تعاني مصر، مثل الكثير من بلدان العالم، من أزمة عمل هيكلية سببها زيادات الإنتاجية والتحول العام لقطاعات غير كثيفة العمالة وخفض الإنفاق الحكومي على قطاعات الصحة والتعليم والإدارة العامة كثيفة العمالة. تسارعت أزمة العمل تلك في أعقاب برنامج الإصلاح الاقتصادي في 2016 حيث انخفضت نسبة القوة العاملة للسكان البالغين من 47% في 2016 إلى 41% في 2021.
ويعاني أيضًا الطلب العام في مصر من انخفاض في الفترة الأخيرة، وهو ما يمكن اعتباره سببًا ونتيجة لأزمة العمل في الوقت نفسه، فتآكل أجور العاملين بسبب معدلات التضخم العالية وانخفاض نسبة السكان الذين يتحصلون على أي أجر من الأساس، يؤثر سلبًا على الطلب العام، ومن ثم خلق الوظائف، التي يؤثر غيابها كذلك على الطلب العام، ليذهب بالاقتصاد لدائرة مفرغة، حيث ضعف الطلب العام ونقص الوظائف يدخلان في عملية تغذية متبادلة.
في هذا المقال، أناقش ضرورة دعم وتوسيع قطاع الرعاية الصحية الذي من الممكن أن يساهم في وقف هذه الدائرة المفرغة، فضلًا عن الارتقاء بالصحة العامة للسكان وتوفير خدمة شديدة الأساسية للمواطنين أصحاب الدخول الأدنى منهم.
قطاع الرعاية دليل على أصالة اعتناء المجتمع بأفراده بعيدًا عن أهداف الربحية والأداء الاقتصادي، فحتى التعليم، رغم كونه قطاعًا اجتماعيًا هامًا، فعادة ما يتم ربط تطويره بتوفير الكفاءات لسوق العمل، ولكن قطاع الرعاية رغم كونه أيضًا مرتبطًا بسوق العمل من حيث توفير عمالة ذات صحة جيدة للسوق، فإن في الأغلب الأشخاص الأكثر احتياجًا للرعاية هم كبار سن أو مرضى بأمراض مزمنة، قدرتهم محدودة على الانضمام لسوق العمل والمساهمة في الإنتاج الربحي لصالح السوق.
يعتبر قطاع الصحة والرعاية أكثر القطاعات كثافة في العمل بعد التعليم، مما يعني أن أي توسع في هذا القطاع سيخلق الكثير من فرص العمل
جودة التعامل مع هؤلاء، خاصة من ليس لديهم وفرة مالية أو رأس مال اجتماعي، هو مؤشر لمدى تحررنا من طغيان مفاهيم السوق على الجوانب الإنسانية لحيواتنا.
بالإضافة للجوانب الصحية، فدعم قطاع الرعاية لديه العديد من المزايا الاقتصادية والاجتماعية، ويساهم في خلق منظومة قيمية متحررة، ولو جزئيًا، من منطق الربحية المالية، وهي ضرورية من أجل رفاه، أو حتى بقاء، أي اجتماع بشري.
وفيما يلي سأقوم باستعراض بعض من مزايا دعم وتوسيع قطاع الرعاية الذي يحمل الحل لجزء من مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية.
1- كثيف العمالة
يعتبر قطاع الصحة والرعاية أكثر القطاعات كثافة في العمل بعد التعليم، مما يعني أن أي توسع في ذلك القطاع سيخلق الكثير من فرص العمل، فعلى سبيل المثال، كل 1% من الناتج المحلي الإجمالي في قطاع الصحة والرعاية مسؤولة عن توظيف حوالي 350 ألف شخص، بالمقارنة مثلا بـ42 ألف وظيفة فقط في القطاع المالي.
حتى القطاعات كثيفة العمالة مثل الصناعة والزراعة، فكل 1% من الناتج المحلي الإجمالي تخلق 160 ألف و224 ألف وظيفة على التوالي؛ أرقام أقل كثيرًا من قطاع الرعاية. يعني هذا ببساطة أن أغلب استثمارات وإنفاق ذلك القطاع تذهب في صورة أجور للعاملات والعاملين به.
2- بعيد نسبيًا عن خطر الأتمتة
يقضي التطور التكنولوجي على الكثير من الوظائف في القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية ويتم التعبير عن ذلك غالبًا بمفهوم "زيادة الإنتاجية"، الذي يعني ببساطة أن عدد أقل من العمالة مطلوب لإنتاج القدر نفسه من المنتجات أو الخدمات.
زادت مثلًا حصة كل عامل من الإنتاج في مصر أكثر من الضعف منذ بداية التسعينيات. يعني هذا باختصار أن مصر تحتاج نصف عدد العمال وفقًا للمستوى التكنولوجي الحالي، لإنتاج الكمية نفسها من السلع والخدمات التي أنتجتها في بداية التسعينيات.
قطاع الرعاية، من تطبيب وتمريض ومجالسة، ما زال بعيدًا إلى حد كبير، حتى وإن لم يكن كليًا، عن خطر الأتمتة والتكنولوجيا الموفرة للعمل. من ضمن أكثر من 700 وظيفة تم تحليلها وفقًا للأكثر والأقل عرضة للأتمتة، جاءت وظائف قطاع الرعاية والصحة من ضمن الأقل عرضة. يعني هذا أن الوظائف التي سيتم خلقها في ذلك القطاع مستدامة ولن ينتهي الحاجة إليها في المستقبل المنظور.
3- متوازن جندريًا
انهارت نسب مشاركة النساء في سوق العمل المصري منذ البدء في برنامج الإصلاح الاقتصادي في عام 2016، فانخفض معدل مشاركته من حوالي 23% في 2016 لـ 15% في 2021. أما بالنسبة للنساء الأصغر سنًا فتنخفض النسبة لـ9% مما يؤكد حداثة الأزمة وأن المستقبل في ذلك الصدد غير مبشر.
جاء ذلك بشكل رئيسي بسبب خفض الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم ذات المعدلات العالية لتشغيل النساء، وتصدر القطاعات العقارية والاستخراجية للمشهد الاقتصادي. القطاع العقاري يشغل الذكور نسبة 99% من إجمالي العاملين فيه، في حين أن القطاعات الاستخراجية كثيفة رأس المال لا تشغل أعدادًا كبيرة، سواء من النساء أو الذكور.
على الجانب الآخر، قطاع الصحة والرعاية ليس فقط كثيف العمالة، وسيظل كذلك كما أشرنا في النقطة الخاصة بالأتمتة، لكن أيضًا حوالي 60% ممن يعملون فيه من النساء. يعني ذلك ببساطة أن أي استثمار في القطاع لن يولد فقط الكثير من فرص العمل بشكل عام، لكنها ستكون فرص عمل للنساء والذكور على حد سواء.
بالطبع الوضع الجندري ليس مثاليًا، ومازال هناك تقسيم جندري للعمل وتفاوت كبير في الأجور ومهام الإدارة داخل القطاع يجب التعامل معه، حيث أغلب الأطباء من الذكور وأغلب أطقم التمريض من النساء، لكنه ما زال، مع قطاع التعليم، الأكثر توازنًا جندريًا من جميع القطاعات الأخرى.
4- متوازن جغرافيًا
بالإضافة للتوازن الجندري، يتمتع القطاع أيضًا بقدر من التوازن الجغرافي حيث الحاجة للرعاية موجودة في كل مكان بل قد تزيد في المناطق المهمشة، التي يعاني سكانها من تراجع الصحة العامة بطبيعة الحال. بقليل من التخطيط والتدريب، من الممكن أيضًا توفير كوادر محلية بدلًا من إرسال كوادر من المدن الكبرى للريف كما يجرى حاليًا. بهذا الشكل يتم خلق فرص عمل وتوفير الرعاية الصحية في المناطق الأشد حاجة لكليهما.
5- ليس ضد حركة التاريخ
التركيز على تعميق الصناعة والنهوض بالزراعة هي أفكار نبيلة بلا شك، وهذه القطاعات هامة وضرورية لتقديم سلع أساسية يعتمد عليها بقائنا، فيجب الاعتناء بها والتأكد من استدامتها وجودة ما تنتجه ورفاه العاملات والعاملين بها.
دعم اقتصاد الرعاية كثيف العمالة الذي يخلق الكثير من الوظائف متوسطة الدخل، كفيل بتحفيز الطلب العام
لكن التعامل مع القطاعات تلك بمفهوم التوسع وخلق فرص عمل ودفع النمو هو في رأيي تقدير خاطئ، لأن الزراعة والصناعة التحويلية سارا من ضمن قطاعات تتعرض للأتمتة بشكل سريع وتعاني أيضًا من أسواق متشبعة وانخفاض الربحية، ودائمًا ما يتم اللهاث وراء زيادة الإنتاجية والقيمة المضافة (أي تقليل العمالة) في تلك القطاعات كمؤشر تنموي على تحسن القدرات الإنتاجية للاقتصاد.
تتراوح أيضًا حصص الزراعة والصناعة في الناتج المحلي الإجمالي بين الاستقرار والانخفاض لصالح الخدمات على مستوى مصر والعالم، ولا يبدو أن هناك بوادر لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء في ذلك الصدد. حتى الأجزاء التي مازالت تربح في تلك القطاعات هي تلك المرتبطة بالتصميم والتسويق والبحث والتطوير، وهي جيوب منخفضة الكثافة العمالية رغم ما تحققه من أرباح طائلة. هنا أيضًا تتحقق ميزة إضافية للاستثمار في قطاع الرعاية، حتى بالمقارنة بالقطاعات الأخرى الكبيرة وكثيفة العمالة مثل الصناعة والزراعة.
6- فرص عمل جيدة
كونه قطاع يتحرك بشكل رئيسي في الإطار المسجل، يعني هذا زيادة نسب العاملين والعاملات المؤمَّن عليهم اجتماعيًا وصحيًا، ويخضعون لقوانين العمل بما توفره من حماية وينطبق عليهم الحدود الأدنى للأجور على قصورها (مثل انخفاض معدلاتها وغياب تشريع يربطها بالتضخم). يعني هذا أيضًا عودة النمو للطبقة المتوسطة، التي انكمشت وواجهت تحديات جمة في السنوات والعقود الأخيرة.
7- تعميق السوق المحلي ودوائره الحميدة
من أكثر القوانين المثبتة تجريبيًا وأكثرها رسوخًا التي تتحدى المقاربة النيوليبرالية الداعمة للمنتجين والمدخرين وأصحاب الدخول العليا على حساب المستهلكين أصحاب الدخول الأدنى هو قانون الميل الحدي للاستهلاك، الذي يعني ببساطة أن كل زيادة في الدخول الأدنى يذهب جزء أكبر منها على الإنفاق من الزيادات في الدخول الأعلى التي يميل أصحابها إلى الادخار.
لهذا، فإن دعم اقتصاد الرعاية كثيف العمالة الذي يخلق الكثير من الوظائف متوسطة الدخل، كفيل بتحفيز الطلب العام وتنشيط وتعميق السوق المحلي. هذه الفئة من أصحاب الدخول تميل أيضًا لاستهلاك المنتجات محلية الصنع بسبب انخفاض سعرها النسبي، مما يدعم عمليات الإنتاج المحلي ويقلل من الفجوة التجارية مع العالم الخارجي (أي اختلال ميزان المدفوعات).
لكن وجب التنويه أن هذا التأثير الحميد سيكون محدودًا حيث إن أغلب وارداتنا من الخارج تشمل إما سلعًا أساسية لا يمكن الاستغناء عنها مثل القمح والطاقة، أو سلعًا وسيطة تستخدم في عملية الإنتاج المحلية.
في الأخير، وجب تأكيد أن هذا ليس حلًا لجميع مشاكل مصر الاقتصادية، فهو مثلًا لا يتعامل مع الشق الخارجي الخاص بتوفير العملة الصعبة ولا اختلال ميزان المدفوعات.
يشكل أيضًا توفير الموارد المطلوبة لدعم وتوسيع قطاع الرعاية الصحية تحديًا كبيرًا بالطبع، لكن تنفق مصر على الرعاية الصحية أقل بكثير من المعدلات الدولية ومعدلات الدول الشبيهة بظروفنا الاقتصادية. يعني هذا أن هناك مجال لزيادة الإنفاق على الرعاية، خاصة وأن ذلك الإنفاق كما حاولنا أن نوضح في المقال ستكون عوائده الاقتصادية والاجتماعية كبيرة.
سيساعد هذا أيضًا على وقف نزيف هجرة الأطباء التي يعاني منها المجتمع بشدة حاليًا
على النقيض، البند الذي يلتهم الجزء الأكبر من الموازنة هو الإنفاق على فوائد الديون، الذي يبلغ حجمه 690 مليار جنيه سنويًا، الذي يذهب لقلة قليلة من المستثمرين الأجانب والمصريين، ويشكل أكثر من ضِعف الإنفاق على الصحة الذي يبلغ 265 مليار جنيه. تجد الدولة دائمًا طرقًا لتوفير فاتورة الديون مهما عظمت حتى صارت تلتهم حوالي ثلث الموازنة العامة للدولة (بدون حساب أقساط القروض).
أي زيادة حقيقية (أي تزيد عن معدلات التضخم) في الإنفاق على قطاع الرعاية الصحية سيكون أثرها حميدًا بقدر زيادة الإنفاق، لكن بافتراض أننا كمجتمع وصلنا بالإنفاق على الصحة لمعدل الإنفاق على فوائد الديون الحالي، ستخلق هذه الزيادة نحو مليون وظيفة جيدة متوازنة جندريًا، توفر تأمينًا اجتماعيًا وصحيًا بشكل مباشر، فضلًا عن الوظائف التي ستخلقها بشكل غير مباشر عن طريق تحفيز الطلب في السوق كما أسلفت الذكر، وأيضًا عن طريق التوسع في التعليم الضروري لتوفير تلك الأعداد من الفئات المهنية.
سيساعد ذلك أيضًا على وقف نزيف هجرة الأطباء التي يعاني منها المجتمع بشدة حاليًا، حيث تذهب بعض التقديرات لفقدان مصر لنحو 60% من أطبائها. كل هذا ونحن لم نتحدث عن التأثير المباشر على صحة المصريين الذي يجب أن يعتبر هدف في حد ذاته، لكن هذه المقالة لا تتطرق لذلك الأمر كثيرًا بسبب بديهية المسألة.
الخبر الجيد بالنسبة لخزينة الدولة هو أن جزءًا كبيرًا من الأموال المُنفقة، سيعود للخزينة في صورة ضرائب على الدخل والاستهلاك، فأصحاب الأجور المتوسطة والمنخفضة هم دافعو الضرائب الأكبر في مصر، بسبب زيادة اعتمادية الدولة على ضريبة القيمة المضافة الاستهلاكية، التي يتحمل عبئها الأكبر الفئات منخفضة ومتوسطة الدخل التي ستزيد حصيلتها بطبيعة الحال مع زيادة الاستهلاك، فضلًا عن اعتمادها أيضًا على ضرائب الأجور التي ستزيد كثيرًا كذلك، حيث، كما أوردنا، يذهب الجزء الأكبر من ميزانية الصحة في شكل أجور بسبب الكثافة العمالية الكبيرة للقطاع.