التقيت مرة مع ضابط جيش متقاعد على عشاء بمنزل صديق مشترك في واشنطن، ودار الحديث وقتها عمَّا أفصَحَتْ عنه الصحف الإسرائيلية في يوليو/ تموز الماضي، منهيةً تكتمًا امتد لخمس وخمسين سنة عن وجود مقبرة جماعية لنحو 80 من جنود وضباط الصاعقة المصرية، دُفنوا بالجرافات في حفرة ضخمة سوّيت بالتراب، بعد تعرِّض 20 منهم للحرق بإشعال قش أحراش احتموا بها عقب قتال الأيام الثلاثة الأولى من حرب يونيو 1967، وتوغلهم داخل حدود 1948 بمنطقة اللطرون لمساعدة الجيش الأردني، ثم صدرت لهم الأوامر متأخرة بالانسحاب!
بالتالي، أعلنت رئاسة الجمهورية أن الرئيس تلقى اتصالًا من رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد لتقصي الأمر، وَوَعد الأخير بإجراء تحقيق "شفاف"!
سؤالي المبدئي وقتها في حديثنا الودي كان عن "العقيدة العسكرية المصرية" فيما يتعلق بجثث ورفات الجنود، هل تجب استعادتها من أرض العدو بعد وقف القتال وفي الهدنة أو السلام، أم تركها وراءنا؟
قال أعلم أن الإسرائيليين بسبب شريعتهم اليهودية يصرون في أي مفاوضات على استعادة جثث ورفات ذويهم، ويبادلون بها أسرى أحياء لضرورة دفن ذويهم بشريعتهم. ثم أضاف "لكن بالنسبة لنا فالشريعة الإسلامية ضد نبش القبور وإخراج الموتى، ونرى في ذلك عدم احترام لتلك الرفات، ولا يهم بأي أرض نموت".
قلت له "ولماذا إذن طلب مؤخرًا من أهالينا الذين لهم مقابر بالقاهرة القديمة أن يأتوا لأخذ رفات آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم ويبحثوا لها عن مدافن بعيدة، لأن المقابر تُزال لتوسيع الطرق وبناء الكباري وعمارات جديدة؟!".
سادت لحظات صمت، خفت أن تعكر صفو العشاء المدعوين عليه، لكن سرعان ما رد الضابط المتقاعد عليَّ "أنا لست ضيفًا في أحد برامجك التليفزيونية!"، وضحك ومعه الجميع، والتقط المضيف النقاش لتحويله لموضوع مختلف أعاد به الود بين الجميع!
تذكرت هذه الأمسية، حين قرأت أمس الاثنين تغريدة للصحفي الإسرائيلي يوسي ميلمان، الذي كان كشف بصحيفة يديعوت أحرونوت عن المقبرة الجماعية، يبلغنا فيها قبل أن نعرف من حكومتنا أو إعلامنا، بالتوافق مع مصر على إنشاء نصب تذكاري للجنود المصريين عند المقبرة الجماعية ببلدة نشحون في اللطرون.
وحرص الصحفي في تغريدته الأخيرة على ترديد أن موت الجنود حرقًا لم يكن مقصودًا، وأن وزير المخابرات أليعازر شتيرن اتصل به وأخذ رأيه في كيفية إنشاء تذكار لهم وفقا لاقتراح الصحفي!
كما ذكر موقع قناة iNews24 الإسرائيلي الناطق بالعربية "من المتوقع خلال الفترة القادمة أن يصل وفد مصري إلى إسرائيل لتنسيق إقامة النصب التذكاري"، وأوضح الخبر أن هذا التفاهم جدير بتحسين العلاقات المصرية الإسرائلية، التي قال لهم المصدر إنها توترت في الآونة الأخيرة لدرجة إلغاء تدريبات عسكرية مشتركة وزيارات كان مخططًا لها.
لكنَّ اللافت في خبر القناة المعروفة بدقة أخبارها، أنها لم تنسب التوتر للكشف عن المقبرة الجماعية وشهادات قتل الجنود المصريين العزل، لا، لكن بسبب "سوء الفهم حول آلية إنهاء العملية العسكرية الأخيرة في غزة".
هل نحتاج لنصب تذكاري آخر فوق قبور شهدائنا الذين تركناهم خلفنا في المعارك أو المذابح، لتساعدنا إسرائيل على إقامته؟ وهل ستكون هذه فرصة بالمرة لإصلاح ما تهدم لدينا هناك من نصب تذكارية لشهدائنا في حروب سابقة؟
في عام 1989 سمحت إسرائيل لسلاح المهندسين المصري، احتفالًا بمرور عشر سنوات على معاهدة السلام، وتخليدًا لذكرى شهدائنا في حرب 1948 التي شارك فيها 2500 جندي مصري قُتل منهم، وفق التقارير الإسرائيلية، 2000، بإقامة نصبين تذكاريين عند بلدة أسدود وعند الفالوجة. الأول لوحة بسيطة، والثاني مسلّة مكتوب على قاعدتها بالرخام الأحمر، وباللغات العربية والإنجليزية والعبرية والهيروغليفية، أسماء أربعة شهداء فقط؛ جندي وعرّيف وضابطان، أبرزهم اسم العقيد (البطل) أحمد عبد العزيز.
لكن حتى هذا النصب التذكاري بالنسبة والمدرجات، وصفته مراسلة صحيفة جيروزاليم بوست في تقرير حين زارته منذ ثلاثة أعوام بأنه مهجور، لا يعرف أحد عنه شيئًا، حتى العاملون بمحطة البنزين القريبة منه، بينما كانت الألواح الرخامية متساقطة وبهتت الكتابة عليه وتشققت لوائحها، دون صيانة أو عناية!
رغم ذلك، لم تتحمل إسرائيل نصبًا تذكاريًا أقامه الفلسطينيون غرب رام الله بالضفة الغربية في صيف عام 2011 وهددت في نوفمبر 2012 بإزالته لأنه أُقيم بالمنطقة ج، التي تخضع لسيطرتها الكاملة. لكن الخارجية المصرية تدخلت وقتها وحصلت على تأكيدات بعدم المساس به! فلماذا؟
السبب يحمل الشك والعجب عما إذا كانت مصر تعلم منذ ذلك الوقت بل ربما قبله بعقد من الزمان، على الأقل، بما حدث لجنود كتيبتي الصاعقة المصرية رقم 33 و53 الذين قُتل منهم 80، ربما بجرائم حرب، ودفنوا بمقبرة جماعية كجريمة أخرى دون علامة ودون إبلاغ مصر رغم مرور 33 سنة من توقيع معاهدة سلام معها.
أقام الفلسطينيون هذا النصب للجنود المصريين في حرب 1967 من بعض شهود المذبحة التي وقعت لهم في منطقة اللطرون. وحضر تدشينه، مع مسؤولين من حركة فتح والسلطة الفلسطينية، السفير المصري لدى السلطة ياسر عثمان، الذي نقل عنه موقع الجزيرة نت في 20 ديسمبر 2012 تصريحاته بتدخل وزير الخارجية المصري آنذاك محمد كامل عمرو بمنع إسرائيل من هدم النصب!
لكن شهود العيان ممن عاصروا الحادث أبلغوا عن "إعدام" عشرة من الجنود المصريين، وهؤلاء الشهود من أهل القرى الثلاث بتلك المنطقة وهي: نوبا، يابو، و عمواس؛ الذين هجّرهم الجيش الإسرائيلي من منطقة اللطرون، وكان عدد سكانها 3500، وهدم منازلها وأقام عليها مستوطنة، بينما أقيمت حديقة ومقصد سياحي باسم "ميني إسرائيل" أي إسرائيل الصغيرة، في المنطقة التي قتلوا فيها جنود الصاعقة المصرية وغطوا المقبرة الجماعية بساحة مرصوفة لانتظار السيارات.
بافتراض أن الحكومة المصرية لم تكن تعلم وقتها بالمقبرة الجماعية أو ما حدث من حرق الجنود أحياء، واعتبار النصب الفلسطيني مجاملة قومية، فإن المزعج من روايات الصحافة الإسرائيلية حين كشفت عن الجريمة في يوليو الماضي، أنها نقلت عن شهود العيان الإسرائليين ما قاله رجل اسمه داني مائير من إنه حاول عام 1999 الإبلاغ عن المقبرة الخفية ولم تلتفت إليه السلطات الإسرائيلية، فذهب إلى السفير المصري لدى إسرائيل وقتها ولم يفلح في إثارة المشكلة، التي واصل الجيش الإسرائيلي التكتم عليها.
إذا كانت روايته صحيحة، فسفير مصر وقتها كان السفير محمد بسيوني، الذي خدم دبلوماسيًا في إسرائيل 21 عامًا، وتوفي عام 2011!
هل ستقبل مصر بمجرد نصب تذكاري آخر بينما لا يتسامح نظامها بأي مساس أو كلمة نقد ولو من شاب مصري غيور أو متهور في مظاهرة أو تدوينة؟
كما يوجد من بين شهود العيان الذين التقتهم الصحافة الفلسطينية باللطرون الحاج عبد محمد حمد ريان، من قرية بيت نوبا المهجرة، ويقيم في تجمع بنفس اسم بيت نوبا أقامه الأهالي المهجّرون قريبًا من أرضهم باللطرون على أراضي قرية بيت لُقيا القريبة بنطاق رام الله. وهو متاح ليروي ما شاهده من جرائم حرب، وساهم في إقامة النصب المكتوب عليه منذ 11 عامًا "تخليدًا لشهداء الجيش العربي المصري الذين استُشهدوا على أرض منطقة اللطرون عام 1967".
في عام 1975، بعد أقل من عامين من حرب أكتوبر، أعادت مصر لإسرائيل رفات 39 من جنودها مقابل إفراج إسرائيل عن 92 أسيرًا وسجينًا مصريًا لديها.
بعد 37 عامًا من حربها وغزوها لبنان عام 1982، استعادت إسرائيل رفات واحد من بين ثلاثة جنود لا تزال تريد استعادة رفاتهم، وساعدتها روسيا في عام 2019 في نقل رفات الجندي زخاريا باومل الذي كان مفقودًا بمعركة السلطان يعقوب بسهل البقاع اللبناني منذ عام 1982.
حتى الأردن، أعاد له الإسرائيليون رفات جندي وجدوه في أغسطس/ آب من العام الماضي فقط، في صدفة لم يسعَ لها الأردنيون. فبينما يحفر الإسرائيليون نفقًا لإنشاء مترو شرق القدس، وجدوا هيكلًا عظميًا وبقايا زي الجندي الأردني وسلاحه فيما كان يُعرف باسم "تلة الذخيرة" في حرب 1967.
هل ستقبل مصر بمجرد نصب تذكاري آخر بينما لا يتسامح نظامها بأي مساس أو كلمة نقد ولو من شاب مصري غيور أو متهور في مظاهرة أو تدوينة؟ وهل يمر الأمر دون تحقيق وسماع شهود من الفلسطينيين والإسرائيليين، بل ومن قيادات سابقة مثل "الفريق الشرفي" جلال هريدي، قائد الصاعقة آنذاك ومؤسس حزب حماة الوطن الداعم للرئيس السيسي، والذي مُنح رتبة "الفريق" بأثر رجعي من الرئيس مرسي لرد اعتباره بعد سجنه مع صلاح نصر في زمن عبد الناصر بتهمة محاولة الانقلاب لصالح عبد الحكيم عامر حين خسر الحرب!
هل تحول الشريعة الإسلامية دون استعادة مصر رفات جنودها وضباطها من مقبرة اللطرون؟ على الأقل لمعرفة أسمائهم وتكريم كل منهم وتعريف عائلته، إن لم تتوفر القدرة على محاسبة مرتكبي أي جرائم حرب بحقهم، بجانب جريمة واضحة بعدم الإبلاغ عن مقبرتهم، وترك الأقدام والسيارات تدوس مثواهم على مدى خمسة وخمسين عامًا!