لا يكاد يمر عام دون أن تظهر حالة لمريض بضمور العضلات الشوكي، تطلب المساعدة لجمع المال من أجل شراء حقنة يصل ثمنها 40 مليون جنيه تمنع تفاقم المرض.
فمن حملة إنقاذ رقية التي انتشرت على السوشيال ميديا في منتصف عام 2022، ونجحت في جمع المبلغ المطلوب، إلى حملة أنقذوا يوسف التي فتحت الباب في يناير/كانون الثاني الماضي لتلقي التبرعات من أجل الحقنة غالية الثمن.
بلغ سعر الحقنة، التي تحمل اسم Zolgensma من إنتاج شركة نوفارتس للأدوية، عام 2019 قرابة 2.1 مليون دولار أمريكي.
يفرض السؤال نفسه، ما سبب ارتفاع سعر الدواء لهذا الحد؟ والإجابة التي تبدو مباشرة وبسيطة هي: براءات اختراع الأدوية، إذ يتم تسعير الدواء وفقًا لتكلفة ابتكاره وتطويره، بما يحقق ربحية وعائدًا استثماريًا للشركات المصنعة.
تمنح براءات الاختراع شركات الأدوية حقًا حصريًا في إنتاج وتسويق الأدوية المبتكرة حديثًا، لفترة زمنية معينة، ما يتيح لها تحقيق أرباح تغطي تكلفة الإنتاج. ولكن يترتب على ذلك ارتفاع كبير في أسعار الأدوية، بما يقلل من إمكانية وصول الفئات الأشد فقرًا إليها، على الرغم من أن الحق في العلاج هو واحد من الحقوق الأساسية لكل إنسان، حسب منظمة الصحة العالمية. لكن للسوق حسابات أخرى.
براءات الاختراع: لمن الحق؟
براءة اختراع الأدوية Drug Patency هي حقوق حصرية تُمنح للشركة صاحبة اختراع دواء معين، بما يمكنها من تصنيع الدواء وتسويقه دون أي منافسة من أي شركة أخرى. والفكرة التي تبرر ذلك هي حماية المخترعين من المنافسة غير الشرعية، وتشجيعهم على استثمار المزيد من الوقت والجهد في البحث العلمي، وتطوير أدوية جديدة.
تنخفض أسعار الأدوية الجديدة بشكل كبير في الأعوام التالية لانتهاء صلاحية براءة الاختراع
عندما تحصل شركات الأدوية على براءة اختراع دواء ما، فإنها تحصل كذلك في العادة على حق التسويق الحصري له، لمدة تتراوح بين 10 إلى 20 عامًا، تعتمد على بلد المنشأ وتاريخ تقديم الطلب. ويتيح هذا الحق لشركات الأدوية الاستفادة من استثماراتها في البحث والتطوير، وتسويق العقاقير وتحقيق العوائد المادية على استثماراتها.
ومع نهاية صلاحية براءة الاختراع، يمكن للشركات الأخرى الدخول إلى السوق، وتصنيع نسختها من العقار، ما يتيح الفرصة أمام المنافسة وتقليل تكلفة العقاقير للمستهلكين. وعادة ما يؤدي هذا إلى انخفاض أسعار الأدوية الجديدة بشكل كبير في الأعوام التالية لانتهاء صلاحية براءة الاختراع.
تاريخ براءة اختراع الأدوية
كانت هناك العديد من المحاولات لوضع تعريف محدد لمصطلح براءة الاختراع في صناعة الأدوية، إلا أنها كانت محاولات فردية في المملكة المتحدة وأمريكا، حيث كانت الأدوية تُجلب من الأولى إلى الثانية، ثم يقوم المُصنّعون الأمريكيون بتصنيع منتجات مماثلة، عادة ما تحتوي على نسبة كحول عالية. ولذلك عارض بعض الأطباء والجمعيات العلمية هذه المنتجات بحجة أنها لم تعالج الأمراض، بل تسببت في إدمان الكحول. وبفضل تصاعد هذه الاحتجاجات أُجبرت الشركات المصنعة على الكشف عن مكونات هذه الأدوية لتكون الإعلانات أكثر واقعية.
وفي عام 1906 تم إقرار قانون الغذاء والدواء في الكونجرس برعاية الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت، وعندها أصبحت شركات الأدوية ملزمة مع كل منتج مبتكر بوضع قائمة بمكونات الأدوية، وكذلك وضع قائمة بالشركات والمكوّنات المحظورة، لتمنعها من تقديم ادعاءات كاذبة ومضللة.
ماذا عن أسعار الأدوية؟
تخيَّل شركة تقوم بعمليات البحث والتطوير، على امتداد سنين طويلة، لاكتشاف مادة علاجية معينة، أو طريقة علاج مرض معين، ويتكلف هذا البحث والتطوير جيشًا من العلماء والباحثين، والعديد من التجارب السريرية المكلفة، وغيرها من خطوات ابتكار علاج أو مادة معينة. من يتحمل هذه التكاليف بالنسبة للشركة أو المستثمرين بها؟
تلعب براءة الاختراع الدور الأبرز في تحديد سعر الأدوية الجديدة، بما يتيح للشركات المصنعة حماية المنتجات لفترة زمنية محددة لا تنافسها فيها أي شركة أخرى.
إضافة إلى ذلك؛ تؤثر عوامل أخرى على أسعار الأدوية، مثل تكلفة الإنتاج والتسويق والتوزيع وتكاليف البحث والتطوير والتشريعات واللوائح الحكومية وغيرها. ويمكن لهذه العوامل أن تتحكم في تسعير الأدوية بشكل ما، ولكن تظل براءة اختراع الأدوية صاحبة التأثير الأكبر في أسعار الدواء.
كوفيد-19، هل انتصر الفكر التجاري على الإنسانية؟
مع إعلان منظمة الصحة العالمية عن كوفيد-19 بوصفه جائحة عالمية، في مارس/آذار 2020، قررت الهند إيقاف تصدير بعض المواد الفعالة في علاج الفيروس، لتؤثر بذلك في تصنيع الدواء عالميًا.
وفي الوقت نفسه تسابقت العديد من الدول وشركات الأدوية الكبرى للحصول على براءات اختراع ترتبط بأدوية لعلاج كوفيد-19، إما عن طريق ابتكار مواد فعالة جديدة، أو دراسة مستحضرات دوائية أخرى وإعادة توجيهها لاستخدامها في غرض علاجي جديد.
حينها أدركت الحكومات والعديد من الباحثين حول العالم تأثير براءات الاختراع على توفير الدواء في هذا الوقت الحرج. وهنا جاءت فكرة الاستفادة من مرونة اتفاقية تريبس، وهي اتفاقية دولية تحمي حقوق الملكية الفكرية، وتهدف إلى توفير الحماية للابتكارات الجديدة في مجالات مثل الاختراعات والعلامات التجارية وحقوق النشر والرسوم البيانية والنماذج الصناعية وحقوق المؤلفين. تم توقيعها عام 1994، وهي الآن جزء من منظمة التجارة العالمية.
كما ظهرت مقترحات بتعليق أي استفادة أو احتكار لأي أدوية أو لقاحات متعلقة بكوفيد-19، وإتاحة فرصة استخدامها في التجارب الإكلينيكية أو للعلاج.
وبالإضافة إلى ذلك فعّلت منظمة الصحة العالمية مجمع الإتاحة للتكنولوجيا المفيدة في الكشف عن جائحة كوفيد-19 والوقاية منها ومكافحتها وعلاجها، وذلك للحد من المنافسة الشديدة بين شركات الأدوية ولضمان توفيره بأسعار معقولة وبجودة مرتفعة.
عالم لا يعترف بالفقير
لكن ذلك لم يساعد في حل الأزمة، فمنذ مارس 2021 أمنت الدول ذات الدخل المرتفع لنفسها ما يقرب من 87% من إجمالي المعروض من لقاحات كوفيد-19، تاركة بقية دول العالم تكافح من أجل الوصول إليها. وأدى ذلك إلى دعوات تنازل مؤقت عن حماية براءات الاختراع لتمكين المزيد من الدول من تصنيع اللقاحات.
قادت دول مثل الهند وجنوب إفريقيا الضغط من أجل التعليق المؤقت لبراءات اختراع لقاح كوفيد-19، مشيرة إلى الحاجة لحماية الحق في الصحة للجميع. كما تفاوضت منظمة التجارة العالمية/WTO بشأن اقتراح للتنازل مؤقتًا عن حقوق الملكية الفكرية للقاحات، لكن التقدم كان بطيئًا بسبب مقاومة بعض بلدان العالم الأول.
وأصبحت كبرى شركات الأدوية تحت الضغط بسبب مقاومتها، فلم توافق شركتا Pfizer وModerna، الرائدتان في تصنيع اللقاحات، على مشاركة الملكية الفكرية. فيما وافقت شركات أخرى مثل AstraZeneca وJohnson & Johnson على بيع لقاحاتها بسعر التكلفة أو بدون ربح أثناء الوباء.
نعيش في واقع تتحكّم فيه براءات الاختراع لتعويض تكاليف ابتكار الأدوية الجديدة. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن هذه التكاليف عبئًا ثقيلًا على المرضى وأسرهم، ممن يعانون أمراضًا خطيرة ومزمنة، من أمثال رقية ويوسف اللذين يحتاجان لإطلاق حملات لجمع ثمن علاجهم باهظ الثمن.