تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أفواه وأرانب والبيضة والفرخة

منشور الأحد 20 نوفمبر 2022 - آخر تحديث الأحد 20 نوفمبر 2022

تجاوز تعداد العالم ثمانية مليارات نسمة هذا الأسبوع، وهو الرقم الأكبر على الإطلاق في تاريخ البشرية المسجل وغير المسجل. وكانت هذه مناسبة لإعادة فتح ملف الزيادة السكانية في منطقتنا، وعلاقته بالتنمية الاقتصادية في العقود الخمسة أو الستة الأخيرة، وبالأخص في مصر البلد العربي الأكبر سكانًا.

يظل التفسير الديموغرافي لتواضع أداء التنمية في مصر من أكثر التفسيرات إثارة للجدل والنقاش، ليس في أوساط الخبراء والأكاديميين فحسب بل في الأوساط الاجتماعية والسياسية كذلك.

يرى فريق أن الزيادة السكانية المرتفعة في مصر في السنوات الخمسين الماضية مسؤولة –إن لم تكن المسؤولة- بشكل أساسي عن ضعف آثار التنمية، لأنها على حد تعبير البعض "تأكل" ثمار النمو والتشغيل. وبديهي أنه كلما زاد عدد السكان كلما زادت قسمة المتحقق من النمو والاستثمار والوظائف وغيرها، ما يؤدي إلى تراجع أو ثبات نصيب الفرد.

وفي المقابل يرى فريق آخر أن البشر "ثروة" يمكن استغلالها لتحقيق التنمية، بدلًا من اعتبارهم عائقًا. بل إن بعض الدول كثيفة السكان، مثل الصين، نجحت في تحقيق معدلات تنمية مرتفعة. ولا يقف الأمر عند النقاش العلمي لأن المسألة بطبيعة الحال مسيسة.

فمن ناحية، استخدمت السلطات السياسية المتعاقبة على حكم مصر في العقود الماضية زيادة السكان لإعفاء نفسها من التواضع النسبي لأداء التنمية الاقتصادية والاجتماعية مقارنة بدول أخرى في العالم. بل واتُّخذ التفسير الديموغرافي في كثير من الأحيان ذريعة لإلقاء اللوم على الشعب نفسه.

وفي الجهة المقابلة، استُقطبت القضية الديموغرافية في مصر بين أنصار تحديد أو تنظيم النسل وأنصار "تناكحوا تكاثروا"(1).

ليس الأعلى ولكن

مبدئيًا، فإن معدل الزيادة السكانية في مصر الذي يبلغ 1.92% ليس بين الأعلى في العالم خلافًا لما هو شائع، رغم أنه يظل أعلى كثيرًا من المتوسط العالمي البالغ 1.04%. لكن المعدل في مصر أنه أقل من نظيره في إفريقيا. كما أن متوسط معدل النمو في الخمسين سنة الماضية في مصر (2.17%)، كان أقل من المعدل للعالم العربي (2.58%).

ويكشف الرسم البياني أدناه أن معدل النمو السكاني في مصر انخفض بشكل عام في السنوات الماضية، ولكن بشكل غير خطي نتيجة وجود فترات يرتفع فيها ثم ينخفض. ولكن في المتوسط انخفض معدل النمو بين 2000 و2020 إلى متوسط 1.98% مقارنة بمتوسط 2.31% في سنوات ما بين 1972 و1999.

 

معدل النمو السكاني السنوي (1)
معدل النمو السكاني السنوي (2)

أما الأمر الثاني فهو أن الزيادة السكانية المرتفعة تعاكس بالفعل جهود التنمية الاقتصادية لأنها تزيد من تحديات توليد النمو في الدخل والوظائف، والنفاذ للتعليم، والرعاية الصحية. وبالتالي جزء من الرواية الرسمية يتمتع بالصدق.

الصين نموذجًا

وكما يُظهر الرسم البياني، فإن بلادًا مثل الصين ودول شرق آسيا، والهند بدرجة أقل، شهدت انخفاضات أكبر في معدلات النمو السكاني مقارنة بمصر والعالم العربي، ما يمكن أن يفسر أداءها التنموي الأفضل. وليست صدفة أن معدلات النمو هي الأدنى اليوم بين مناطق العالم النامية في شرق آسيا والصين، وهي الدول التي قدمت أفضل أداء اقتصادي في السنوات الخمسين الماضية.

ولعل الصين نموذج فريد واستثنائي كونها شهدت تخفيضًا متعمدًا للنمو من خلال سياسة الطفل الواحد التي فرضتها الدولة في مطلع السبعينيات. ولكن هناك شبه إجماع على أن التخفيض الشديد والفُجائي لمعدل النمو السكاني أسهم بشكل مباشر في تحسين مستويات المعيشة لأغلب الصينيين، بما يجعل الصين أكبر نموذج لرفع أكبر عدد مطلق ونسبي من السكان من تحت خط الفقر في الأربعين سنة الماضية.

بالطبع تعاني الصين اليوم من تباطؤ النمو السكاني وشيخوخة السكان بسرعة كبيرة، على نحو حدا بالحكومة لإلغاء سياسة الطفل الواحد في 2018. ولكن ذلك لا ينفي أن التخفيض الذي وقع قبلها كان له أثر إيجابي على النمو والتنمية كليهما.

وبالتالي فإن الحديث عن إن النمو السكاني المرتفع ليس مشكلة بالضرورة للتنمية غير صحيح أو على الأقل غير دقيق. ولا يقتصر الأمر على انخفاض معدل الزيادة السكانية، بل كذلك انخفاض معدلات الإعالة للصغار، وهي نسبة من هم دون سن 15 لإجمالي السكان. وتعد تلك النسبة مؤشرًا على حجم السكان الذين لا ينشطون إنتاجيًا، وفي المقابل يتحمل ذووهم العبء الأكبر لإعالتهم.

وترصد مؤشرات البنك الدولي لمعدلات الإعالة في مصر، بمتوسط 54.9% للفترة بين 2000 و2020، مقارنة بـ47.4% و25.19% للهند والصين على الترتيب. ومن اللافت أن المعدل في مصر آخذ في الارتفاع منذ 2008 بشكل منتظم.

ولكن لا يعني ذلك أن كلام السلطات السياسية المتعاقبة في مصر صحيح بالكامل لسببين. أولًا: معدلات النمو السكاني في مصر شهدت انخفاضًا لا سبيل لإنكاره في العقود الماضية، كما أنها ليست مرتفعة بشكل استثنائي مقارنة بأفريقيا والعالم العربي، المحيط المباشر لمصر ثقافيًا وجغرافيًا واقتصاديًا.

وثانيًا: لأن المعدل المرتفع نسبيًا في الحالة المصرية وغيرها، لا ينبع من فراغ بل إنه نفسه نتاج ضعف الأداء التنموي عبر  العقود ذاتها، ما يخلق دائرة خبيثة يكون فيها تردي مستويات المعيشة للأغلبية سببًا في ارتفاع النمو السكاني، والذي يؤدي بدوره إلى صعوبة تحسين مستوى معيشتهم.

حلقة مفرغة

كيف ذلك؟ لا يأتي النمو السكاني من فراغ، بل يحدُث في سياق اجتماعي واقتصادي، وهناك أدلة هائلة تربط مستويات تمكين النساء من التعليم والاندماج في سوق العمل، بتأخر سن الزواج، وبالتالي تراجع معدلات الإنجاب، ومن ثم معدلات النمو السكاني ككل.

الأمر نفسه ينطبق على ارتفاع الدخول ومعدلات الاستهلاك والانتقال لسكنى المدن، فكلها تؤدي إلى إضعاف الحافز لإنجاب العديد من الأطفال. إن انخفاض معدلات النمو السكاني في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وجنوب آسيا لم يكن ناتجًا عن سياسات قهرية كتلك التي تبنتها الصين، بل نتيجة تحسن مستويات المعيشة للغالبية الكبرى، خاصة في قطاعات التعليم والمشاركة في سوق العمل. وهو الأمر الذي لم يحدث بالوتيرة ذاتها في العالم العربي، بما فيه مصر، أو في أفريقيا.

وبالتالي، فخلافًا للخطاب الرسمي حول النمو السكاني كونه السبب وراء ضعف أداء التنمية أو الإحساس بها، فإن النمو نفسه ناتج عن ذلك الضعف، الذي بدوره يتصل بدور الدولة والسياسات العامة والمؤسسات الحاكمة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي. وما تمكين النساء إلا مثال، إذ يحتل العالم العربي بما فيه مصر، المرتبة الدنيا في مشاركة النساء في سوق العمل رغم تزايد مكتسباتهن من التعليم.

يرجعنا ذلك إلى الجذور السياسية للتنمية من عدمها، والمتمثلة هنا في السياسات الحاكمة للتعليم والعمل والصحة الإنجابية والتأمين الصحي والعدالة الجندرية، والقائمة تطول ولا تقصر.


(1)إشارة لحديث نبوي.