هل يُحدث المتحف الكبير النقلة المرجوة في السياحة؟
عشية افتتاح المتحف المصري الكبير اختارت BBC عنوانًا للخبر كما يلي "مصر تفتتح أكبر متحف للحضارة المصرية القديمة". بالرغم مما يبدو أنه تكرار لبديهيات على غرار "شهداء 25 يناير ماتوا في أحداث يناير"، لكن الواقع أن البلدان التي تتمتع بأعرق الحضارات عادة ما تلعب دورًا هامشيًا في حركة السياحة العالمية.
الدول صاحبة الحضارات الإنسانية العريقة مثل العراق وسوريا والهند والصين واليمن وبيرو والمكسيك لا تمتلك متاحف تستقطب الاهتمام العالمي مثل لندن وبرلين وباريس ونيويورك ومؤخرًا دبي.
ومن هنا فإن المتحف المصري الكبير يُعد بحق إنجازًا كبيرًا يستحق الاحتفاء لأنه يَعِد بتدشين خطوة مهمة لرفع قدرة مصر على زيادة صادراتها الخدمية في صورة اجتذاب المزيد من السياح.
لا يعرف الكثيرون أن مصر من البلدان النامية القليلة التي تحقق فائضًا في صادرات الخدمات، أي ما يباعُ من خدمات لغير المصريين وتمثل السياحة أكبر مكوناتها، وصلت قيمته إلى نحو 17 مليار دولار في 2024/2025.
لدينا أساس قوي، فنحن نبيع للعالم خدمات بأكثر مما نشتري منه، فهل لنا أن نطمح في أن يميل هذا الميزان لصالحنا بشكل أكبر خلال السنوات المقبلة استنادًا إلى المتحف؟
لسنا من اللاعبين الكبار
على أي حال، فإن قياس فرص نمو السياحة لا يكون عادةً من خلال حساب الإيرادات لكن على أساس أعداد السائحين الوافدين، فهناك طيف واسع من الخدمات التي يستهلكها السائح تعود على الاقتصاد بمجرد وصوله إلى أرض البلد التي يزورها.
وهذه الأعداد وصلت ذروتها في مصر عام 2010، عندما بلغت نحو 15 مليون سائح وافد، لكنها انخفضت بشكل واضح خلال العقد التالي الذي شهد اضطرابات سياسية متوالية، حتى بلغ العدد في آخر رصد للبنك الدولي في 2019 نحو 13 مليون سائح، ثم عاد للتعافي خلال السنوات الأخيرة ليتجاوز الذروة القديمة ويصل في 2024 إلى 15.7 مليون سائح.
لكن إذا وضعنا البيانات المصرية في مقارنة مع المقاصد السياحية المنافسة سنجد أننا لسنا من كبار اللاعبين في هذا المجال عالميًا، مثل تركيا التي ضاعفت عدد السائحين الواردين إليها من 10.5 مليون في 2000 إلى 33 مليونًا في 2010 قبل أن يبلغ العدد 52 مليونًا في 2019 أي ما يقرب من خمسة أضعاف ما يفد إلينا من سائحين!
هل كان قرارًا صحيحًا؟
حسنًا، إذا ما كنا من اللاعبين متوسطي الحجم دوليًا في مجال السياحة هل من المنطقي أن ننفق ما يتجاوز المليار دولار على المتحف المصري الكبير؟ أزعم أن الإجابة نعم.
ذلك لأن السياحة مكون مهم في اقتصادنا، بالتالي فإن تعزيز هذا النشاط سيساهم في تأثير أكبر على الاقتصاد في مجمله.
أهمية عائدات السياحة بالنسبة لاقتصادنا أكبر لأنه اقتصاد صغير نسبيًا
نستطيع أن نقيس إسهام السياحة في الاقتصاد المصري بالنظر إلى عائدات هذا النشاط من إجمالي عائدات الصادرات، وقد بلغت هذه النسبة 22.2% في 2006، وارتفعت إلى 27% في 2019، حسب آخر البيانات المتاحة من البنك الدولي.
الأمر ليس كذلك في بلد مثل تركيا رغم نجاحها الكبير في زيادة عدد ومن ثم عائدات السياحة بالدولار، إذ مثلت عائدات السياحة في 2019 نسبة 16% من الصادرات التركية الإجمالية، بل كان النصيب أصغر في بلد مثل إيطاليا بنسبة 8.2% من الصادرات رغم تحقيقها 51.91 مليار دولار في تلك السنة.
بالرغم من محدودية نجاحنا في تنمية السياحة الوافدة مقارنة بهذه البلدان، فإن أهمية عائدات السياحة بالنسبة لاقتصادنا أكبر لأنه اقتصاد صغير نسبيًّا.
على المدى القصير، فإن ثقل وزن السياحة في الاقتصاد يجعل المتحف استثمارًا مهمًا لهذا الاقتصاد، لكن على المدى الطويل فالاعتماد المفرط على السياحة يجعلها نوعًا من التبعية الاقتصادية المليئة بالمخاطر.
السياحة ليست بديلًا للتنمية
الخلاصة؛ من المنطقي أن تضاعف مصر استثماراتها في مجال السياحة أياً كان نوعها ثقافية أو ترفيهية أو علاجية أو حتى تعليمية، لكن ينبغي أن نتذكر أنه قطاع هش أمام الاضطرابات، ونحن نعيش في منطقة كُتب عليها الحرمان من الاستقرار لأسباب سياسية وغير سياسية.
وعلينا أيضًا أن نتذكر جيدًا أن التنمية السياحية لن تكون بديلًا عن تحقيق التنمية من خلال إنتاج سلع وخدمات ذات قيمة مضافة أعلى مثل الاتصالات والاستشارات المالية والرعاية الصحية والتعليم الجامعي وما بعد الجامعي، وهي كلها قطاعات تتطلب جهودًا أعم في التنمية في مجالات التنمية البشرية من تعليم وصحة واستثمارات في البنية الأساسية بما في ذلك البحث العلمي والتطوير.
فيما تظل السياحة في مجملها معتمدة على خدمات ذات قيمة مضافة متواضعة متمثلة بالأساس في الفندقة والمطاعم والخدمات المتصلة بهما.
ليس بالمتحف فقط تتقدم الأمم، لكن يجب أن ترافقه التنمية، فبدون الأخيرة لا يمكن لبلد مثل مصر أن يحمي نفسه من الوقوع فريسة في تذبذب الأداء الاقتصادي، بسبب اعتماده القوي على خدمات مثل السياحة المعرضة لمخاطر عدة بدءًا من الاضطرابات السياسية إلى الأوبئة.
