توقفتُ عن زيارة المعالج النفسي بسبب فكرة طرحها أثناء حديثنا في عيادته قبل سنوات؛ وهي أن الأطفال الذين يتعرضون للتحرش والاعتداءات الجنسية مسؤولون بدرجة أو بأخرى عما يحدث لهم. لم أسأله تفسيرًا لما قال، وما إذا كان يعتمد في رأيه هذا على دراسات أو أبحاث نفسية أو غير ذلك، لأنه لم يكن أمامي سوى خيارين، إما أن أصفعه، وإما أن أغادر العيادة بنية عدم العودة أبدًا، فآثرت الخيار الثاني.
حتى اللحظة، لم أتحرَّ دقة ما ذكره، لأن الأمر محسوم لدي ولا يحتاج إلى دراسات، فالطفل غير مسؤول عن الأذى الذي وقع عليه، ولا إرادة له فيما تعرض له من اعتداء أو تحرش على يد شخص بالغ. الطفل وحتى بلوغه سن الرشد "مفعول به"، لا حول له ولا قوة.
أشعر بالغضب والاختناق كلما تذكرت ذلك المعالج، وأتمنى لو كنت صفعته بالفعل، خاصة حينما أقرأ عن حادثة جديدة يتعرض فيها طفل للاعتداء والتحرش على يد أشخاص، كان من المفترض أن يكونوا مصدر أمان له؛ باعتبارهم من الأهل والعائلة.
تواطؤ الأم
من المؤكد أن الطفلة اللبنانية لين طالب، التي نزفت حتى الموت نتيجة الاعتداء الجنسي المتكرر عليها وهي دون الخامسة من عمرها، ليس فيها ما يغري المغتصب، ولا تعرف بعد معنى آخر للأحضان والقبلات سوى أنها تعبير عن الأمان والدفء. لا يمكن أن يكون لها يد بطريقة موتها الوحشية.
ربما الموت كان أرحم بها من استمرار آلامها الجسدية والنفسية لبقية حياتها
أشارت التحقيقات الأولية في قضية مقتل لين إلى تورط جدها لوالدتها، ومحاولة الأم التستر على الواقعة. لكن المؤلم في قصتها هو التواطؤ على إخفاء ما حدث لها، حيث عانت من النزيف الشرجي لفترة طويلة قبل أن تذهب بها أمها إلى المستشفى، ورغم ذلك لم تحصل الطفلة على المساعدة المطلوبة، حيث أصرت الأم على أخذها إلى البيت لتموت خلال ساعات نتيجة النزف المستمر.
مرهقة هذه التفاصيل، وموجع جدًا تخيل الأيام الأخيرة في حياة تلك الطفلة، وربما الموت كان أرحم بها من استمرار آلامها الجسدية والنفسية التي كانت ستحملها لبقية حياتها.
التعافي ليس مستحيلًا
يعيش ضحايا الاعتداء الجنسي تبعات الاعتداء عليهم طوال حياتهم، ويعانون من اضطرابات نفسية تحكم كل خياراتهم وأفعالهم. أبرز تلك التبعات فقدانهم الثقة بالنفس وبالآخرين، والشعور بالذنب والخزي وعدم التقدير للذات، وعدم القدرة على إقامة علاقات سوية ودائمة، كما أنهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، ونوبات الهلع، وأعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
أخطر تلك التبعات هي احتمالية أن يتحول الضحايا أنفسهم إلى معتدين
كما يترك الاعتداء الجنسي في سنوات الطفولة أثره على مسيرة الضحايا الأكاديمية والمهنية، حيث يعانون الشعور بالانفصال، وعدم القدرة على التركيز اللازم للتحصيل العلمي.
أخطر تلك التبعات هي احتمالية أن يتحول الضحايا أنفسهم إلى معتدين، بسبب عدم قدرتهم على التعامل مع ما تعرضوا له، وبالتالي يصبح الاعتداء على الأطفال طريقتهم للتعبير عما سبق وعانوه.
لكن التعافي ليس مستحيلًا، والعلاج النفسي أصبح متاحًا اليوم أكثر من أي وقت مضى، وإن كان من المهم إدراك المشكلة للبدء في حلها. بات الحديث عن الاعتداءات أكثر تداولًا بين الناس، مما يشعر الضحايا بأنهم ليسوا وحدهم، وأن بإمكانهم الحصول على الدعم والمساعدة لتخطي الألم.
ربما يكون الأمر أصعب لمن كانوا ضحايا في سن مبكرة، في سنوات عمرهم الأولى، لأن العقل البشري يعمد إلى طمس الذكرى، وإخفائها في دهاليزه ليجنبنا الألم، يمحو الذكرى لكنه لا يمحو الأثر!
لن تكون الأخيرة
وبحسب أرقام منظمة الصحة العالمية، فإن الأطفال الإناث يتعرضن للاعتداءات بمعدل واحدة من بين كل خمس فتيات، في حين يتعرض واحد من كل 13 طفلًا ذكرًا للاعتداء، جميعهم قبل بلوغ سن الثامنة عشرة. وأن تسعين بالمئة من الاعتداءات تقع من قبل أشخاص مقربين من الطفل، ومحل ثقته ومصدر أمانه في الأسرة المباشرة، أو المقربين منها.
نامي بسلام يا صغيرتي؛ حيث أنت لا يوجد أشرار
مما يعني، وبحسبة بسيطة، أن هذا المقال سيقع تحت أيدي عدد لا بأس به ممن كانوا ضحية للاعتداء بشكل أو بآخر. ولهؤلاء أقول: لستم وحدكم، وطريق التعافي طويل ومتعب، ويحتاج إلى إرادة ورغبة في الحياة، لا ذنب لكم بما حدث، أنتم ضحايا الأمراض النفسية والمجتمعية، وكنتم الحلقة الأضعف، فلا تدعوا أحدًا يقنعكم بعكس ذلك، حتى لو كان معالجًا نفسيًا.
أفهم غضبكم وخوفكم، ولكن أحبوا أنفسكم ولا تصبوا اللعنات على أرواحكم. حاولوا أن تسامحوا أنفسكم واطلبوا المساعدة. أعرف كم أن الأمر صعبًا لكن لا بد من المحاولة لاستعادة الأمان، الذي حرمنا منه دون إرادة منا.
وأفترض أيضًا أن عددًا لا بأس به من المعتدين قد يدفعهم الفضول لقراءة ما يقال عنهم، إذا امتلكوا الجرأة بالفعل للقيام بذلك. لهؤلاء أيضًا أقول: أنتم مرضى، وربما كنتم في مرحلة ما ضحايا كضحاياكم، لكن عليكم إيقاف سلسلة العنف والاعتداء هذه. حاولوا إيقافها واطلبوا المساعدة، واعتذروا من ضحاياكم علّ ذلك يخفف من معاناتهم، ويعطيكم أنتم فرصة لإنقاذ ما تبقى من إنسانيتكم.
لين لن تكون الطفلة الأخيرة التي تتعرض لاعتداء وحشيّ على يد أحد أقاربها. لكن علَّ قصتها تكون بداية للبحث عن طرق علاج مجتمعية من خلال زيادة الوعي بطرق حماية الأطفال، وتعريفهم بالمخاطر التي قد يتعرضون لها، وإعادة ترتيب المفاهيم المتعلقة بأهل الثقة المفترضين، والذين للأسف يكونون أول من يخون الثقة.
كما لعلّها تكون فرصة لتغليظ القوانين والعقوبات على مرتكبي الاعتداءات ضد الأطفال. ربما حينها تهدأ روح لين وتهدأ أرواحنا معها. نامي بسلام يا صغيرتي؛ حيث أنت لا يوجد أشرار.