قبل نحو ستة أعوام، أطلق البنك المركزي مبادرة لتوفير التمويل الميسر للمشروعات الصغيرة، صحبتها دعاية إعلامية واسعة بسبب ضخامة قيمة التمويل المخصص لها، والمقدر بمئة مليار جنيه، وكذلك لأنها تأتي في وقت تتسم فيه أسعار الفائدة بالارتفاع، ثم لحق بها سيلٌ من المبادرات المماثلة في مجالات السياحة والصناعة والتجارة، قبل أن تعلن الحكومة هذا الأسبوع عن إجراءات للحد منها.
ففي يوم الأحد الماضي، حظر رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، على الجهات والهيئات كافة، بما فيها البنك المركزي، إعداد أو صياغة أي مبادرة تمويلية جديدة أو تعديل القائمة بما يترتب عليه أعباء مالية مباشرة أو غير مباشرة على الخزانة العامة منظورة أو محتملة، إلا بعد الحصول على موافقة مجلس الوزراء بناء على دراسة تعدها وزارة المالية.
ذلك التحول "الكبير" يأتي على خلفية انتقادات الفلسفة التمويلية التي ارتبط تطبيقها بمحافظ المركزي السابق طارق عامر، واعتبر البعض أنها تساهم في تشويه سوق التمويل عبر إتاحة أسعار متعددة للفائدة، فيما يشكو المصنعون من زيادة مؤكدة في الأسعار ستشهدها اﻷسواق.
دعم الفائدة في وقت الارتفاع
خلال العام الجاري، رفع المركزي المصري أسعار الفائدة بنسبة إجماليتها 5% على ثلاث مرات، في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية فبراير/ شباط الماضي، آخرها في اجتماع استثنائي بنسبة 2% قبيل إعلان التوصل لاتفاق حول حزمة تمويلات خارجية بقيمة 9 مليارات دولار بينها 3 مليارات من الصندوق الشهر الماضي.
في كلمته بمؤتمر صحفي للحكومة نهاية الشهر الماضي، حين أعلن محافظ البنك المركزي تعويم سعر الصرف، قال إن البنك سيركز على مكافحة التضخم، أي أنه سيسخّر كل أدواته لذلك.
يقول الخبير الاقتصادي والمحاضر في الجامعة الأمريكية هاني جنينة، إن التركيز على استهداف التضخم المرتفع، يعني استخدام "أحد الآليات الرئيسية لمواجهة التضخم وهي أسعار الفائدة، ولابد أن تكون هذه الآلية فعالة".
ويشرح جنينة، في حديثه إلى المنصة، كيف كانت مبادرات المركزي التي تقدم أسعار فائدة مدعمة تسبب "تشوهًا كبيرًا" في استخدام آليات السياسة النقدية التقشفية، موضحًا أن دعم الفائدة يخلق تناقضات في سياساته "لأن رفع المركزي للفائدة في اجتماعاته الدورية يهدف للحد من الإقراض، في حين أن البنوك توظف الأموال عبر مبادراته بأقل من تكلفتها، وهذا يحدث تحت ضغط حكومي".
ويضيف جنينة "مع رفع الفائدة، أصبحت الحكومة تقترض بأكثر من 14% في حين أن المبادرات توفر قروض بأسعار أقل من نصف هذه التكلفة".
وتشمل مبادرات البنك المركزي السابقة دعم قطاعات مثل التمويل العقاري لمحدودي ومتوسطي الدخل بفائدة 3 و 8% ومبادرة تمويل السياحة وإحلال المركبات للعمل بالوقود المزدوج ومبادرة تشجيع الري بالوسائل الحديثة، وهي المبادرات التي قرر مجلس الوزراء نقل مسؤوليتها من البنك للوزارات المختصة، بجانب مبادرة سابقة للبنك المركزي لتمويل القطاع الصناعي التي جرى وقفها.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، حصل القطاع الصناعي على تمويلات بنحو 345 مليار جنيه حتى يوليو/ تموز الماضي، بفائدة مخفضة بلغت 8%، منذ إعلان مبادرة بقيمة 100 مليار جنيه تقدم تسهيلات ائتمانية للمشروعات الصناعية المتوسطة والكبيرة التي تبلغ مبيعاتها مليار جنيه كحد أقصى في السنة، والتي كانت تقدم أولًا بسعر 10% قبل أن يعدلها المركزي في منتصف 2020 لتصبح 8% فقط، فيما وصل سعر الفائدة في البنوك على الإقراض إلى 14.25%.
المبادرة كانت محل ترحيب من القطاع الخاص حينها، خاصة وأنها تزامنت مع دعاوى من صندوق النقد الدولي بزيادة فرص القطاع الخاص للعمل في مصر وخفض التكلفة، وهو ما يفسر غضب المصنعين حاليًا من قرار وقفها، الذي لم يعلن عنه رسميًا حتى الآن لكن تقارير صحفية قالت إن التعليمات أوقفتها بالفعل.
المتضررون من غياب المبادرات
عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات المصرية محمد البهيّ، يرى أن المصانع تواجه مشكلة في عدم وضوح تعليمات وقف مبادرة الصناعة، مع مطالبات بمنح فرصة للمصانع لتوفيق أوضاعها خلال فترة زمنية مُحدّدة لارتباطهم بتوريدات وتعاقدات.
وقال البهي للمنصة، وهو ليس المنتقد الوحيد في القطاع الصناعي لتلك التعليمات، "مينفعش تاخد قرر ويتطبق الصبح بدون نقاش مع الجهات المُتضرّرة.. كما كان من الممكن التفاهم مع صندوق النقد الدولي لتطبيق القرار تدريجيًا".
وبينما يشكو المصنعون الكبار، سمح قرار رئيس الوزراء للمشروعات الصغيرة والمتوسطة الاستمرار في التمتع بمزايا الفائدة المدعمة من خلال مبادرة الـ 5% التي أعلنت في ديسمبر/ كانون اﻷول 2015، لكن تلك الميزة ربما تكون "مؤقتة".
إذ يرى جنينة أن استمرار مبادرة القروض للمشروعات المتوسطة والصغيرة سيمتد على الأغلب لأجل معين قبل إلغائها "خاصة وأن هذه المصانع تعاني حاليًا بسبب نقص الدولار واحتمالية تعثرات بين هذه الشركات كبيرة، وأعتقد مع وفرة الدولار ستُلغى المبادرات من أولها لآخرها بنهاية 2024 على أقصى تقدير".
ووفقًا لقرار الحكومة، المنشور في الجريدة الرسمية، ستتحمل وزارات المالية والإسكان والسياحة، التعويضات التي من المقرر أن تحصل عليها البنوك مقابل إقراض المستفيدين بسعر فائدة أقل من سعر الفائدة الرسمي، بدلًا من تحميلها للبنك المركزي.
مبادرة التطوير العقاري أبرز المبادرات التي انطلقت قبل التعويم الأول، وطرح المركزي مبادرة لتمويل محدودي ومتوسطي الدخل في 2014، بفائدة مدعمة متناقصة لشريحتي محدودي الدخل تتراوح بين 5% و7%، ومتوسطي الدخل بفائدة 8%، ثم جرى إدراج شريحة فوق متوسطي الدخل بفائدة 10.5% لتوسيع دائرة المستفيدين، وهي المبادرة التي أتاحت تمويلات بنحو 20 مليار جنيه حتى مطلع 2019، ومن مخصصات بلغت 50 مليار جنيه.
يخيم الغموض على الآلية التي يجري بها تغطية الفرق بين أسعار الفائدة المقدمة في المبادرات وتلك التي تحتسب للقطاعات الأخرى غير المشمولة بها
وفي يوليو/ تموز 2021، أعلن المركزي مبادرة للتمويل العقاري بقيمة 100 مليار جنيه لإسكان محدودي ومتوسطي الدخل، بسعر فائدة متناقص 3%، وفترة سداد تصل إلى 30 عامًا، لتكون أقل نسبة عائد مطروح في المبادرات.
لكن في قرارها هذا الأسبوع، حظرت الحكومة على أي جهة، من الوزارات الثلاث أو غيرها، طرح أي مبادرة لدعم أسعار الفائدة دون موافقة رئيس الوزراء، وهو ما فسره جنينه بأنه وقف غير معلن للمبادرات.
الفرق بين تحمل المركزي أو الوزارات
يخيم الغموض على الآلية التي يجري بها تغطية الفرق بين أسعار الفائدة المقدمة في المبادرات وتلك التي تحتسب للقطاعات الأخرى غير المشمولة بها، لكن المؤكد أنها تؤثر سلبًا على أرباح البنوك العامة التي تنفذها.
تنص المبادرات السابقة على أن يتولى البنك المركزي تعويض البنوك المشاركة عن فرق التكلفة في سعر الفائدة، وهو ما شرحه نائب محافظ المركزي جمال نجم، في تصريحات صحفية في 2019، قال فيها إن المركزي يتحمل تكلفة 4.75% من فرق أسعار الفائدة، وقت أن كان سعر فائدة الإقراض والخصم في السوق 12.75% -، ما يعني أن هذه النسبة ارتفعت حاليًا بعدما أصبح سعر الائتمان والخصم بالمركزي 13.75%.
لكن كيف تحصل البنوك على تلك الأموال؟ يقول خبير مصرفي تحدث للمنصة شرط عدم الكشف عن هويته، إن البنوك توفر التمويلات الميسرة من خلال طريقتين، أولهما خصم التمويلات التي يوفرها البنك في المبادرة من قيمة الاحتياطي الإلزامي الذي يجب أن يودعه البنك لدى المركزي، أما الطريقة الأخرى أن يحسب الفرق في سعر الفائدة كخسارة للبنك وتخصم الخسارة في المبادرة من إجمالي أرباحه.
يربط بعض المحللين خسائر البنوك من تلك المبادرات بـخسائر البنك المركزي، لكن يبدو أن هذه الفرضية لا تلقى تأييدًا كبيرًا، غير أن المؤكد أن الخزانة العامة تتأثر نتيجة تراجع أرباح البنوك العامة التي عادة ما يقع على عاتقها حمل تقديم الدعم الحكومي للمواطنين والصناعة المحلية.
يبين جنينه أن الشائع تحمل البنك المركزي الفرق، وإن كان لا يوجد بند محدد ومعلن يظهر حجم ما تحمله المركزي لصالح البنوك.
يضيف جنينة أن "البنوك كانت تتحمل المبادرات من خلال تقليل الأرباح، وهي خسارة مستترة وسط أرباح البنك الكلية، خاصة بنكي الأهلي ومصر، في مرحلة ما تضطر الحكومة المركزية للتدخل لتغطية هذه الخسائر وإعادة رسملة وتمويل هذه البنوك".
ويشرح جنينه أن القرار الجديد كشف "الدعم المستتر" لأي عبء تتحمله الحكومة وإدراجه في الموزانة العامة للدولة، ما يعني أنه سيتم معاملة دعم أسعار الفائدة مثل باقي بنود الدعم الحكومي.
"صندوق النقد أراد تحقيق أمرين، وقف ستر الدعم أو إخفائه، أي دعم من الدولة لابد أن يُضمّن في الموازنة العامة للدولة، وأن يدمج أي دعم يقدم بشكل غير مباشر أو تتحمله هيئات غير مدرجة ضمن بنود الموازنة، والأمر الثاني خفض التضخم. إذا أردت أن تساند المصانع، قلل معدل التضخم بالتالي الفائدة تنخفض على الجميع" بحسب جنينه.
قد يتساءل قارئ: ماذا يمكن أن يتكبد المواطن جراء القرار اﻷخير للحكومة؟ وفقًا للبهي فإنه من المتوقع أن ينتج القرار تفاوتًا في تسعير تكلفة المصانع التي تقترض من البنوك، وفي النهاية سترتفع أسعار المنتجات على الجميع.