"التحرش صار بلبنان. بعز الحرب. بوقت حسيت مش معقول قول شي لأنه كتير صعب قول شي". صدرت هذه العبارة عن السيدة سيليست عقيقي، وكانت تشير بها في لقاء تليفزيوني بث عام 2014 إلى انتهاكات جنسية ارتكبها في حقها وهي طفلة القس الماروني الشهير منصور لَبَكي.. خالها.
أربعون عامًا مضت منذ واقعة التحرش التي حدثت عام 1975. ستنتظر سيليست ثمانية أعوام أخرى حتى يقوم البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، بتجريد لَبَكي من عباءته الدينية ومن أية صفة كهنوتية تتيح له ممارسة المهام الكنيسة.
انتهاكات تحت الحماية
حدث هذا منذ أسابيع فقط، نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، وبعد نحو نصف قرن من المعاناة وتحت غطاء كثيف من تواطؤ الدولة وسلطات الكنيسة المارونية. مرت واقعة "الشلح" في هدوء لا يناسب حجم المعارك التي دارت في ساحات القضاء الفرنسي والتي انتهت غيابيًا بحكم على لبكي بالسجن 15 عامًا على انتهاكات ارتكبها في حق ثلاثة فقط من ضحايا لا نعلم عددهم، خاصة وأن الملف لم يفتح بعد في لبنان.
صدر الحكم في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي واحتاج الأمر نحو عام من الضغط ليُصدر البابا قراره الأخير.
حالة القس لبكي تحمل في طياتها الخصائص المعتادة لجرائم تتم في حماية الكهنوت وأحيانًا تحت نظره ورعايته في مجتمعات تقدس رجل الدين، يتطوع أفرادها للتغطية على الجريمة ويتسابقون للدفاع عن "نواب الله".
على كل خبر أو مقطع فيديو يشير إلى لبكي ستجد تعليقات ممن يستنكرون "الأكاذيب"، ويتهمون الضحايا بأنهم وراء حملة صهيونية لتشويه القس الشهير صاحب الترانيم الدينية ذائعة الصيت، ومؤلف الكتب الدينية وكاتب العظات التي كان يغنيها بصوته الحنون وينشر بها الورع والسكينة والتقوى وحب الرب. إضافة لقيامه بكثير من الأعمال الخيرية، تَوَّجَهَا اهتمام لافت بيتامى الحرب الأهلية اللبنانية.
أيقونة مبهرة لرجل دين مسيحي نموذجي.
تواطؤ وحماية
الصورة الذهنية عند الأتباع الورعين تتناقض مع واقع القس الذي تجاوز عامه الثمانين. محاكم فرنسا حققت في وقائع تمت أثناء إدارته لملجأ أيتام هناك في التسعينيات. ثلاث حالات محددة وأربعون شهادة من لبنانيات وفرنسيات تبعها حكم يطلب من الإنتربول ضبطه عام 2016 قبل أن يصدر الحكم النهائي بالسجن عام 2021.
تجاهلت الدولة والكنيسة طلب التسليم، رغم أن الأخيرة أوقفت لبكي عن العمل الكنسي إثر تحقيق داخلي قبلها بثلاث سنوات.
من غير المتوقع أن يتغير موقف الدولة اللبنانية أو الكنيسة المارونية التي حتى وإن قبلت صوريًا بالحكم القضائي الفرنسي الأخير، فقد ثبت وعلى مدى سنوات طويلة أنها تحمي لبكي من خلال التصريحات المتعاقبة لرؤوس السلطة فيها، الذين دعوا إلى عدم تناول الموضوع إعلاميًا.
يبدو الأمر أكثر وضوحًا بالنظر إلى المعاملة الاستثنائية التي تلقاها لبكي بعد وقفه عن الممارسات الكنسية. لم تتحدد إقامة الرجل، واستمر يستقبل محبيه، ويخرج للقائهم، ويلقي التصريحات، ويجري المقابلات الصحفية، ويتحدث في الإعلام، في تجاهل تام لحكم التوقيف الفرنسي وتبعات التحقيق الذي أجرته الكنيسة ذاتها.
يتناقض هذا كله مع الرغبة الواضحة من قبل البابا فرانسيس للتعامل مع جرائم تم التعامي عنها على مدى عقود. صرح البابا بأن نسبة المصابين بالميل الجنسي للأطفال (البيدوفيليين) بين رجال الكهنوت في الكنيسة قد تصل إلى 2%.
اعتذر عن تقاعس الكنيسة في الماضي، وعن الانتهاكات التي ارتكبت، وشدد العقوبات على مخالفات الكهنة، وطلب هو والبابا بنيدكت أن يسامحهم الضحايا الذين لا يكاد يمر شهر دون أن يلتقي بعضهم ويعتذر.
كلنا في الهم شرق
الوضع عندنا في الشرق يختلف ولا توجد نية واضحة للاعتراف بانتهاكات أو لوضع آلية للحد منها والتعامل معها. لدينا فقط تصريحات عامة تصدر بين حين وآخر تحت ضغط. والكنيسة القبطية الأرثوذكسية تبدو أكثر اهتمامًا بالحفاظ على صورتها، من التعامل مع الجرائم أو إنصاف الضحايا.
خذ مثلًا قضية سالي زخاري التي تعرضت وهي في الحادية عشرة من عمرها، لاعتداء من الكاهن رويس عزيز الذي كان أبواها يستضيفانه بشكل دوري في منزلهم بولاية فلوريدا الأمريكية. حدث هذا عام 1997 وعندما استجمعت شجاعتها لتتحدث في الأمر في سن السادسة عشرة، تبين أنها لم تكن الضحية الأولى ولا الوحيدة.
طمأنها القساوسة الذين اشتكت إليهم في الكنيسة إلى أن الكاهن المعتدي أعيد إلى مصر وسيعاقب هناك. ولكنها اكتشفت بعدها أنه أنه رُقّيَ إلى مرتبة قمص. استمرت في الشكوي وبعد أن تأكدت أن البابا تواضروس على علم بقضيتها، ويأست من حدوث تقدم في الملف، أخرجت القصة إلى العلن.
ومع تفاعلات الجمهور والإعلام في منصات التواصل الاجتماعي صدق البابا في يوليو/ تموز 2020 على قرار بعزل القمص رويس وتجريده من رتبه الكهنوتية وإعادته لاسمه المدني. كما أعلنت الكنيسة أنه لم يعد ممثلًا لها في مصر أو في الولايات المتحدة.
لم تنته القصة هنا. توفي يوسف خليل عزيز (وهو اسمه المدني) في مارس/ آذار 2022، وتجاهلت دوائر كنسية قرار الشلح (العزل) الذي اعتمده البابا تواضروس الثاني، فأقيم له العزاء في أبراشية أبو قرقاص باعتبارها قمصا كان يخدم فيها، ونعتته باسمه ولقبه الكنسيين ووضعت صورته بملابس الكهنة، في دعوات للصلاة والعزاء نشرت في أكثر من مكان ومنها صفحة المركز الثقافي القبطي.
من هنا وهناك
ما حدث في الولايات المتحدة يبدو أنه تكرر في أستراليا أيضًا. في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي أذاعت شبكة إس بي إس الاسترالية تقريرًا نشرته لاحقًا على موقعها، عن حالات اعتداء تمت على فتيات في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بين عامي 2008 - 2016، ورغم الإبلاغ عنها فإن الكنيسة لم تتخذ أية إجراءات، بل ونفت العلم بها رغم وجود مراسلات بين الضحايا والسلطات الكنسية.
يقول التقرير على لسان بعض المشاركين فيه إن الطريقة التي تم التعامل بها مع الأمر من قبل الكنيسة تُذكِّر بما كانت تفعله الكنيسة الكاثوليكية في الخمسينيات والستينيات، وإن المجتمع القبطي يبدو أكثر انغلاقًا "حيث يكون رد الفعل الأوَّلي عند الكشف عن اعتداء جنسي على أطفال، "لا يمكن أن يحدث ذلك، هذا ليس ممكنًا".
حالات الاعتداء من هذا النوع ليست حكرًا على الكنيسة ولا تحدث خارج مصر فحسب. في نوفمبر من العام الماضي قضت محكمة جنايات المنصورة بالسجن المؤبد على إمام مسجد أدانته بهتك عرض طفلة، أثناء تحفيظها القرآن الكريم بإحدى قرى المحافظة.
كان عمر الطفلة نحو عشرة أعوام وكان الإمام طبقًا لما نقلته الصحف وقتها "يستعملها لواطا" عقب دروس تحفيظ القرآن التي كان الأطفال يترددون عليه لحضورها. وعندما أسرَّت الطفلة لإحدى صديقاتها بما يحدث أرغمتها الصديقة على أن تكشف الأمر للأم التي أبلغت الشرطة. فاتخذت السلطات إجراءاتها ضد الإمام على الفور.
قليل من الفهم وكثير من الثقة
المتأمل للقليل المنشور عن جرائم التحرش بالأطفال في مجتمعنا وطريقة التعامل معها، سيدرك أننا نتحرك فقط عندما تكون هناك قضايا فاضحة يصعب تجاهلها، وعندما يكون من الصعب أو المحرج ألا نفعل شيئا. التحرك ذاته يكون بقدر التعامل مع المشكلة باعتبارها حالة شاذة ونادرة ولا يوجد ما يستدعي التعامل على نطاق أوسع للوقاية منها والحد من آثارها المرعبة على الأطفال.
من علامات ذلك قلة الدراسات المعنية بالأمر. فمعظم ما يكتب حول هذا الموضوع، على قلته، ينقل من دراسة نشرتها الدكتورة فاتن الطنباري أستاذة الإعلام المساعد في معهد الدراسات العليا للطفولة بجامعة عين شمس، منذ نحو عشرين عامًا!
كثيرا ما توصف دراستها بأنها الأولى في مصر حول التحرش بالأطفال. جاء في هذه الدراسة أن حوالي خُمس حالات الاعتداء على الأطفال في مصر يكون جنسيًا. وأن أغلب المتحرشين والمعتدين يكونون محل ثقة، وأن التحرش يتم عادة في بيئة آمنة، يتردد عليها أو يستدرج إليها الطفل.
أي بيئة يمكن أن تكون أكثر أمنًا من دار العبادة؟ وأي شخص بالغ يمكن أن يكون أكثر ثقة للطفل وأهله من رجل الدين؟
لا يوجه المقال أصابع الاتهام لطائفة بعينها ولا يدين رجال الدين، وإنما يؤكد أهمية دورهم وضرورة الحفاظ على صورتهم وتنقية صفوفهم
سجلات للمتهمين بالتحرش بالأطفال
واحد من الأسباب الهامة التي أدت لظاهرة التحرش بالأطفال في بعض دور العبادة في الغرب، هو أن الكهنوت من المؤسسات التي لا تنطبق عليها بعض قواعد توظيف من يعملون في مهن يحتك ممارسوها بالأطفال.
الانضمام لفريق العمل في حضانة أو مدرسة يرتبط عادة بفحص ملفات من يتقدم للوظيفة والتأكد من أن اسمه لم يرد في سجلات المتهمين أو المدانين بالتحرش أو انتهاك الأطفال. أما الكهنة فلا يخضعون على الأرجح لهذا النوع من التدقيق. السلطة والثقة والحماية التي يتمتعون بها تجعل الكهنوت مجالًا آمنًا يسمح بالاقتراب والتودد للأطفال في غياب أية معايير للوقاية أو الحماية.
أما في بلداننا فلا توجد معايير من أي نوع، لا في دور العبادة ولا مؤسسات التعليم، ولا الملاهي. ولا يوجد ما ينظم أو يكشف عن سجل الباعة الذين يتجمعون على أبواب المدارس. أما المبادرات التي توعي الأطفال وآباءهم بمخاطر التحرش والانتهاك وسبل الحماية، فهي قليلة إلى حد بعيد.
وإن كان من الجدير بالذكر الإشارة إلى مبادرة "حماية" لتوعية الأطفال ضد التحرش الجنسي، وحملة #ما_ینسكت_عنه، لحماية الأطفال من التحرش، والتي أطلقها مجلس الصحة الخليجي مطلع العام.
معلومات خاطئة ومعايير ناقصة
يضاف إلى مشاكل التعامل مع التحرش الجنسي بالأطفال، كم المعلومات الخاطئة التي تحيط بالسلوك الجنسي عموما وبالمجرمين من منتهكي الأطفال على وجه الخصوص.
قليلون يعلمون أن منتهكي الأطفال ليسوا بالضرورة مولعين جنسيًا بهم (بيدوفيليون). وأن البيدوفيليا خلل وليست جريمة طالما لم ينتقل المصاب بها إلى مجال الفعل والاعتداء. وأن هناك ضرورة لتشجيع المصابين بالولع الجنسي بالأطفال على طلب مساعدة نفسية وطبية من خلال العلاج السلوكي المعرفي أو حتى العلاج بالهرمونات أو بالعقاقير.
ومن الأخطاء الشائعة أيضًا الربط بين المثلية الجنسية وانتهاك الأطفال، أو الاعتقاد بأن من يميلون للأطفال (أو حتى المثليين) هم عادة أشخاص تعرضوا لانتهاكات جنسية في الصغر.
ربما يكون مهمًا في ختام المقال التنبيه إلى أنه لا يوجه أصابع الاتهام لطائفة بعينها من المجتمع ولا يدين رجال الدين، وإنما يؤكد أهمية دورهم وضرورة الحفاظ على صورتهم وتنقية صفوفهم ممن يتسللون إليها ويسيئون إليهم.
الأنماط السلوكية المنحرفة تنتشر على الأرجح بنفس النسبة بين مختلف القطاعات والمهن، إلا أن المنحرفين يتحدرون تلقائيًا نحو مجالات تعطيهم قدرًا أكبر من الأمان ومكانة أعلى مما يمكن أن يصل إليه القانون أحيانًا.
الأمل معقود على أن تتحمل مؤسسات الدين والعبادة، التي تعطي أفرادها وممارسيها قدرا من الثقة والمكانة بين الناس، مسؤوليتها في وضع معايير للوقاية، والرصد، والرقابة، والمحاسبة. فالكهنوت ليس هو الدين. والكهنة والقساوسة والمشايخ ومحفظو القرآن بشر وليسوا آلهة. وحماية الأطفال من الانتهاكات واجب ومسؤولية أخلاقية.