تعرفت على مصطلح المساكنة في منتصف التسعينيات حين اشتغلت على أحد مشاريع التخرج من الجامعة تحت إشراف أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور وضاح شرارة، الذي أثار فينا الفضول لاستكشاف أحد جوانب البنية الاجتماعية التي لا نعرف عنها الكثير.
قبل البحث عن الحالات التي سنقوم بدراستها، كان عليَّ التخلص من الأحكام المسبقة قبل دخول الميدان، وأن أنظر بعين الباحث الراصد والمستكشف دون إدانة. لم تكن المهمة سهلة نظرًا لافتقاري إلى الخبرة المطلوبة، ولانتمائي إلى مجتمع يرفض فكرة العلاقات خارج إطار الزواج، حتى لو لم أتبنى شخصيًا هذا الرفض، لكني لا شك كنت تحت تأثيره.
والمساكنة هي علاقة تجمع شخصين بالغين قررا العيش سويًا دون عقد ديني أو مدني يشرعن هذه العلاقة بحسب الأعراف المرعية. وهي بالتالي نموذج فيه تحدٍّ واضح للأعراف، وحتى للقوانين التي كانت ولا زالت تجيز في بعض بلداننا إلقاء القبض على من يساكنون بعضهم إذا ما شاءت السلطات المعنية استخدام هذا السلاح ضدهم.
حين أجريت البحث لم تكن المساكنة مصطلحًا ونموذجًا شائعًا للعلاقات، أو على الأقل غير معروفة على المستوى العام. وحرص الأشخاص الذين قابلتهم على إبقاء هوياتهم وأماكن سكنهم سرية، وبالتالي واجهت صعوبة في إيجاد الأشخاص المناسبين، وإقناعهم بالتحدث إليَّ. لكن ما إن اكتسبت ثقة أحدهم حتى أصبح بوابة العبور لتعريفي على آخرين ارتضوا مشاركتي تجربتهم.
كيف تختلف المساكنة عن الزواج بمعناه التقليدي طالما يعيش الأشخاص في منزل واحد، ويتقاسمون مهام الحياة وتكاليفها سويًا؟ سؤال كان يدور في ذهني ضمن الأسئلة الأخرى التي كنت أطرحها، أهو سعي للتمايز فقط والاختلاف لمجرد الاختلاف أم أن هناك أسبابًا أخرى؟
في لبنان، حيث أجريت البحث، كان الاختلاف الطائفي بين طرفي العلاقة أحد المداخل لها. معظم من قابلتهم كان الاختلاف الطائفي أو الديني مبررًا لرفضهم الزواج بمعناه التقليدي، والذي يستوجب أن يغير أحد الأطراف ديانته أو عليهما السعي إلى زواج مدني خارج لبنان، ثم خوض معركة إثباته في الدوائر الرسمية التي ترفضه.
وبالتالي كان خيار المساكنة، بالرغم من كلفته العالية اجتماعيًا، هو الحل بالنسبة لهم. لكني كذلك قابلت آخرين، اختاروا المساكنة تعبيرًا عن رفضهم لسلطة المؤسسة الدينية على حياتهم وخياراتهم الشخصية، لما يرون فيها من فساد وسعي للتحكم في المجتمع من خلال الدين دون وجه حق على حد قولهم. وهناك بعض من فضلوها، كدلالة على فشل شروط المؤسسة الزوجية، التي تؤطر العلاقة بين الرجل والمرأة كأحد "أشكال العبودية".
اليوم، وبعد مرور ربع قرن تقريبًا على إجراء ذلك البحث، لا أعرف حقًا إذا كانت المساكنة أكثر انتشارًا من ذي قبل. أولًا، لغياب الدراسات الاجتماعية الجادة عن مجتمعاتنا. وثانيًا، لاستمرار التعامل مع العلاقات الإنسانية كتابو، لا يجرؤ الكثيرون على الحديث عنه.
لكن مؤخرًا، أعاد الجدل تصريحات للفنان المصري محمد عطية، اعتبر فيها أن المساكنة قد تكون حلًا لانتشار ظاهرة الطلاق بين أوساط الشباب، وأنها فرصة لتعرف الأشخاص على طباع بعضهم ومعرفة مدى ملائمتهم لخوض تجربة الارتباط وبناء أسرة وإنجاب أطفال. وطبعا غنيّ عن الذكر حملة الاستنكار التي تعرض لها الفنان ومهاجمته التي وصلت حد اتهامه بمحاولة هدم المجتمع والابتعاد عن الدين.
إذا كان طرح فكرة المساكنة أمرًا مرفوضًا على المستوى الديني والاجتماعي، لا بد أن تقدم هذه المؤسسات حلولًا لمشاكل الواقع المعاش
جدل لا أريد الخوض فيه، بين من يرى المساكنة تجاوزًا للشرع والدين ومن قد يجد غطاءً دينيًا يجيزه، كالزواج العرفي أو المتعة أو زواج المسيار. ما يعنيني هنا فعلًا، هو التوقف عند ظاهرة ازدياد حالات الطلاق التي توثقها الأرقام، لا سيما في السنة الأولى من الزواج. ومحاولة البحث في أسبابها الاجتماعية.
إلى حين اختراع برشامة دواء تجعلنا نشعر بالحب ونقع فيه، علينا الاعتماد على الأوكسيتوسين، الهرمون الذي تفرزه أجسامنا حين نشعر بالحب تجاه شخص ما. لكنه للأسف هرمون، لا يعول عليه، لأنه يحتاج إلى محفزات دائمة لإفرازه بشكل طبيعي في الجسم. فيذوي مع الوقت وتتبخر المشاعر الحلوة التي دفعتنا في البداية لاتخاذ قرار الارتباط بشخص ما.
وبما أننا نعيش أيضا في مجتمعات تخاف الحب وأشكال التعبير عنه أكثر من القتل والاغتصاب مثلا، فلا يمكن للبالغين الحب أو ممارسته خارج إطار ما هو مقبول، وما لا يخيف المجتمع، أي الزواج كوسيلة لممارسة فعل إنساني طبيعي يعين الإنسان على حياته واستمرارها كالأكل والشرب والتغوط. ليكون الحرام، والخوف من عاقبته، رادعًا عن ارتكاب الخطيئة. أو دفع الثمن بالنبذ الاجتماعي والوصم والسجن أو القتل إذا استلزم الأمر.
ندخل في بداية حياتنا في مؤسسة تُحملنا فوق طاقتنا، مدفوعين بالرغبة في تناول الفاكهة المحرمة. غير أنه ليس بالتفاح وحده ينجح الزواج! فالواقع فيه عناصر كثيرة أكثر تعقيدًا، فيه الطباع المختلفة، والتربية، والبيئة الثقافية المغايرة، وساحة معركة بين المفاهيم الذكورية والطموحات النسوية.
فيه كذلك فواتير آخر الشهر، وأقساط المدارس والغسالة. فيه شقة وسيارة ومكانة اجتماعية ورضا الوالدين. ولا أعتقد أن جرعات الأوكسيتوسين تكفي هذه الأحمال كلها. فما أن يستفيق الدماغ من نشوته حتى يكتشف أن الفاس وقعت في الراس كما يقول المثل.
وهنا قد تكون النتيجة عائلات مفككة، وأعباء تُرمى على كاهل أحد الزوجين -غالبًا ما تكون الزوجة- في تربية الأطفال وتحمل مسؤولية قرار غير محسوب لما تبقى من سنين العمر.
إذا كان طرح فكرة المساكنة أمرًا مرفوضًا على المستوى الديني والاجتماعي، لا بد أن تقدم هذه المؤسسات حلولًا لمشاكل الواقع المعاش. تمشي الحياة بوتيرة أسرع من قدرتنا على استيعاب المتغيرات الكثيرة، ولا تسعى القوانين والنصوص حتى إلى مواكبة هذه التغيرات ووضع معايير لها.
هل إذا بتنا أكثر تقبلًا لأشكال متنوعة من العلاقات بين البشر قد ننجح في بناء علاقات غير مدفوعة بدفقات الهرومونات في عروقنا؟ علاقات مبينة على مجموعة تفاهمات تضمن الشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات دون أن يسلط رجال الدين ومؤسساتهم السوط على رقابنا؟ أسئلة رهن الإجابة والتجريب، دونها سنظل نعيد إنتاج نفس النمط ونفس النتائج في حلقة مفرغة، نقطة البداية فيها هي نفسها النهاية.