تصميم: أحمد بلال - المنصة

القواعد المهنية في القضايا الخلافية.. منة شلبي نموذجًا

منشور الثلاثاء 29 نوفمبر 2022

لأن الأصل والأساس هو الانتماء لمهنة الصحافة التي أحبها وأعتز بها، لم أشعر بالارتياح للهجوم الشرس الذي تعرضت له وسائل الإعلام على عمومها في تغطية خبر إلقاء القبض على الفنانة منة شلبي في مطار القاهرة لدى عودتها من الولايات المتحدة، بتهمة حيازة مواد يشتبه أنها مخدرة بقصد التعاطي، وهو ما نفته في محضر التحقيق.

حاولت قدر الإمكان في الفقرة السابقة تطبيق قواعد المهنية المثالية في نقل الخبر كما تعلمتها في كلية الإعلام في الجامعة الأمريكية في القاهرة وكما مارستها سنوات طويلة في العمل مراسلًا لوكالات أنباء غربية عالمية مثل الأسوشيتد برس ورويترز.  قلت "ما يشتبه" أنه مواد مخدرة، وأبرزت ما ورد في قرار النيابة بأن المواد المضبوطة كانت "بغرض التعاطي" وليس الاتجار، كذلك نفيها للحيازة.

لكن لأن منة فنانة متميزة تحظى بالاحترام والتقدير في الكثير من الأوساط الفنية والثقافية بسبب تميزها وقصة كفاحها واستقلاليتها واختيارها أن تقوم بأداء أدوار تدافع فيها عن قضايا المرأة ولا تكتفي بالترفيه، فلقد رأى الكثير من محبيها أن مجرد نشر الخبر هو جزء من حملة هدفها النيل من الفنانة وتشويه سمعتها، وانهالوا بالنقد والشتائم على وسائل الإعلام التي وصفوها كلها بـ"الصفراء" حتى تخيلت أن ممثلي وسائل الإعلام هم من ألقوا القبض على الفنانة في مطار القاهرة وتوجيه الاتهامات لها، وليس موظفي الجمارك ورجال الشرطة.

نفس الجهات الرسمية المعنية هي التي صادرت جواز سفر منة وصوّرت "المضبوطات" وسرّبتها لوسائل الإعلام كما تفعل دائمًا في العديد من القضايا الشبيهة التي يظن القائمون عليها أن نشرها وإبرازها من شأنه أن يعزز من موقعهم أمام المسؤولين الأعلى رتبة، ويؤكد يقظتهم وقيامهم بمهامهم على أكمل وجه. منذ أن عملت في الصحافة كمتدرب، تقوم وزارة الداخلية وضباط الجمارك في المطار بتصوير المضبوطات وكذلك جواز السفر للتأكيد على هوية المتهم أو المتهمة.

هل هذه ممارسة قانونية وسليمة من قبل الأجهزة الأمنية المعنية؟ لست متأكدًا، لكنها على أقل تقدير لا تخلو غالبًا من سوء النية لأن الغرض بوضوح من تصوير المضبوطات إثبات التهمة على أشخاص لم ينته التحقيق معهم بعد ولا أحيلوا لمحاكم أو صدور في حقهم أحكام. لكن مصر ليست الدولة الوحيدة في هذا الصدد. فأجهزة الأمن في كل دول العالم تقريبًا تنشر ما تزعم أنه مضبوطات، سواء كانت مخدرات أو سلاح، خاصة لو كانت بكميات كبيرة، وذلك قبل صدور حكم نهائي بإدانة المتهمين.

في جميع الأحوال تبقى العهدة على الراوي، كما نقول، وليس على ناقل الخبر. والراوي هنا في حالة منة شلبي هو وزارة الداخلية وقرار النيابة الصادر بإخلاء سبيلها بكفالة مالية حتى يتم العرض على المعامل المختصة لتوضيح ماهية المواد المضبوطة، وهل هي مخدرات بالفعل من عدمه.  

وبالتالي، إذا تبين خطأ المعلومات التي وردت في بيان الداخلية بشأن الضبطية وأن المواد المضبوطة لا تحتوي مخدرات يجرمها القانون المصري، فإن من يتحمل المسؤولية وتجب محاسبته هم من نفذوا عملية الضبط وتسريب الصور.

ولكن من الناحية المهنية الصحفية البحتة، لا يستطيع صحفي وصله بيان من الداخلية أو من الرئاسة أو الخارجية أو حتى نادٍ كروي بشأن صفقة شراء لاعب، إلا أن ينشر البيان، وهذا هو أصل المهنة في نقل الأخبار. لكن هل يجب أن تقف المهمة عند هذا الحد؟ بالطبع لا. الصحفي مسؤول كذلك أن ينشر مع الخبر رد فعل الفنانة لو كانت أصدرت بيانًا تنفي التهم، كذلك بيان نقابة الممثلين الذي تضامن معها التزامًا بتغطية كافة جوانب القضية. وأعتقد أن هناك وسائل إعلام محترمة في مصر فعلت ذلك.

لا يوجد إعلام تفصيل، وهذه حقيقة يجب التعايش معها

وما يساعد في ذلك سوابق لملاحقة فنانين جهروا بمواقف معارضة استغلالًا لسلوكهم الشخصي كتعاطي المخدرات وغيرها. ويحضرني هنا سعيد صالح رحمه الله، عندما ضبط في التسعينيات بتهمة تعاطي الحشيش والحكم بحبسه، بينما كان الجميع مقتنعًا أن السبب الحقيقي لهذا الترصد هو أن صالح كان يسخر من مبارك في مسرحياته وخرج عن النص بألفاظ أغضبت النظام في ذلك الوقت.

وهناك أمثلة أخرى عديدة شبيهة أساسها القناعة التامة أن كثيرين يتعاطون المخدرات أو يتورطون في علاقات خارج إطار الزواج من كل المهن والمناصب، ولكن من يتم ضبطهم هم فقط المغضوب عليهم سواء لأسباب سياسية او شخصية او حتى اقتصادية.

وعلى هذا الأساس، انتشرت سريعًا على السوشيال ميديا بوستات تؤكد أن جهة ما أرادت معاقبة منة بسبب مواقفها المستقلة ولأنها ليست من جوقة المطبلين المعروفة في الأوساط الفنية. وآخرون سارعوا بالتشكيك في المواد المضبوطة في ضوء ما رأوه في الصور التي سربتها جهة الضبط، والقول إنها متداولة ومتوافرة في المحلات في الدول الغربية ولا تحتوي على مخدرات؛ بل مواد فاتحة للشهية. وهناك فريق ثالث حاول تغيير الجدل برمته نحو ضرورة إقرار تعاطي مادة الماريجوانا والحشيش في إطار توجه عالمي نراه في هولندا وأمريكا ودول أوروبية أخرى، يبيح تعاطي تلك المواد.

وبالطبع هناك فريق "المؤامرة مستمرة" الذي يرى في كل حادثة لها أبعاد أخلاقية او تتعلق بفنانين ومشاهير، وسيلة إلهاء للمواطنين عن القضايا العاجلة الملحة مثل تدهور الاقتصاد وحبس العباد من أصحاب الآراء المعارضة. ويتجاهل هؤلاء أننا في مصر لسنا استثناء، وأخبار الفنانين والمشاهير والمخالفات الأخلاقية دائمًا ما تحظى بنسبة متابعة عالية.  

من أرادوا إثبات تهمة التصيد وتعمد معاقبة منة قالوا إن استخدام الخبر ونشره على نطاق واسع في المواقع الإخبارية المقربة من النظام دليل آخر على المؤامرة غير الموثقة، وكل هذه تكهنات لا مجال للتعامل معها كحقائق من الناحية الصحفية المهنية.

لا مجال لإنكار أن طبيعة العمل في زمن الإنترنت والسوشيال ميديا غيرت من قواعد المهنة كثيرًا. وما لن تجده في المواقع الرسمية ستجده غالبًا منشورًا ومضخمًا في فيسبوك وتويتر ويوتيوب. والكل يسعى وراء التريند واللايكات والترافيك أملًا في الحصول على المزيد من الإعلانات. وفي العالم كله، هناك صحافة مهنية وملتزمة ولها قواعد واضحة لتحرير الأخبار، لكن هناك عدد أكبر من المواقع التي لا تلتزم بأي شيء سوى الإخلاص لنهج صحافة الفضائح أو "الصحافة الصفراء".

والحقيقة التي يتجاهلها من يعبرون عن غضبهم واستيائهم لتغطية بعض المواقع لخبر القبض على الفنانة المتميزة في مهنتها يساهمون أكثر في الترويج لتلك المواقع، ولو كانت إعادة النشر أو التعبير بإيموجي غاضب وآخر يصدر عنه سباب خارج مرفقًا بتعليق عاصف يسب كل الإعلام. المسؤولية في زمننا الحالي تقع في جزء كبير منها على القارئة أو القارئ، وهم من يختارون ما يصدقونه ويروجون له من عدمه.

يقول المثل العامي "حبيبك تبلعله الزلط، وعدوك تتمناله الغلط". محبو منة رفضوا نشر خبر إلقاء القبض عليها من الأساس وهاجموا الإعلام قبل مهاجمة من قرروا القبض عليها وتسريب صور المضبوطات، وسارعوا في الدفاع عنها وتاكيد براءتها والقول إن الغرض تشويه سمعتها.

بينما من يكرهون الفن والفنانين وكل أشكال التعبير الحر من متشددين ومحافظين، فتلقفوا الخبر سريعًا للتدليل مجددًا على قناعاتهم الراسخة بأن كل الفنانات والفنانين يعيشون حياة فاجرة منحلة ولا يكادون يفيقون من السكر والمخدرات. ولو كان ناقلو الخبر من الفلول أو مؤيدي النظام فسيرفقون خبر توقيف منة بتعليق مفاده "مش دي اللي كانت متصورة في ميدان التحرير في نكسة 25 يناير؟ مش قلنا كلهم كانوا حشاشين وعملاء للخارج؟".

نحن نعيش في مجتمع متعدد ومنقسم، ورسخت السوشيال ميديا هذه الانقسامات. والسؤال الافتراضي للأصدقاء الذين يرفعون شعار دعم حرية الرأي والتعبير ثم هاجموا كل وسائل الاعلام التي نقلت خبر إلقاء القبض على منة، ماذا سيكون الوضع لو كان من تم توقيفه في مطار القاهرة وبحوزته مواد مخدرة للتعاطي مذيع شهير مؤيد للنظام لا نطيق رؤيته؟

ألم تكن لتتمنى رؤية صوره في كل المواقع مكبل اليدين ذليلًا مهانًا ممسكًا بجواز سفره عاليًا؟ لنقل الحقيقة؛ غالبًا نعم. ولا تنسوا نظرية "المؤامرة مستمرة" والقول إن ذلك المذيع الشهير الافتراضي لم يقبض عليه أيضًا إلا بسبب ارتكابه لخطأ ما في حق أحد كبار المسؤولين. والدليل "قالوا له".

لا يوجد إعلام تفصيل، وهذه حقيقة يجب التعايش معها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.