تصميم: أحمد بلال - المنصة

الدواء يتحوّل إلى داء

المضادات الحيوية وفوضى استخدامها في مصر

منشور الأربعاء 19 أكتوبر 2022

لم يتخيل أحمد فرج الذي لم يتجاوز من العمر 25 سنة، أن يجعله استخدام المضادات الحيوية التي حلّت عليه كضيف دائم خلال فترة طفولته بسبب ارتجاع المريء المزمن، يعاني لاحقًا بعد إصابته بجرثومة المعدة قبل نحو سبع سنوات، إذ اكتسبت البكتيريا المسببة لها مقاومة ضد العديد من المضادات الحيوية بسبب الإفراط في استخدامها.

عقب اكتشاف إصابته بجرثومة المعدة، جرّب أحمد على مدار سنوات، وتحت إشراف طبي، العديد من المضادات الحيوية، إلا أنها لم تحقق النتيجة المطلوبة، حتى أجرى تحليلاً لمعرفة أي من المضادات الحيوية ستستجيب له البكتيريا.

مؤخرًا، وصف الطبيب المعالج له مضادًا حيويًا مستوردًا يتراوح سعره بين 3500 و4000 جنيه "قال لي الطبيب إنه آخر حل طبي يعرفه بعد استهلاك معظم المضادات الحيوية المتوفرة بالسوق، بعدها سوف أتعايش مع جرثومة المعدة مع تجنُّب أطعمة محددة".

أحمد واحد من 560 حالة جرى حصر تجاربها ومشاكلها مع المضادات الحيوية في مصر من خلال استبيان أجريناه خلال إعداد هذا التقرير.

وحذّر فريق التنسيق المشترك بين الوكالات، التابع للأمم المتحدة، المعني بمقاومة مضادات الميكروبات عام 2019، من أن الأمراض المقاومة للأدوية يمكن أن تتسبب في وفاة 10 ملايين شخص كل عام بحلول 2050 إذا لم يُتخّذ أي إجراء، مقابل ما لا يقل عن 700 ألف وفاة سنويًا في الوقت الحالي، حسب التقرير الذي نشرته منظمة الصحة العالمية.

وتقول المنظمة إنه إذا لم نُعجّل باتخاذ إجراءات للحد من شراء المضادات الحيوية بدون وصفة طبية لأغراض الاستعمال البشري أو الحيواني، فإننا مقدمون على عصر ما بعد المضادات الحيوية، الذي يمكن أن تعود فيه عدوى الالتهابات الشائعة والإصابات الطفيفة قاتلةً مرةً أخرى.

تقول الدكتورة آلاء أبو الفتوح، أستاذة الميكروبيولوجي والمناعة بكلية الصيدلة في جامعة الإسكندرية، إن مشكلة مقاومة المضادات الحيوية لدى البكتيريا تزداد خطورةً بزيادة استهلاك المضادات الحيوية، وتؤدي لاكتسابها عوامل مقاومة لهذه المضادات. وعند انتقال هذه البكتيريا من شخص لآخر، تقاوم أيضًا نفس المضادات الحيوية لدى المُصاب الجديد.

المشكلة التي تعتقد أبو الفتوح أنها الأبرز، أن اكتشاف مضادات حيوية جديدة لم يعد بنفس السرعة كما كان قبل 50 عامًا، وبالتالي لا يوجد تعويض سريع للمضادات الحيوية التي تحدث لها مقاومة من البكتيريا.

غياب اختبارات الحساسية للمرضى

حقنة مضاعفة من المضاد الحيوي حصل عليها الرجل الستيني مجدي فهمي، قلبت حياة أسرته رأسًا على عقب لمدة تقارب الشهر، بعد أن حصل عليها دون اختبار حساسية في عيادة طبيب أمراض باطنية شهير.

يحكي ابنه محمد التجربة "خلال 4 أيام من حصول والدي على تلك الحقنة، لم يعد قادرًا على بلع الطعام والمياه حرفيًا، وفقد من وزنه ما يزيد على 20 كيلوجرامًا، وأصيب بطفح جلديّ على الجسم.. خطر في بالنا أنه أصيب بفيروس كورونا".

ذهب محمد بوالده إلى أحد المستشفيات القريبة من منزله بمنطقة المرج بالقاهرة، حيث عُلّقت له محاليل تبعتها بعض التحاليل في اليوم التالي، ليكتشف الطبيب أنه أصيب بحساسية نتيجة حقنة المضاد الحيوي، "قال الطبيب إنه لولا البنيان الجسدي القوي لوالدي بحكم طبيعة عمله في مجال البناء، كان من الممكن أن يتطور الأمر أكثر من ذلك".

خلال أسابيع، بدأ الرجل ذو الخمسة والستين عامًا يستعيد عافيته تدريجيًا، ليكتسب بعدها خبرة في التعامل مع الأدوية، بعد أن كان يعتمد على وصفات طبية قديمة في تكرار العلاج حال شعوره بنفس الأعراض.

أجرى مُعدّ التقرير استبيانًا شارك فيه 560 شخصًا، قال 78.9% منهم إن الطبيب أو الصيدلاني لم يطلب منهم إجراء مزرعة بكتيريا أو اختبار حساسية، قبل الحصول على المضاد الحيوي.

يقول الدكتور محمد عز العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، إن المضاد الحيوي يجب أن يؤخذ في مكانٍ مجهّز بـ "ترابيزة طوارئ" في حال كان حقنة، وذلك لعلاج ما قد ينتج عنها مثل الصدمة العصبية بسبب الحساسية لبعض أنواع المضادات الحيوية، لأن تأخر الإسعافات يؤدي لمضاعفات قد تتسبب في الوفاة.

قبل أكثر من عام، كان المضاد الحيوي ملاذ مي مجدي عند الإصابة بنزلة برد، حيث كانت والدتها تشتري ما يعرف بـ "مجموعة برد"، أو إحدى عبوات المضاد الحيوي من الصيدلية، لتحصل ابنتها التي يبلغ عمرها 22 عامًا على عدد محدود من الكبسولات، وسرعان ما تشعر بعدها بتحسّن جزئي ليوم أو اثنين، قبل أن تعاودها الأعراض من جديد.

اللحظة الفارقة في استخدام مي للمضادات الحيوية كانت نصيحة من إحدى قريباتها التي تعمل صيدلانية، بتفادي استخدام المضادات الحيوية إلا بعد الكشف وكتابته من قبل طبيب، لأنه يجب أن يؤخذ بجرعة كاملة.

تصف مي التي تسكن بإحدى قرى محافظة القليوبية تجربتها لنا عبر أحد تطبيقات السوشيال ميديا "زي أي حد لما بكون تعبانة من دور البرد والموضوع مش مستاهل دكتور، بروح الصيدلية. واللي موجود فيها بيدّيني أي مضاد حيوي أو مجموعة برد. ممكن اللي بيقف في الصيدلية يكون مش دكتور أصلًا فمش عارف إنه غلط".

عقب النصيحة التي بدت ذهبية لمي، أوقفت استخدام المضاد الحيوي "حتى في البيت لو حد تعب بقولهم محدش ياخد حاجة بمزاجه.. الناس بتستهين بالموضوع، إمّا كسل منهم على اعتبار إنها حاجة بسيطة مش محتاجة دكتور، أو فيه ناس مش معاهم حق الكشف فبتمشّي أمورها بأي حاجة".

ويقول حسن الشاذلي، وهو صيدلاني، إن المضادات الحيوية تعالج العدوى البكتيرية فقط، في حين أن نزلات البرد والإنفلونزا عدوى فيروسية.

وردًا على سؤالنا في الاستبيان حول كيفية الحصول على المضاد الحيوي، قال 60% من المشاركين إنهم حصلوا عليه من صيدلية دون الرجوع لطبيب، مع الوضع في الاعتبار أنه كان لهم حق الاختيار بين أكثر من إجابة أخرى، فيما رأى 30.7% أن المضاد الحيوي يستخدم كعلاج لنزلات البرد والإنفلونزا.

 

يوضح الدكتور محمد عز العرب، إن معظم حالات مقاومة الميكروبات تحدث بسبب صرف الأدوية دون وصفة طبية من الصيدليات.

كما أظهرت نتائج الاستبيان أن 62.9% من المشاركين لم يسبق أن ناقشهم طبيب أو صيدلاني بشأن أضرار استخدام المضادات الحيوية بإفراط ودون داعٍ، أو عند مخالفة تعليمات الجرعات، فيما لم يسمع 21.6% منهم سابقًا عن مصطلح "مقاومة المضادات الحيوية".

وفي دراسة أعدّها الباحثان مريم قطب ومروان الباجوري عام 2017، حول بيع المضادات الحيوية دون وصفة طبية، أجريت على 25 صيدلية بمحافظة الإسكندرية، ونُشرت في أبريل/ نيسان عام 2018 على موقع journal of pure and applied microbiology، قال جميع المشاركين إن المضادات الحيوية يتم صرفها عادة دون وصفة طبية.

وعزَت الدراسة أسباب استمرار المرضى في هذا التوجّه إلى محدودية الوعي بمخاطر استخدام المضادات الحيوية دون وصفةٍ طبية، وسعيهم ربما إلى تجنّب التكلفة المرتفعة لزيارة الأطباء للتشخيص، خاصةً إذا كانوا على دراية بالأعراض ولديهم تجارب سابقة في التحسن عند تناول المضادات الحيوية التي يطلبونها.

وتقول 80% من الصيدليات المشاركة في تلك الدراسة إنهم عندما يحاولون نصح العملاء بزيارة مؤسسات الرعاية الصحية يرفضون النصيحة، كما ترى كل صيدلية أنها إذا توقفت عن صرف المضادات الحيوية دون وصفات طبية، سوف يحصل عليها العملاء بسهولة من الصيدليات الأخرى.

يدعو الدكتور أحمد أبو دومة، عضو مجلس النقابة العامة للصيادلة، إلى تعديل قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 لسنة 1955، الذي لا يمنع بيع المضادات الحيوية للمواطنين دون وصفة طبية، ليتناسب مع التغيّرات الحالية، إذ كان القانون يخاطب عندما صدر منذ نحو سبعة عقود مجتمعًا آخر، عدد سكانه مختلف وصيدلياته قليلة.

أما المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، محمود فؤاد، فيرى إن الروشتة الإلكترونية هي الحل الأبرز للقضاء على مشكلة بيع المضادات الحيوية في الصيدليات دون وصفة طبية، ما سيجعل الصيدلاني لا يصرف إلا الأدوية المكتوبة في الوصفات الصادرة عن طبيب، ومثبت بها ختم العيادة.

عندما تقدمت عضوة لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب، الدكتورة إيناس عبد الحليم، بطلب إحاطة لمجلس النواب قبل أشهرٍ، تطالب فيه بعدم صرف الأدوية، ومن بينها المضادات الحيوية، من الصيدليات دون روشتة "ردّت هيئة الدواء المصرية على توصيات اللجنة بأنهم يسعوْن لإصدار قرار بمنع صرف أي أدوية دون وصفة، كما سيتم تدشين اللجنة القومية لترشيد استهلاك المضادات الحيوية".

ويقول الدكتور أشرف حاتم، رئيس لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب، إن هيئة الدواء شكّلت لجنة بالفعل منذ ستة أشهر لبحث آليات تطبيق صرف المضادات الحيوية من الصيدليات بالوصفة الطبية.

ولكن ربما لن يقدم هذا حلا كاملا للمشكلة، فبعض المواطنين يضطرون لشراء شريط مضاد حيوي واحد وليس عبوة كاملة بسبب الغلاء، وبالتالي لا يستكملون الجرعة، ما يؤدي إلى مقاومة البكتيريا للمضاد الحيوي، حتى لو كان بوصفة من طبيب متخصص، ويتناسب مع البكتيريا المسببة للمرض، بحسب الدكتور محمد عز العرب.

وبالعودة إلى الاستبيان، يقول 37% من المشاركين إنهم توقفوا عن استكمال جرعات المضاد الحيوي بعد شعورهم بتحسن حالتهم الصحية.

وتشبه الدكتورة آلاء أبو الفتوح، أستاذة الميكروبيولوجي والمناعة بكلية الصيدلة في جامعة الإسكندرية، أضرار عدم استكمال جرعات المضاد الحيوي بمباريات الملاكمة "المضاد الحيوي يوجه ضربات للبكتيريا توقعها أرضًا، وظنًا منه أنه كسب المباراة يدير ظهره، ولكن البكتيريا لم تمت، بل انتهزت الفرصة للتعافي ورد الهجوم لتفوز بالمباراة، فالضربة لم تقتلها بل زادتها قوة".

ظلَّ الصيدلاني محمد رفاعي، يحاول إقناع صاحب الصيدلية التي كان يتدرب بها حين كان طالبًا عام 2014، بعدم بيع المضاد الحيوي بـ "الحبّاية"، وضمن "مجموعات البرد"، حتى نجح بعد محاولات دامت نحو عامين.

وما زال رفاعي يحارب في السوق، منذ أن بدأ العمل في المجال، للتوعية بمخاطر الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية، مع المرضى والصيادلة والأطباء أنفسهم.

ويقول صيدلاني آخر حديث التخرج شارك في الاستبيان "الناس بتيجي تطلب أول حاجة مضاد حيوي، أوقات كتير بقولّهم إنه غلط، وبحس إني بستهلك نفسي على الفاضي، بيسمعوا وبعدين يقولك طيب هات دلوقتي وبعدين نشوف الحوار ده".

يبدو أن أمنيات رفاعي والصيدلاني حديث التخرج صعبة المنال، على الأقل في القريب العاجل، إذ يقول أحد المشاركين في الاستبيان "الفكرة في صيدلي شاطر بس نقوله ويدينا نوع مناسب، مفيش فلوس نكشف، كفاية علينا قوي ثمن الدوا اللي بنضطر نجيبه أصلًا لما نقع ونفرفر خالص".


تنشر المنصة هذا التقرير بالتزامن مع “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية” (أريج) في إطار اتفاق شراكة.