احتفى العالم منذ أسابيع قليلة بجوائز نوبل للعلوم. وقد مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء هذا العام لجون كلاوزر وآلان أسبكت وأنتون زيلنجر، بعد أن طوروا عددًا من التجارب الرائدة والملهمة في الفيزياء الكمية، التي مهدت لاحقًا لتكنولوجيا غير مسبوقة، يعمل الباحثون الآن على استخدام تطبيقاتها في مجالات مثل الاتصالات ونقل المعلومات والحسابات الكمية فائقة السرعة.
والفيزياء الكمية أو ميكانيكا الكم من أساسيات الفيزياء الحديثة التي أدت تطبيقاتها إلى ظهور العديد من الأجهزة الإلكترونية المستخدمة في حياتنا اليومية، كالهواتف المحمولة والتليفزيون والراديو والحاسبات بأنواعها.. إلخ.
وتختص فيزياء الكم بوصف جسيمات العالم الصغير من ذرات وجزيئات مجهرية، مقارنة بأجسام العالم التي يمكن معاينتها بالعين، من حبات الرمل وحتى الكواكب والنجوم العملاقة، التي توصف من خلال الفيزياء الكلاسيكية.
قبل أن نتحدث عن تلك التجارب المثيرة التي قام بها العلماء الثلاثة أود أن أعطي نبذة سريعة عن فيزياء الكم الغريبة من خلال التجربة التالية. لنفترض أنك وضعت في صندوق ما عددًا من ذرات عنصر "X" المشع التي تتحلل الى عنصر "Y"، وانتظرت لفترة زمنية.
إذا أردت بعد مرور بعض الوقت حساب عدد ذرات "X" التي لم تتحلل بعد، ستمكنك ميكانيكا الكم من حساب متوسط عدد الذرات التي ستبقى مقابل متوسط عدد الذرات التي ستتحلل. لكن لا توجد طريقة للتنبؤ أو حساب أي من الذرات ستبقى وأيها ستتحلل.
تخبرنا ميكانيكا الكم إذًا أن بإمكاننا فقط حساب الاحتمال الإحصائي بدون معرفة ما سوف يحدث لكل ذرة بعينها، وهو ما لم يتقبله ألبرت آينشتاين الذي كان يرفض الطبيعة الاحتمالية لميكانيكا الكم، وكثيرًا ما أعرب عن اعتقاده بأن النظريات الفيزيائية لا بد أن تكون محددة النتائج بشكل عام، وليست احتمالية.
دفع ذلك آينشتاين إلى التفكير بأن ميكانيكا الكم ليست مكتملة كنظرية، متسائلًا عمّا إذا كانت هناك كميات/ متغيرات فيزيائية غير معروفة أو خفية يمكننا إضافتها لاكتمال البناء النظري والحصول على نظرية محددة النتائج؟
في عام 1935 صاغ آينشتاين وبودولسكي وروزن هذه الفكرة في ورقة بحثية مثيرة. كان بحث آينشتاين وزملائه عبارة عن "تجربة فكرية" استخدموا فيها زوجًا من الجسيمات المجهرية، أصبحنا نسميه اليوم "الزوج المتشابك". سأحاول في السطور القادمة مناقشة تلك التجربة لأنها ضرورية لفهم تجارب فيزيائيي نوبل الثلاثة، ولكن من الضروري قبلها توضيح مفهوم الزوج المتشابك.
نعني بالزوج المتشابك جسيمين مرتبطين فيزيائيًا، تعتمد حالة كل منهما كليًا على الآخر حتى بعد أن يبتعدا مسافة كبيرة. فإذا قيست حالة أحدهما عرفت فعليًا حالة الآخر. ما يحدد حالة الجسيم في الزوج المتشابك هو كمية/ كميات فيزيائية معينة، فمثلاً هي اللف المغزلي (spin)1 في حالة جسيمات مثل الفوتونات فإذا قيست لأحدهما عرفت قيمتها للآخر.
استخدم آينشتاين الزوج المتشابك لتاكيد اعتراضه على ميكانيكا الكم. فبعد أن ينطلق الجسيمان في اتجاهين متعاكسين ويبتعدان مسافة شاسعة، يتم قياس الكمية المذكورة لأحدهما فتحدد قيمتها للآخر آنيًا. أي أن الأول سوف يؤثر على الآخر بسرعة أكبر من سرعة الضوء، ما يتعارض مع مبدأ التفاعلات المحلية القائل بعدم وجود تفاعلات آنية (لا تأخذ وقتًا) بين أجسام بعيده عن بعضها.
سُمّي هذا التأثير لاحقًا بالتأثير الشبحي نظرًا لغرابته. قد يعتقد القارئ أن هذه الظاهرة تتعارض مع النظرية النسبية، لكن في الحقيقة لا يوجد تعارض، لأننا لا نستطيع أن نستخدم هذه التجربة في إرسال إشارات معلوماتية.
النسبية تؤكد على عدم إمكانية إرسال إشارة معلوماتية بسرعة أكبر من سرعة الضوء، لكن في هذه التجربة ليس لدينا أي تحكم في نتيجة كل قياس على حده، لذلك لن نستطيع أن نكون شفرة للإشارة. والإشارة المعلوماتية هى إشارة تستخدم شفرةً ما لنقل المعلومات من مكان لآخر. مثلًا، إشارات التليجراف التي تستخدم شفرة موريس.
انحاز معظم الفيزيائيين لميكانيكا الكم بسبب نجاحاتها العظيمة في تفسير كل أنظمة العالم الصغير من الجزيئات إلى ما هو أصغر من ذلك. بل لا توجد تجربة واحدة إلى يومنا هذا تتعارض نتائجها مع النظرية. ظل سؤال آينشتاين يؤرق الفيزيائيين فتره طويلة، ليس فقط لعدم قدرتهم الإجابة عنه، لكن لأنه يحوي في طياته عدم تمكنهم من فهم عالم الكم بشكل كافٍ.
لكن الفيزيائيين لم يُقِرّوا النظريات بناءً على التجارب الفكرية أو التوافق الرياضي للنظرية فحسب. هي نقاط مهمة على طريق طويل لتكوين النظرية، لكن القول الفصل كان للاختبار المعملي.
في الفترة الزمنية بين عامي 1935 و1972 تساءل العلماء كثيرًا عن الطريق الذي تسلكه الطبيعة؛ طريق ميكانيكا الكم والتأثير الشبحي أم طريق المتغيرات الخفية وإعادة صياغة فيزياء الكم. كان تحديد ذلك أمرًا صعبًا للغاية وامتد لعقود، حيث لا توجد تكنولوجيا تمكنهم من ذلك.
نال زلنجر الجائزة لسبب آخر، فقد طور تقنيات وتجارب أخرى في العديد من التطبيقات المستقبلية لتقنيات المعلومات الكمية والحسابات الكمية والتي من المنتظر أن تفجر ثورة تكنولوجية
ظل الوضع هكذا، الفيزيائيون يستخدمون ميكانيكا الكم في جميع أفرع الفيزياء، لكن كانت هناك محاولات دائمة لتعميمها في كيانات أكبر وبطرق مختلفة، لم تكلل بالنجاح.
في عام 1962 اشتقَّ جون بل متباينة رياضية3 تؤكد أن المتغيرات الخفية عامة تخضع لقيود رياضية معينة، في المقابل هناك قيود رياضية مماثلة لميكانيكا الكم ولكنها مختلفة عن الأولى. فكر بل في إمكانية استخدام تلك القيود معمليًا للتمييز بين النظريتين، ليواجه مشكلة أن تلك المتباينة غير قابلة للتطبيق معمليًا.
وهنا أتى دور جون كلوزر، الذي اشتق مع آخرين متباينة أخرى مكافئة تمامًا لمتباينة بل، سميت متباينة (Clauser-Horne-Shimony-Holt) أو CHSH، وكانت لها ميزة هامة، إنها قابلة للاختبار معمليًا. فكانت تلك المتباينة الجديدة تطورًا مهمًا في صياغة المشكلة معمليًا. الآن فقط يمكننا سؤال طبيعة الكم المراوغة أي من الطريقين تسلكين.
كان جون كلوزر أول من استطاع معمليًا إجراء هذا النوع من التجارب في عام 1972. في تلك التجربة تم تكوين زوج من الفوتونات2 المتشابكة تم فصلهما لمسافة لتقاس الكمية الفيزيائية المتعلقة بحالة التشابك لأحدهما باستخدام كاشف على اليمين، فتتحدد لحظيًا قيمة الكمية للفوتون الآخر على اليسار عند قياسها.
أكد كلوزر من خلال هذه التجربة لأول مرة عدم تحقق متباينة CHSH تجريبيًا وأن ميكانيكا الكم صحيحة فعلاً. لكن مع تقدير المجتمع العلمي لجهود ونتائج كلوزر كانت لنتائجه ثغرتان. الأولى هي أن نتائجه ليس لها دقة إحصائية عالية والثانية أن إمكانية تأثير أحد الكاشفات على الآخر ليست معدومة، حيث لم تكن المسافة كبيرة بما يكفي.
نظراً لأهمية التجربة في إقرار طبيعة الفيزياء الكمية أكد الفيزيائيون على وجوب غلق جميع الثغرات المنطقية والعملية الممكنة للتأكد من النتيجة التجريبية.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي اكتشف الفيزيائيون كيفية توليد فوتون وحيد وكيفية رصده بكاشفات مخصصة لذلك. كان آلان اسبكت من أوائل الفيزيائيين الذين طوروا واستخدموا هذه التقنية في إعادة تجارب كلوزر بشكل مبتكر وأكدوا نتائجه. كانت نتائج اسبكت أدق خمس مرات إحصائيًا على الأقل من تلك التي نشرها كلوزر في 1972. بالإضافة الى أن إمكانية تأثير الكاشفين على بعضهما البعض كانت أقل من التجربة السابقة، وإن لم تنعدم.
أما التسعينيات، فقد شهدت تطورًا كبيرًا في أجهزة الألياف البصرية واستخداماتها مع مصادر ضوئية ليزرية. كان أنطون زلنجر أحد من طوروا هذه التقنيات العالية وسرعان ما استخدمها في إثبات عدم تحقق متباينة CHSH تجريبيًا والتأكيد على نتائج كل من كلوزر واسبكت.
لقد فصل زلنجر الفوتونين المتشابكين في التجربة لرصدهما على مسافة 400 متر. عند تلك المسافة مبدئيًا من الممكن أن يوثر الكاشف الأيمن على نتيجة الأيسر فقط عندما يكون الفارق الزمني بين القياسات المتتالية أكبر من واحد من مليون من الثانية.
لذلك فإن أي قياسات متتابعة زمنها البيني أصغر من ذلك لن تسمح بأيه تأثيرات بين الكاشفات. لهذا جعل زلنجر الزمن البيني للقياسات المتتالية في حدود واحد من مئة مليون من الثانية ولهذا لن تتمكن الكاشفات من التأثير على بعضها. بعد إجراء هذه التجربة لأكثر من 10000 مرة سجل زلنجر رقمًا قياسيًا جديدًا ودقة إحصائية رائعة في إثبات عدم تحقق متباينة CHSH تجريبيًا وصحة ميكانيكا الكم.
نال زلنجر الجائزة لسبب آخر، فقد طور تقنيات وتجارب أخرى في العديد من التطبيقات المستقبلية لتقنيات المعلومات الكمية والحسابات الكمية والتي من المنتظر أن تفجر ثورة تكنولوجية تغير تمامًا طرق نقل المعلومات وتشفيرها. كذلك ستغير قدرات الحاسبات إلى سرعات أعلى مئات الملايين من المرات من سرعات الحاسبات الكلاسيكية الحالية!
لقد قدم كلوزر، اسبكت وزلنجر أعمالًا ملهمة للبشرية والأهم من ذلك أنها ستكون الأساس المعرفي لما نسميه اليوم عصر المعلومات والحاسبات الكمية أو ثورة الكم الثانية.
1-اللف المغزلي (spin) هو خاصية مماثلة لكمية الحركة الزاوية لكنها جوهرية وتمثل ظاهرة ميكانيكية كمومية أصيلة.
2-يتكون الضوء من جسيمات مجهرية تسمى فوتونات.
3- المتباينة هى تعبير رياضي، مثل المعادلة التي تساوى بين كميتين، لكن المتباينة تعبر عن أن إحدى هاتين الكميتين أكبر أو أصغر من الأخرى. في كثير من الاحيان تستخدم الفيزياء كميات فيزيائية غير قابلة للقياس تجريبيًا لكي تساعدنا في شرح و حساب الظواهر الفيزيائية، وتكون هذه الكميات على علاقة رياضية بكميات فيزيائية قابلة للقياس. فإذا أردنا التحقق تجريبيًا من أية معادلات أو متباينات تحتوى على كميات غير قابلة للقياس، من الضروري تحويلها بعمليات رياضية إلى معادلات أو متباينات مكافئة لها، تحتوى فقط على كميات قابلة للقياس تجريبيًا.