استقبلت نادية حمدي، وهي ولية أمر لثلاثة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة، حديث وزير التربية والتعليم رضا حجازي عن نية الحكومة ترخيص مراكز الدروس الخصوصية، بصدمة، فهي تدفع شهريًا قرابة الألفي جنيه لأولادها الثلاثة في سنتر بحي عين شمس، مخالف وغير مرخص، ما يعني أن ذلك الرقم سيتضاعف بعد ترخيص المكان، وتحصيل الضرائب من أصحابه.
"أكيد الدولة لما تيجي تاخد الضرايب، السنتر مش هيدفعها من جيبه، وهيحملها على أولياء الأمور"، غضب الأم من القرار مرتبط بغرض الحكومة شرعنة مراكز الدروس الخصوصية، فالوزير الذي تحدث أمام البرلمان، الثلاثاء الماضي، لم يُخف رغبة الدولة الحصول على حقها من المليارات التي تدخل خزينة السناتر كل عام، مشيرًا إلى انفاق الأهالي أكثر من 40 مليار جنيه سنويًا على الدروس الخصوصية.
جاء حديث حجازي عشية لقاءه مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، في 19 أكتوبر/ تشرين الأول، لمناقشة خطة عمل الوزارة. ويبدو أنه حصل على الضوء الأخضر لفتح الملف في اليوم التالي مباشرة، أمام مجلس النواب، ولم تُبدِ الأغلبية البرلمانية المنتمية إلى حزب مستقبل وطن، اعتراضات على الفكرة، ما فهمه البعض على أنه توجه حكومي يجب دعمه، ولو بغض الطرف عن انتقاده.
وتشير بعض الشواهد، إلى أن تقنين وضع الدروس الخصوصية جرى التمهيد له بشكل غير مباشر منذ فترة، فالحكومة تمتلك كل الأدوات التي تمكنها من القضاء على السناتر، لكنها لم تفعل. ويبدو أن ضخامة الاستثمار في ذلك القطاع هو ما جعلها تفكر في تقنين أوضاعه.
دعه يعمل طالما يدفع
اعتاد وزراء التربية والتعليم اعتبار تلك المراكز عائق أمام تطوير المنظومة، وآخرهم الوزير السابق طارق شوقي، الذي طالما شن حروبًا كلامية على مراكز الدروس الخصوصية، ورأى أنها أكبر تحدٍ أمام تطبيق فلسفة تطوير التعليم، لأنها تقدم المعلومة للطالب بطريقة الحفظ والتلقين، مع أن النظام الجديد قائم على الفهم والتحليل وإنتاج المعلومة.
وكثيرًا ما وصفَ شوقي تلك المراكز بأنها بيزنس يشبه ظاهرة "المستريح"، معلنًا أنه سيحاربها بقوة، ودعى الطلاب للانصراف عنها، وعدم تصديق أن ما يقدمونه لن يخرج عنه أسئلة الامتحانات، بل وطالب أكثر من مرة بغلقها لعدم مشروعيتها ولأن من يعملون فيها ليسوا مؤهلين، ولا معلمين.
ورغم أن حجازي، كان نائبًا لوزير التعليم السابق، لكنه أخذ مسارًا مغايرًا تمامًا لنهج شوقي، على اعتبار أن الدروس "واقع يجب الاعتراف به، ويجب أن تتدخل الحكومة في ضبط السناتر وفق آليات وأدوات محددة، مع رقابتها والحصول على حق الدولة من مكاسبها، حتى لا تذهب كل الأموال إلى أصحاب السناتر فقط".
تؤكد نادية، أن أي ولي أمر إنما يلجأ إلى مراكز الدروس الخصوصية مضطرًا، بعد تراجع دور المدرسة وعجز المعلمين وضغط اليوم الدراسي بين فترات صباحية ومسائية بشكل لا يسمح للطالب بالتحصيل العلمي، "أنا لما بروح السنتر، بكون مضطرة علشان معنديش بديل، لكن ده مش معناه إن الوزارة تخلي السنتر بديل عن المدرسة بحجة إن الناس عايزة كده".
شر لا بد منه
من وجهة نظر الوزارة، يقول مصدر مقرب من الوزير للمنصة، إن تقنين وضع السناتر "شر لابد منه.. سواء رخصتها، مرخصتهاش، هتفضل موجودة. طب الناس معترضة ليه؟ هو ولي الأمر عارف ده معلم ولا عاطل ولا لسه متخرج؟ أنا دوري أحدد مين يشتغل فيها ولا ميشتغلش طالما هيبقى مكان مترخص، زي العيادة الخاصة للطبيب، مش أي حد يفتحها ولا يشتغل فيها".
لا يروق ذلك المبرر لعبد الحفيظ طايل، رئيس المركز المصري للحق في التعليم، الذي يرى أن الطبيب لا يمتلك سلطة على المريض، في حين للمعلم سلطة على الطالب وولي أمره. وأن تقنين مراكز الدروس الخصوصية سيجعل الكثير من المعلمين يستخدمون تلك السلطة "المرخصة" لإجبار الطلاب على السناتر، وإلا فشلوا، وربما رسبوا.
يقول طايل للمنصة "ما يحدث هو خصخصة غير مباشرة للتعليم"، موضحًا أن "الترخيص لكيان خاص، يعمل من دون مشروعية ويتحصل على مبالغ طائلة من أولياء الأمور، يعني تحويل التعليم من حق إلى سلعة"، ويضيف ساخرًا "علشان مقدرتش تواجه السناتر، رخَّصت لها؟".
ويرى طايل أن ترخيص وضع خاطئ لمجرد وجوده غير مبرر "هل معنى كده إني أرخص أي حاجة غير قانونية طالما موجودة، ولا المفروض أواجهها. أرخص القتل طالما كده كده بيحصل ولا أحط له عقوبة؟"، مضيفًا "لا يوجد عذر لأي حكومة في العالم تحول التعليم من حق إلى سلعة. الواضح أن هناك خلل في أولويات الإنفاق فأصبحنا لا ننفق على التعليم بالاستحقاق الدستوري الذي يفترض أنه 4% من الناتج القومي، وهذا لا يطبق منذ عام 2016، والمفترض أن يزيد سنويًا ليتوافق مع المعدلات العالمية، وهذا لا يحدث أيضًا".
وفق دستور 2014 يحصل التعليم الجامعي وقبل الجامعي على 6% من الناتج المحلي (4% للتعليم المدرسي)، وعلى الرغم من حدوث زيادة مطردة كل عام فى مخصصات التعليم، والبالغة 172.6 مليار جنيه في الموازنة الجديدة (2021/2022)، فإنها لا ترقى إلى مستوى الزيادة المطردة فى الناتج المحلي الإجمالي، الذي يصل وفقًا لخطة التنمية الاقتصادية المعروضة على البرلمان فى أبريل/نيسان الماضى إلى نحو 7.1 تريليون جنيه، ولا تصل كذلك إلى نصف الحد الأدنى الذي نصَّ عليه الدستور.
لكن المصدر المقرب للوزير قال للمنصة، إن منح الترخيص للسناتر، لا يعني خصخصة التعليم "لما قفلنا السناتر وقت كورونا، الناس راحت عملت مجموعات في بيوت المدرسين. وبالتالي، فالمشكلة دي كان لازم يتوجد لها حل. نسبة كبيرة من اللي شغالين في السناتر مش معلمين، لكنهم خريجين، فأنا كوزارة هيكون دوري أدي للي هيشتغل في سنتر ترخيص مزاولة مهنة، من غيره هقفل السنتر لو اشتغل واحد مش معاه الرخصة".
وعن باق شروط الترخيص قال إن "من أهمها أنه ممنوع نهائيًا أي سنتر يشتغل في وقت المدرسة، يعني محدش يدي دروس طول ما الطلبة في المدرسة، لأن اللي بيحصل دالوقت أن المعلم يسيب مدرسته ويروح السنتر، والطلبة تغيب وتروح السنتر، خاصة في الشهادة الإعدادية والمرحلة الثانوية. أنا دوري أعمل حظر نهائي على السنتر إنه يفتح وقت المدرسة، علشان المعلم والطالب يروحوا المدرسة".
وبخصوص الخريجين من غير حاملي المؤهلات التربوية، قال المصدر إن من يريد العمل عليه أن يحصل على تدريب ثم رخصة "مفيش مانع الخريج الجيد يشتغل في سنتر، بشرط إني يجيلي يطلب رخصة مزاولة مهنة. أنا هدربه بمقابل مادي، ولما ينجح في الاختبارات اللي هعملها وأشوفه مؤهل للتدريس، ياخد الرخصة اللي يروح يشتغل بيها في السنتر"، مضيفًا "ماهو كده كده خريج الآداب بيشتغل مدرس، فرقت إيه يشتغل في مدرسة ولا يشتغل في سنتر، طالما وافقت إنه يشتغل؟".
من يدفع؟
صارت مراكز الدروس الخصوصية أشبه بكيانات توفر الوظائف الحرة لخريجي كليات التربية والآداب والعلوم، ومن بين هؤلاء علاء كامل. يعمل علاء مدرس لغة إنجليزية بأحد سناتر مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، رغم أنه غير موظف في أي مدرسة، ولكن تفوقه في اللغة وقت دراسته بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية ساعده أن يصبح مستر علاء في السنتر.
لا يخفي علاء في حديثه للمنصة ترحيبه وزملائه من الخريجين الجدد بقرار ترخيص المراكز "الناس دي لا عارفة تشتغل ولا تتوظف ولا ليها أكل عيش، وبدل ما أشتغل وأنا مستخبي، هشتغل في النور وأكسب دهب"، مضيفًا "طبعا هقدم علشان أخد رخصة مزاولة مهنة".
ولكنه لا ينكر أن تحصيل الضرائب سيجلب المزيد من الأعباء المالية على أولياء الأمور، لأن المعلم لن يتحمل الضريبة من جيبه "أكيد مش هدفعها من مكسبي يعني. هو اللي بيروح مطعم مش بيدفع فوق تمن الأكل ضريبة، وضريبة قيمة مضافة؟ أنا كمان لما اضطر أدفع، هشيلها للزبون بتاعي".
ترخيص دون ضبط
اعترف المصدر القيادي بوزارة التعليم للمنصة، بأنه "سيكون من الصعب، وضع تسعيرة جبرية أو تحديد سقف لما سيدفعه كل طالب بمركز الدروس الخصوصية بعد التقنين"، مبررًا كلامه بأن "الطبيب في العيادة الخاصة، من حقه يحط التسعيرة اللي هو عايزها لكن ده بيكون معلن علشان الضرائب ومحدد بفواتير"، لافتًا إلى أن حق الدولة من الضرائب سيذهب إلى تحسين البيئة التعليمية ووضع المدارس.
"مهو ده في النهاية هيعود على الطالب بالنفع. طالما الطالب مش بيستفيد من الضريبة دي، ولا الدولة بتستفيد، إيه المانع الكل يستفيد؟ بدل ما كل المليارات بتروح لأصحاب السناتر".
ولكن ما يعنيه ذلك فعليًا بالنسبة لنادية وأبناؤها الثلاثة هو أن "بمنطق الوزارة، ولي الأمر هيتحمل مسؤولية الإنفاق على التعليم مع الحكومة".
تصف نادية المبررات التي على أساسها يجري الترتيب لجني الأموال "حق يراد به باطل"، لأن ولي الأمر ليس من دوره الصرف على بند يفترض أنه من واجبات الحكومة. والرأي نفسه يشاركها فيه الحقوقي عبد الحفيظ طايل، الذي يرى فيما يحدث مقدمة لرفع الحكومة يديها نسبيًا عن التعليم، ما يقود إلى أزمات معقدة، بينها ارتفاع نسبة التسرب من المدارس، وأن يصبح التعليم للمقتدرين فقط.
ليتها الحدود
وترتبط الأزمة أيضًا، بإعلان الوزير رضا حجازي الاستعانة بشركة خاصة لإدارة مجموعات التقوية المدرسية، لتنظمها الوزارة في المدارس كبديل عن الدروس الخصوصية في المراكز، وتحدد لها أسعارًا رمزية حسب طبيعة كل منطقية سكنية، ويشارك في تقديم الدروس بها عدد من المعلمين من نفس المدرسة، على أن تعقد بعد نهاية اليوم الدراسي.
وقال حجازي إن الشركة ستكون مسؤولة عن تحصيل المبالغ المالية، ومنح المعلم مكافأته عن المشاركة في المجموعة.
ولم يقدم الوزير أي معلومات إضافية عن دور تلك الشركة، التي لم يحدد هويتها، أو أسباب الاستعانة بها، أو الأسس التي سيتم اختيارها وفقها، وكذلك طبيعة اختصاصاتها وصلاحياتها. علمًا بأن نظام مجموعات التقوية معمول به في المدارس بالفعل دون الحاجة إلى شركة خاصة لإدارته.
ويرى عبدالحفيظ طايل، أن دخول شركة خاصة إلى المدارس لتنظيم الدروس التي تقدمها الوزارة للفئات الطلابية محدودة ومتوسطة الدخل، أمر شديد الخطورة، لأنها أولا ستتدخل في شؤون المدارس، ثم ستتربح من وراء ذلك محملة العبء المادي على أولياء الأمور "أكيد مش هتكون متطوعة لله وللوطن".
لكن المصدر الوزاري برر ذلك بأن "الوزارة لم تستطع بعد ضبط مجموعات التقوية في المدارس، ولا إحكام السيطرة عليها ماديًا وتنظيميًا، أو انتقاء خيرة المعلمين للمشاركة فيها، والأمر بحاجة إلى جهة محايدة تنظم كل هذه الأمور، وستظل تكلفتها رمزية وقريبة من مستويات الفئات المستهدفة".
وبحسب طايل، إضفاء الشرعية على المراكز والاستعانة بشركة خاصة لإدارة مجموعات التقوية، مخالف للمعاهدات الدولية الخاصة بالتعليم التي تنص بأن التعليم حق للجميع، وهذا الحق يعني أن الجهة الوحيدة المسؤولة عن إتاحته هي الدولة، "إدخال القطاع الخاص، وما يترتب عليه من تسليع التعليم غير مقبول، لأنه يكرس التمييز والعنصرية والانتقائية".
أكثر ما تخشاه نادية حاليًا، أن تكون الحكومة مقتنعة بأن الاعتماد على المراكز هو الحل الذي يُرضي أولياء الأمور، طالما يتهافتون عليها. وألا تُدرك الحكومة أنها إذا وفَّرت معلمين وفصول وبيئة آدمية للتعليم فلن يُرهق الأب نفسه عناء استقطاع الجزء الأكبر من دخله الشهري للإنفاق على الدروس الخصوصية.