سألني المحقق "ليه قلت للناس يتعالجوا بره الوحدة الصحية؟"، كان سؤاله غريبًا، ولم أعرف كيف أرد عليه ردًا مهذبًا يحافظ على وظيفتي، ولا يلفت انتباه أحد في مبنى الإدارة الصحية الذي نجلس فيه.
بدأت القصة قبلها بأسبوعين تقريبًا، حين كنت في الوحدة الصحية ودخل عليَّ المفتش المختص بطب الأسنان، وجدني أقرأ كتابًا ولا أرتدي معطفي الطبي. كان الجو حارًا والكهرباء مقطوعة بسبب أعمال حملة حياة كريمة في الشوارع الجانبية. دار المفتش بعينيه في غرفة الكشف وأبدى انزعاجه من عدة أشياء، حتى دخلت عجوز وسألت عن الطبيب، فأخبرتها أن تتفضل.
لا بنج.. لا تخفيف للألم
اشتكت المرأة من ضرسها فأخبرتها أن الوحدة ليس بها بنج. كان أكثر من أسبوعين مرَّا علينا في الوحدة دون وصول طلبية البنج الذي يشهد أزمة كبيرة ونقص في السوق. وهكذا صار ذهابنا للعمل كأطباء أسنان مجرد أمر روتيني.
خرجت المرأة من غرفة الكشف تجر أذيال الألم والخيبة معًا، بينما امتعض المفتش من إجابتي عليها، وأشار إلى أنني أسيء لسمعة المهنة والطب، ورص فقرات طويلة من الموعظة والحكمة. انتظرت حتى انتهى من خطبته، ثم أخبرته بكل هدوء أن جهاز التعقيم متوقف عن العمل بسبب عطل فني منذ شهر تقريبًا، وبالطبع لا يمكن الاعتماد على غلي الأدوات وتعقيمها بالطرق القديمة التي ثبت أنها لا تقتل الميكروبات.
في اليوم التالي فوجئت أنني محال للشؤون القانونية، مع وجود احتمالية نقلي نقلًا تعسفيًا إلى إحدى الوحدات النائية على أطراف المحافظة، لا لشيء سوى أنني أسيء إلى سمعة وزارة الصحة.
صدام معتاد
لم تكن هذه المرة الأولى التي أصطدم فيها بقطار الوزراة الذي لا يفهم شيئًا من واقع الحياة سوى التعاملات الورقية. ذهبت للتحقيق وحاولت الإجابة عن الأسئلة المضحكة والمستفزة بشكل شديد التهذيب، كي أتجنب نقلي إلى وحدة نائية.
فور خروجي من مكتب الشؤون القانونية رن هاتفي. كان واحدًا من أهل القرية التي توجد بها الوحدة الصحية يدعى حامد. يتردد حامد على الوحدة منذ أسابيع لأن أحد أضراسه العلوية مكسور وبه خراج يحتاج إلى تدخل جراحي عاجل، ثم خلعه بعد ذلك.
للأسف، لم يكن بالوحدة مشارط جراحية، ثم تعطل جهاز التعقيم فجأة، وتأخرت كثيرًا لجنة الصيانة التي ترسلها الإدارة، فلم تتح لي الفرصة بأي شكل أن أعالج خراج حامد، حتى صار سؤالي عن إصلاح جهاز التعقيم جزءًا روتينيًا من عملي كطبيب.
استلمت تكليفي في تلك الوحدة منذ ما يقارب السنتين تقريبًا. في البداية وجهت لي الممرضات بعض النصائح للتعامل مع الدفاتر والورقيات، فيما يشبه الحيل (life hack) حتى لا يتم تعرضي للجزاءات المتتالية أو المساءلات القانونية.
أما الأطباء الأقدم والأكبر سنًا مني فكانت نصيحتهم الأساسية "حاول تمشّي أمورك ولا تفعل أكثر مما يُطلب منك حتى لا يصير فرضًا عليك". نصيحة مصرية خالصة، وأشبه بالنصائح التي يقدمها المجندون القدامى للمستجدين في الخدمة.
مرَّت الأيام بشكل روتيني، كأي موظف حكومي يحاول تمرير وقت الوظيفة وشكلياتها حتى لا يتعرض للمساءلة. المشكلة كانت أنني موظف وطبيب في الوقت نفسه، مطلوب مني أن أنفذ التعليمات وأهتم بالأوراق والتوثيق إخلاءً لمسؤوليتي القانونية أمام وزارة الصحة، وفي نفس الوقت أن أمارس عملي كطبيب يداوي مرضاه ويخفف آلامهم قدر ما يستطيع.
عبث التجهيزات
الوضع العام في الوحدة عندما وصلت إليها لم يكن يشجع على أي ابتكار، فبعيدًا عن غياب الأدوات، المبنى هزيل جدًا، به عدة غرف موزعة بين صيدلية ومكتب للتمريض وحجرتين للكشف، ومحاط بحديقة أشجارها عجفاء، المكان كله يصيب بالخمول واليأس معًا.
وفيما يتعلق بطب الأسنان تحديدًا، لم يكن بالوحدة ما يكفي من أساسيات المهنة المتعددة والمكلفة، والتي لا تستقيم الإجراءات العلاجية إلا بها. على سبيل المثال، لم يكن متوفرًا أي أدوات لإجراء الحشوات العادية، أو حشوات العصب، ولا الخلع الجراحي، كل ذلك يبدو هنا رفاهية بالنسبة للأطباء وأهل القرية.
آخر طبيب بشري في وحدتنا كان منذ خمس سنوات أو أكثر
لم تتوفر سوى أدوات للتشخيص وللخلع البسيط، وثلاث سرنجات معدنية لبنج الأسنان، والتي لا يمكن استخدامها سوى مرة واحدة ثم إدخالها جهاز التعقيم مجددًا، مما يعني أن الطبيب لا يستطيع سوى خلع ثلاث حالات يوميًا، وستة بأقصى تقدير إذا أسعفه جهاز التعقيم واستطاع تشغيله لمرتين في اليوم.
هذا بالطبع رقم هزيل، ومضحك أن تكون هذه طاقة الوحدة التي تخدم قرية صغيرة بها ما يقارب الألف بيت، أي عدد سكانها قد يقارب خمسة آلاف نسمة على أقل تقدير.
النكتة الأكبر، كانت عندما وصلتنا لجنة منوط بها تقييم الوحدة الصحية لدخولها مشروع التأمين الصحي الشامل المزمع إقامته في كل مباني مصر الصحية، كما يتردد يوميًا في التصريحات الرسمية.
تصادف مجيء تلك اللجنة مع وجود حامد بضرسه المتورم من خراجه الذي لم يشفى ولم يتم تنظيفه بسبب انعدام الإمكانيات. أخبرته بالإجابة المعتادة؛ لا أستطيع المساعدة دون أدوات.
كان هذا الرد المتكرر يضعني تحت وطأة ضميري الذي يتمنى مساعدة حامد، لكنني أعرف أنه إجراء جراحي معقد، ويحتاج إلى تجهيز متكامل، مثل ذلك الموجود في المستشفيات المركزية أو المراكز الخاصة، وكان هذا ضربًا من الخيال. خيال أشبه بما يقوله أعضاء لجنة التأمين الصحي الشامل بالقرب مني أنا وحامد المحبط.
كانوا يتجولون في أرجاء مبنى الوحدة الهزيل ويدونون في أوراقهم أرقامًا ومعلومات، ثم يتحدثون عن أشياء تبدو كحلم لمن يعرف الحقيقة المرة التي نعيش فيها.
وحدة دون طبيب بشري
تفتقد الوحدة الصحية بالأساس طبيبًا بشريًا. وهو أمر يتكرر كثيرًا في وحدات أخرى، خصوصًا النائية منها. آخر طبيب بشري كُلِّف في وحدتنا كان منذ خمس سنوات أو أكثر، وهو ما يعني أن أهل القرية يعيشون كل تلك السنوات دون ممارس عام يستمع لشكواهم العارضة ثم يصرف لهم الدواء المناسب، أو يقوم بالإجراء الطبي العاجل واللازم لحالات الطوارئ.
تبعد القرية عن المدينة مسافة نصف ساعة تقريبًا بالسيارة، ما يعني أن أية حالة طوارئ من بيوت القرية الألف ليس أمامها سوى المخاطرة بقطع تلك المسافة التي تبدو بسيطة، لكنها قد تكون فارقة في حياة أحدهم.
غياب الطبيب البشري عن القرية، أي قرية، هو غياب للعنصر الأساسي في التثقيف الصحي ورفع الوعي لدى أهلها، خصوصًا وأنه مصدرهم الرئيسي للمعلومات الطبية، ويقدر على توجيههم بالشكل السليم وقت الأزمات، ككورونا مثلًا. وبغياب الطبيب فقدت سلسلة العلاج حلقة مهمة من حلقاتها.
أتذكر في أيام تكليفي الأولى، ترددت عليَّ أكثر من مرة امرأة خمسينية، في أول مرة طلبت علاجًا للالتهابات المعوية، فأخبرتها أنني لست طبيبًا بشريًا، وأن صيدلية الوحدة لا يوجد فيها غير المسكنات والمضادات الحيوية البسيطة.
غادرت المرأة وعادت في اليوم التالي تطلب مرهمًا للعيون، رددت نفس الإجابة الأولى بحذافيرها. في المرة الثالثة سألتني عن تخصصي، فأخبرتها به، فطلبت أن أكتب لها أي نوع من المضادات الحيوية. استغرقت معها وقتًا لأشرح تأثير المضاد الحيوي وعدم صحة كتابته دون وجود عدوى بكتيرية، وأن تعاملنا كمصريين مع المضاد الحيوي باعتباره بونبوني ينذر بمصيبة صحية قد تنفجر في أي وقت.
انتظرت المرأة حتى فرغت من محاضرتي ثم قالت إنها ستضعه في الماء للبط. أمسكت ضحكاتي وقلت لها أن تذهب بهم للوحدة البيطرية، فأخبرتني أنه لا وجود لشيء اسمه الوحدة البيطرية أصلًا.
يومها خرجت من أسوار الوحدة ودرت في شوارع القرية مستطلعًا ومتظاهرًا بشراء بعض السندوتشات. كانت البيوت متراصة من طابق واحد أو طابقين متقزمين في شوارع ضيقة، تنضح فيها مياه الصرف الصحي حتى لا تترك مكانا للمشي.
أمام البيوت تجلس النسوة يتبادلن الحديث العشوائي بلا مبالاة لأي شيء، كأنهن يأسن من أي تغيير ممكن، وكأن الوحدة الصحية ما هي الا استكمال لهذا اليأس من الحياة.
لا أفهم تحديدًا ما الذي يطمح إليه برنامج التأمين الصحي الشامل، والناس في القرى والنجوع تفتقد لمعظم أساسيات العلاج العادية، وحتى الثقافة البسيطة جدًا للتعامل مع الأمراض. وحتى من يتوجه منهم إلى الوحدات طلبًا للعلاج أو الاستشارة، يكون مصيره مثل حامد، لا علاج، وتساؤلات يومية عن توفيره، تساؤلات أتمنى أن أعرف الإجابة عليها، بدل من تحويلي إلى التحقيق ومجازاتي على تقصير لم يكن مني أبدًا.