الطفل P أو الرضيع E أسماء قد تبدو غير مألوفة أو منطقية للقارئ العربي، ولكنها ليست مستغربة لمن تعود على قراءة صحف أو متابعة إعلام بلغات غير العربية. الاسم الحقيقي لـ P لا يهم، سواء كان بيتر أو باتريك أو باركر. ليس مطلوبًا منك كقارئ أن تعلم سوى أنه طفل وقاصر، له علاقة ما بجريمة يغطيها الإعلام.
الصحفي الذي يكتب الخبر يفهم هذا تمامًا، كذا القارئ الذي يتابع القضية. كلاهما يدرك حق الطفل في الخصوصية، ويعلم تمام العلم أن فرصه المستقبلية في حياة كريمة قد تتأثر بارتباط هويته بالأخبار، وأن انكشافها قد يُلحِق به وبسمعته وصمةً تلتصق به إلى الأبد.
الطفل P محظوظ لأنه لم يولد في مصر. إلا أن الحظ نفسه لم يحالف الطفل "ش"، الذي تناول الإعلام سيرته في الأسابيع الماضية. لا نعرف على وجه التحديد إن كانت قضيته قد بدأت على صفحات السوشيال ميديا ثم تسربت إلى الصحف ومواقعها وبرامج التوك شو، أم أن العكس هو ما حدث.
لكنَّ المؤكد أن جهود الجميع تضافرت لتتناول جريمة وقعت في حقه دون أن يفكر كثيرون في أنهم يشاركون، بهذا التناول ذاته، في انتهاك آخر ربما لا يقل ضررًا. انتهاك ارتكبه مجتمع كامل من المتعاطفين وغير المتعاطفين مع حقه في الرعاية. لماذا حدث ذلك دون أن ينتبه أحد؟ وما الذي ينبغي عمله للاقتراب أكثر من روح الممارسة المهنية وقواعدها عندما نتناول مثل هذه القضايا؟
المصلحة الفضلى انتهكت على أي حال
منذ نحو أربع سنوات عُثر على "ش" بعد ولادته بأيام. انتهى به المطاف في أحضان رجل وامرأة اختارا أن يمنحانه ما يحتاج من رعاية. أين عُثر عليه بالتحديد؟ وكيف انتهى في رعاية هذين الأبوين؟ التفاصيل هنا تتباين ويختلف حولها الرواة بحسب انحيازاتهم الدينية أو الاجتماعية والإنسانية. هل عثر عليه في حمام الكنيسة؟ أم على بابها؟ أم في مكان آخر ، ثم قرر أحدهم أن يسلمه إلى أحد الأبوين؟
لا نعلم على وجه التحديد. لكنَّ الروايات كلها لا تختلف في وصف "ش" بأنه "لقيط"، وفي صياغات أخرى أكثر رفقًا بأنه "عديم الأهلية". الجدل الذي احتدم حول مصيره بعد أن تلقف إعلامنا القصة، تمحور حول فهم الأطراف المتنازعة لمصلحته، أو ما يعرف قانونًا بـ "المصلحة الفضلى للطفل".
جهاز الدولة ممثلًا في وزارة التضامن الاجتماعي، انتبه لضرورة حسم المسألة مدفوعًا ببلاغ من أحد المتنازعين على الميراث المتوقع للأب الحاضن، قرر أن المصلحة الفضلى لـ"ش" تتمثل في انتزاعه من الحاضنين المسيحيين بهدف إعادته لدين افترضت أنه يدين به بمجرد ولادته، أو بمجرد أن تخلت عنه أمه البيولوجية.
فأي طفل يُعثر عليه في دولة غالبية أهلها من المسلمين، هو في رأيها مسلم بالضرورة. ومصلحة الإنسان الفضلى، في مجتمع يرى كثيرون فيه أن الدين هو المحور الأساسي للحياة، ستكون في "عودة" طفل لم يختر دينه بالضرورة إلى "دينه الأصلي"، حتى لو كان الثمن هو انتزاعه من حضن أسرة نشأ وعاش فيها على مدى سنوات أربع، لم يعرف أبوين فيها غير هذين اللذين أحاطاه بالرعاية.
وجهة النظر الأخرى ترى أنَّ المصلحة الفضلى للطفل، تقضي بأن يستمر في العيش مع من اختاراه ابنًا، وأنَّ الصدمة التي تعرض لها بانتزاعه من البيئة التي نشأ فيها، ووضعه قسرًا في دار للرعاية أو ملجأ للأيتام، وحرمانه من دفء الأسرة التي وفرت له سبل الحياة الكريمة، ستؤثر سلبًا بالتأكيد، على نشأته وفرصه في المستقبل.
هناك حاجة ماسة لإصدار نصوص تفصيلية وعقد ورش عمل تدريبية توضح للصحفيين أسس الممارسة المهنية الأخلاقية فيما يتعلق بتغطية أخبار وقضايا الأطفال من أجل حمايتهم
أبعاد القضية أوسع بكثير من كونها مشكلة حول رعاية طفل لأنها تلمس عددًا من القضايا المهمة: التمييز الطائفي، والمواطنة، وقانون التبني، وهوية الدولة ومواطنيها، وغيرها.
لكن مهلًا!
أين الضرورة؟
هل كانت هناك ضرورة عند فتح هذه القضايا لكشف هوية الطفل، ونشر صوره، وإعلان بياناته للجميع؟ أين مصلحته "الفضلى" التي تدور حولها القصة كلها من هذا الانتهاك لخصوصيته. إلى أي حد يمكن القول بأن وصمة ما ستلحقه بصرف النظر عن مآلات القصة؟
فسواء عاد اسمه إلى "ش"، أو ظل "ي" كما اختارت له الحكومة، سيكون الاحتمال الأكبر هو التصاق هذا الاسم في كل الدوائر التي سيتحرك فيها صبيًا، وفتىً، وشابًا، وكهلًا بتلك القصة، ومعها وصمة المكان الذي قيل إنهم عثروا عليه فيه، وحكاية الأم التي تخلت عنه إلى الشارع أو الحمام.
الوصف اللغوي الذي سيلحق باسمه أيًا كان، لن يكون الوصف المخفف "فاقد أهلية". سيتهامس الناس حوله دائما.. "تعرف مين ده؟ ده الواد اللي ...".
في هذه القضية، تسرب من البيانات الشخصية عن "ش" ما هو أكثر بكثير من المطلوب للتعامل مع قضيته بدعوى البحث عن مصلحته الفضلى. عرفنا اسمه، واسم الأبوين اللذين منحاه الرعاية، ومحل إقامته، والكنيسة التي قيل إنه وجد فيها، ودار الرعاية التي أوكل إليها، بل عرفنا الاسم الجديد الذي قررت السلطات ممثلة في وزارة التضامن الاجتماعي أن تمنحه إياه.
المواثيق الدولية والتغطية المسؤولة
وضعت منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة "يونيسيف" مجموعةً من القواعد العامة التي تحكم تعامل الصحافة والإعلام مع الأطفال واليافعين تحت عنوان مبادئ توجيهية بشأن التغطية الإعلامية الأخلاقية المسؤولة لليافعين واﻷطفال، بغرض خدمة مصلحة الجمهور؛ أي مراعاة حقهم في المعرفة، دون الانتقاص من حقوق الطفل، كذلك لمساعدة الصحفيين على تغطية هذه القضايا بأسلوب يراعيه. خاصة وأن التغطية الإعلامية حول أوضاع الأطفال قد تؤدي إلى تعريضهم لخطر الوصم.
وتنص هذه المبادئ على ضرورة "إيلاء عناية خاصة لضمان حق كل طفل بالخصوصية والسرية" وعلى أن أي تغطية صحفية لا ينبغي أن "تزيد من الوصم الذي يعاني منه أي طفل (..) بما في ذلك المزيد من الأذى البدني أو النفسي، أو الإساءات التي تستمر مدى الحياة، أو التمييز، أو النبذ من قبل المجتمع المحلي".
هذه الفقرات توضح بجلاء أنَّ انتهاكًا ارتُكِب، ربما بحسن نية، لحق "ش" ذي الأربعة أعوام في الحماية من الوصم، أو النبذ، أو الإساءات التي قد تعيش معه إلى الأبد. ارتُكِب هذا الانتهاك دون أن يتأذى أحد لأنَّ السياق الإعلامي في مصر يمارس هذا النوع المتدني من الممارسات في حق الأطفال منذ زمن، ومن قبل مذيعين حظوا بقدر واسع من الشهرة، فتطبَّع الناس معها دون أي إحساس بالقلق.
بابا عمل كده كام مرة؟
ضمن الوجبة المعلوماتية التي تطبخ للمصريين بشكل يومي برامج "تحقيقات" اشتهر منها، على سبيل المثال لا الحصر، برنامج كانت تقدمه مذيعة عُرفت بحبها لفعل "الخير". شكَّل انتهاك الأطفال سمةً أساسيةً لتغطياتها لقضايا انتهاك الأطفال! من الطبيعي في هذه البرامج أن تجرى لقاءات مع الضحايا من الأطفال يتم فيه التعرف على هوياتهم وأسمائهم الثلاثية، وتصوير منازلهم، وأهاليهم، والقرى التي يقيمون فيها. ولم يكن غريبًا أن يتم على سبيل المثال استنطاق طفلة لتُسأل علنًا عن عدد المرات التي تم التحرش بها من قبل أبيها دون أي تفكير في الوصم المحقق لمثل هذا العمل!
هناك عدد من الجهات في مصر تعني بإصدار مواثيق للممارسة المهنية منها نقابتا الصحافة والإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، وتلك المعنية بحقوق الإنسان. وينص ميثاق الشرف الإعلامي الصادر عن نقابة الإعلاميين في نهاية عام 2017 والمنشور في العدد 287 في الوقائع المصرية تحت بند "الواجبات"، على ضرورة الالتزام بالحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية فيما يتعلق بالفئات المهمشة والأطفال والنساء ومتحدي الإعاقة.
هناك حاجة ماسة لإصدار نصوص تفصيلية وعقد ورش عمل تدريبية توضح للصحفيين أسس الممارسة المهنية الأخلاقية فيما يتعلق بتغطية أخبار وقضايا الأطفال من أجل حمايتهم، وحتى لا تتحول رغبتنا في تسليط الضوء على قضايا المجتمع، إلى انتهاك إضافي مثلما حدث مع الطفل "ش" أو "ي"، بحسب موقعك من القضية!