.
ما الجديد في هذا؟ ألم نكن نعرف منذ سبعينيات القرن الفائت أنَّ التليفزيون أقدر على الانتشار، ومن قبلها أن الصورة أوسع تأثيرًا من الكلمة؟ لا جديد سوى أنه رغم كل هذا التفاوت في الجماهيرية، فما زال بعضنا يرى أنَّ الكتب والنصوص هي الملهمة الأولى لمعظم الأفكار التي يتمحور حولها الجدل والنقاش الدائر حولنا حتى لو كان معبَّأً في شكل فيديو أو بودكاست.
هل هذا هو السبب في أنني وآخرين ما زلنا نكتب؟ ربما كان هذا الاعتقاد بأولوية الكلمة سبَّبَ بعض مقاومتنا للتغيير واهتمامنا المقيم بالقراءة والكتابة. وربما كان السبب الأهم هو أنني، مثل معظم أبناء جيلي، من المهتمين بإعادة تقديم العالم والحكي عنه، أكثر دراية وخبرة باستعمال الكلمة المكتوبة عن الكلمة المنطوقة والمنقولة على شرائط فيديو، وأكثر ارتياحًا لها. وهنا طبعًا لا أتحدث عن الإبداع المباشر في مجالات مثل السينما والدراما.
لماذا أكتب؟
أفكِّر في مسألة الكتابة منذ أنهيت مخطوطة كتابي السابع منذ أسابيع قليلة. بالنسبة لي شخصيًا هناك الولع بالتفكير في كيف أنَّ عوالم وحيوات أخرى كانت ممكنة، وأنَّ ما يجري داخل كل منا وواقعه النفسي ربما أهم وأكثر تأثيرًا مما يجري على السطح وفي أرض الواقع، وأنَّ اللغة المكتوبة، لا البصرية، هي سلاحي المفضل في تقديم هذه الوقائع المتخيلة!
ما زالت قدرتنا على العودة لصفحة سابقة أو تناول كتاب من على الرف أسهل من القيام بنفس الأمر مع بودكاست أو فيديو
لا أتذكر متى كتبتُ أول قصة، ومتى كتبتُ أول سطر، أعني كتبت من بنات وأولاد خيالاتي وليس في حصص الإملاء في مدرسة أم المؤمنين الابتدائية في المنصورة. ولكني عشقت الحواديت المكتوبة منذ سن مبكرة، ولا أزال أذكر الغلاف الكحلي لقصة مارد ضخم الصدر يظهر دائمًا بنصف سفلي من دخان خارج من قمقم. كانت القصة على أول رف على يمين الداخل لمكتبة المدرسة الفقيرة، كما أتذكرها الآن، والساحرة المذهلة، كما بدت لي أيامها.
اختطف المارد، الذى بدا لي طيب القلب ومدلهًا في العشق، أميرة كانت ترتدى دائما فستان زفاف أبيض، وحبسها في برج حجري قصير للغاية يمكنها أن تهرب منه متى وإذا أرادت، ولكنها انتظرت حتى أنقذها حبيبها الأمير في الصفحة الثامنة والأخيرة، وأعاد المارد إلى القمقم. كانت هذه واحدة من عدد قليل من القصص التي وافق أمين المكتبة على أن أستعيرها، واحتفظت بها في منزلنا أيامًا قرأتها فيها عدة مرات.
وصرت أكتب حتى حصلت على الجائزة الثالثة في مسابقة القصة في المدرسة الثانوية، عن نضال قرية إفريقية ضد محتل أجنبي. أتذكر القصة بأسماء استقيتها من مسلسلات تليفزيونية أمريكية، وصراع واضح وبسيط بين محتل غاصب أبيض وأفارقة سود يقتربون من مثال التضحية والفداء. قصة خليقة بشاب عمره 16 سنة يرى الحياة بلونين على الأكثر: أبيض وأسود، والصراع الدرامي بين خير محض وشر مطلق. وأعتقد أن عدد الطلاب المتقدمين للمسابقة التي أشرفت عليها المكتبة كان خمسة، وربما ستة.
كان هذا في سبعينيات القرن العشرين، يبدو هذا كما لو كان عصرًا سحيقًا؛ يسبق الموبايلات والإنترنت، بل لمعظمنا في مصر كان عصر ما قبل توفر التليفونات الأرضية الثابتة لدى أغلب الناس، وما قبل الرسائل المسجلة والمصورة.
وفي أواخر السبعينيات فجَّر التسجيل الصوتي، تحديدًا على شرائط الكاسيت، ساحات التواصل في بلادنا وصار المغتربون في الخليج يرسلون أشواقهم صوتيًا مع المسافرين إلى جوار الخطابات المنتظمة، والشيخ كشك ومحبوه يعبئون مئات الشرائط ويبيعونها أمام المساجد، والإمام الخميني يستعد لتفجير ثورة في إيران معتمدًا على شرائط الكاسيت من باريس.
لا شك أن كشك والخميني كانا أوسع تأثيرًا من مجايليهم ممن اقتصروا على اللغة المكتوبة، ولكن معظم أفكارهم ظهرت أولاً في كتب مثل "الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه" الذي نشره الخميني في عام 1969.
لم أتوقف عن الكتابة منذ الثمانينيات، ولا عن القراءة. نحن لا نكتب عن الحياة فحسب، بل عن الكتب، بل إنَّ كثيرًا من هذه الكتب والنصوص التي مرت بنا، وكذا الأفلام والأعمال الفنية والمسموعات وهي كلها نصوص بمعنى ما، تشكل ما يصل لنا من خبراتنا الحياتية المباشرة.
أسبقية الكتابة في التاريخ لن تضمن لها المستقبل!
ظلت الكتابة مهيمنة على وسائل التواصل البشرية المسجلة والممكنة النقل آلاف السنوات قبل اختراع آلات تسجيل الأصوات والصور، الثابتة والمتحركة، في النصف الثاني من القرن التاسع العشر. وربما لهذا فإن قدرتنا على التعبير عن طريق الكتابة ونقل المشاعر والتصورات المركبة ما زالت أعمق وأغنى من مجرد الكلام والخطابة المرتجلة. وربما لأن النص المكتوب ما زال يسمح بسهولة أكبر في التغيير والتعديل والتجويد دون الحاجة لإعادة التسجيل بالكامل.
ما زالت قدرتنا على التوقف والعودة لصفحة سابقة أو تناول كتاب من على الرف، الخشبي أو الإلكتروني، أسهل وأسرع من القيام بنفس الأمر مع بودكاست أو فيديو.
ورغم أن الصورة، الثابتة والمتحركة، أوسع انتشارًا، تظل الفكرة المكتوبة أعمق تأثيرًا وأطول عمرًا. ولكن ليس هذا قدرًا أبديًا في ظل التغيرات التكنولوجية المتلاحقة، والقدرة على مشاهدة وسماع النصوص المنطوقة والمصورة بوسائل مشابهة لتصفح النصوص المكتوبة. بل إن تسجيل وتحرير الفيديو والبودكاست بات أسهل، ولم يعد حكرًا على المتخصصين. وحتى يحدث التحول الدرامي القادم في هذه التقنيات، وهو أمرٌ ليس ببعيد، سنظل نكتب ونقرأ إذا أردنا لأفكارنا ورؤانا أن تكون أعمق، على الأقل لمعظم من وُلدوا قبل نهاية القرن العشرين.