في الدورة المنقضية من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لم يكتف الفيلم الفلسطيني عَلَم بحصده إشادة نقدية، تمثلت في حصوله على جائزة الهرم الذهبي، وهي أرفع جوائز المهرجان، وحصول بطله محمود بكري، على جائزة أفضل ممثل، وإنّما أثار كذلك شغف المشاهدين الذين منحوه جائزة ثالثة هي جائزة الجمهور، التي تعتمد على تصويت مباشر ممن حضروا عروض الأفلام بالمهرجان.
الفيلم هو التجربة الإخراجية الطويلة الأولى لفراس خوري، وسبق عرضه في مهرجاني تورنتو وروما السينمائيين، كما عُرض بمهرجان البحر الأحمر بجدة، وهو أحد الأعمال الفلسطينية الحديثة التي اختارت أن يكون أبطالها أشخاصًا عاديين، لا أصحاب بطولات يتناقل الكبار والصغار حكاياتهم.
تبتعد أجواء فيلم عَلم عن غزة والضفة الغربية، اللتين دارت فيهما نسبة كبيرة من الأفلام الفلسطينية في السنوات الأخيرة، وإنما ينطلق من الجليل، بأبطال من المراهقين أبناء وأحفاد عرب 48، الذين يعيشون جنبًا إلى جنب مع المحتل الإسرائيلي، ويتعلمون في مدارس تزور تاريخ أجدادهم كل يوم، مطالبين بالأمر وضده، المهادنة للنجاة والحفاظ على شعلة الثورة الداخلية لاحترام الذات.
ينتمي علم إلى أفلام النضوج (Coming of age) وهي أفلام معنية بحياة المراهقين والشباب في الفترة التي يجتازون فيها الخطوات الأخيرة من الطفولة تجاه النضوج، بقصص تتميز بالرهافة والرقة حتى لو كانت مليئة بالهرمونات الذكورية والأنثوية المتفجرة؛ تامر بطل الفيلم يعيش حياة تشبه غيره من مراهقي جيله، يطمح إلى تمضية وقته مع أصدقائه واجتياز المدرسة الثانوية دون حصوله على الإنذار الأخير وفصله منها نهائيًا، ويقضي أيامًا فاترة قبل أن تشعلها زميلته الجديدة التي تجعله يعيد اكتشاف نفسه.
هؤلاء المراهقون لم يرغبوا في أن يكونوا أبطالًا، هم فقط يختبرون معنى الحياة ولكن ظروف بلادهم السياسية أجبرتهم على أن يترافق ذلك الاكتشاف مع معانى أعمق مثل "الوطن" و"الثورة" و"التاريخ"، ومن هنا تأتي هشاشة أولئك الشباب الذين كانوا أطفالًا حتى سنوات قليلة ولا يعرفون كيف يسير عالم الكبار.
https://www.youtube.com/watch?v=FPLZoquOcnQ
تبدأ ذروة الفيلم عندما يقترح صفوت القيام بما أسماه "عملية" لرفع العلم الفلسطيني أعلى سطح المدرسة الثانوية بدلًا من العلم الإسرائيلي في ذكرى النكبة الفلسطينية، تتحمس ميساء التي تطلب من تامر وأصدقائه يد العون، وأمام تلك المغامرة يصبح على الشباب إعادة النظر في أهمية ذلك الرمز الذي حمل الفيلم اسمه.
فصفوت صاحب فكرة العملية نفسه لا يملك علمًا ليرفعه، وهو لا يؤمن بالأعلام وما تمثلها من الأساس، لكنه يفهم أهميتها في إغضاب العدو، إضافة إلى رغبته في القيام بعمل ثوري يثبت من خلاله جدارته للانتماء لعائلته، بينما تامر الذي كان حتى أيام قريبة لا يحمل أي ميول سياسية أو غضب حقيقي، يدفعه للانخراط في ذلك الحدث العلاقة الهشة التي بدأت تنمو بينه وبين ميساء، التي يريد أن يظهر بطلًا في عيونها، أما شيكل ورضا فانضما إلى صفوت لأنه صديقهما، ولأنهما لا يملكان شيئًا أفضل ليقوما به في تلك الأمسية.
قد تبدو تلك الدوافع تافهة في ظل الكثير من الأعمال السينمائية الأخرى التي تجعل من البطولة واجبًا على كل فلسطيني حي، لكن مخرج وكاتب الفيلم فراس خوري، الأقرب لسن الشباب منه إلى الكهولة، يعي أن حتى أكثر الأفعال بطولية تختلط دوافعها بالرغبات الشخصية، وأنه لا يوجد في الحقيقة أبطال مثاليون مثل هؤلاء الذين تكتب قصصهم في الروايات، بل أشخاص قد يعرضون حياتهم للخطر للحصول على إعجاب حبيبة، أو احترام العائلة أو من أجل الصداقة.
وتستدعي تلك الرؤية فيلمًا فلسطينيًا آخر، هو غزة مونامور، الذي عُرض منذ عامين كذلك في مهرجان القاهرة السينمائي، من إخراج التوأم طرزان وعرب ناصر، وتدور قصته البسيطة حول صياد في الستينيات يجد تمثالًا ذهبيًا في إحدى رحلات صيده ما يجعله محل مسائلة قانونية، وفي حين لا يحتمل ذلك أي مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن الأحداث تخبرنا أن هناك حياة كاملة في غزة غير تلك التي نشاهدها على شاشات التلفزيون في نشرات الأخبار أو على السوشيال ميديا، هناك أشخاص يحبون ويستمتعون بالموسيقى والوقوف تحت رذاذ الأمطار صباحًا فقط ليكونوا قرب الحبيب، لكن يخنقهم حصار السلطتين الإسرائيلية والفلسطينية.
يثبت أبطال غزة مونامور أن ليس من الضروري أن يكونوا أبطالًا بالمعنى الشائع للكلمة، في مواجهة مباشرة مع الاحتلال، فالحب تحت مظلة الاحتلال كفاح في حد ذاته.
وبناءً عليه لا تبدو وجهة النظر تلك حين تظهر في "علم" تخاذلية، خاصة حين يقدمها مخرج ومؤلف هو نفسه أحد أبناء عرب 48 يصنع أفلامًا تصور أزمته - وأزمة أجيال أخرى- الوجودية، يحاول الإجابة عن أسئلة عن جدوى القيام بالأعمال الثورية؟ وإن كان ثمة أمل حقيقي باق؟