تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع التقارير وردود الأفعال للحادث الإجرامي الذي تعرض له مسيحيو قرية الكرم بمركز "أبي قرقاص" في محافظة المنيا من حرق لمنازلهم وتعرية امرأة مسنة في الشارع. ثم تخيلت ما يمكن أن يحدث هنا في أمريكا، لو أننا طبقنا الطريقة المصرية في التعامل مع الورطة التي مر بها صاحبنا المصري.
هذه واقعة حقيقية عاصرتها شخصياً ولكني غيرت بعض الحقائق غير الأساسية للحفاظ على خصوصية أصحابها.
بعد سنوات قليلة من هجرتنا لأمريكا، وقع أحد أصدقائنا المصريين في ورطة كبيرة. كان صديقنا طالبًا مجتهدًا، جاء إلى واشنطن في منحة للحصول درجة علمية من جامعة مشهورة في منطقتنا. الورطة الكبيرة التي وقع فيها؛ هي أنه ارتبط بطالبة أمريكية أثناء دراسته. وبعد أشهر قليلة من بدء هذه العلاقة، وفي مشادة بينهما، أمسك صاحبنا بذراع صديقته، وبحسب كلامه: ضغط عليه بشدة مما ترك علامة على ذراعها.
تطورت المشادة الى حد أنه ترك المكان لها غاضبًا.. شيء عادي ويحدث في بيوت كثيرة في مصر دون أن يلتفت إليه أحد، أو هكذا ظن صاحبنا. ولكنه فوجئ بعد قليل بحضور الشرطة لمسكنه واقتياده للقسم مكبلاً بالقيود، واتهامه بواحدة من أحقر التهم في المجتمع الأمريكي؛ وهي العنف المنزلي. خلال التحقيق معه أقر بدون أية مواربة بما فعل، وأنه لم يكن يقصد أذيتها، وقضى ليلته في الحجز، وفي الصباح، اتصل بنا لنعاونه على دفع الكفالة المحددة وإخراجه من هذا النفق المظلم، وهذا ما فعلنا.
ما علمه صاحبنا بعد خروجه أن صديقته كانت قد أتت للشرطة معتذرة عن إبلاغها عنه وطلبت الإفراج عنه، ورفضت الشرطة طلبها. والأكثر من هذا؛ عند الافراج عنه، أمرت الشرطة صاحبنا بعدم الاتصال نهائيًا بصديقته، وإلا وقع في ورطة أكبر؛ هي محاولة تهديدها لتغيير أقوالها. أما المفاجأة الكبرى بالنسبة له؛ فكانت عندما أبلغوه أن خصومته في قضية العنف المنزلي ليس مع الفتاة، وإنما مع الولاية التي وقع فيها الاعتداء. وأن الولاية تأخذ هذا الأمر بغاية الجدية، عالمين أن الطرف المعتدى عليه (النساء) كثيراً ما يَضعُف ويريد التراجع عن اتهاماته، ولهذا تكون الخصومة مع الولاية وليس مع الطرف المعتدى عليه، ويكون الاعتداء في هذه الحالة على المجتمع ككل، وليس على الفرد المعتدى عليه في حد ذاته.
تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع التقارير وردود الأفعال للحادث الإجرامي الذي تعرض له مسيحيو قرية الكرم بمركز "أبي قرقاص" في محافظة المنيا بصعيد مصر، من حرق لمنازلهم وتعرية امرأة مسنة في الشارع. ثم تخيلت ما يمكن أن يحدث هنا في أمريكا، لو أننا طبقنا الطريقة المصرية في التعامل مع الورطة التي مر بها صاحبنا المصري. والفقرات التالية هي نتاج هذا التخيل.
أول رد فعل، وحتى بدون معرفة التفاصيل، هو محاولة وسائل الإعلام المحلية الرجوع لرئيس الجامعة التي يدرس بها صديقنا للتأكد من عدم وجود علاقة جنسية بين المصري وصديقته، أو لا سمح الله قيام المصري باغتصاب الفتاة الأمريكية، عشان نمنع أي كلام ممكن أن يستغله المرشح الرئاسي، ترامب، لتأكيد ما يدعيه أن المصريين ذوو طبيعة عنيفة، ولابد من وقف التحاقهم بالجامعات الأمريكية.
وفي رد فعل للأنباء المتداولة بشأن اعتداء طلبة أمريكيين على مساكن وسيارات أشقائهم المصريين، بل والاعتداء الذي حدث في ساحة الجامعة على حرمة جسد أستاذة مصرية في سلك الجامعة، انتقامًا مما فعله صاحبنا؛ انهالت التصريحات التي تؤكد أن ما حدث من اعتداءات من الطلبة الأمريكيين على الأستاذة المصرية، وعلى أشقائهم المصريين، لا يمت بصلة للقيم الجامعية التي تضم طلاب من شتى أنحاء الأرض وتحترم حضاراتهم. وذهب البعض إلى اتهام بعض الجامعات المنافسة في المنطقة بأنها وراء تلك المناوشات لتشويه صورة الجامعة.
وبناء على تعليمات من رئيس الجامعة؛ نظمت لجنة "روح الأسرة الجامعية" عدة لقاءات ضمت ممثلين عن كل من الطلبة الأمريكيين ونادي الطلبة المصريين، لرأب الصدع في العلاقات الممتدة من أيام رحلة رفاعة الطهطاوي للدراسة في فرنسا الشقيقة في القرن التاسع عشر. وتم أخذ العديد من الصور والفيدوهات لتلك اللقاءات التي تعاون فيها الطلاب على التهام البيتزا سويًا في بهجة وسماحة. وركز الاعلام على خلو اللقاءات من المشروبات الكحولية احتراماً لتقاليد المصريين، مع أن المصريين كانوا يذهبون للبار الذي اعتادوا على التجمع فيه خارج حدود الجامعة عقب كل لقاء.
ونظرًا لتطور الأمر وتأثيره على القيم الحضارية في المدينة ككل؛ أرسل عميد أكبر كلية لاهوت مستقلة في المنطقة وأكثرها نفوذًا، مجموعة من 30 محاضرًا في مادة القيم الجامعية لـ"إتمام" الصلح بين الأمريكيين وأشقائهم المصريين، بدون أن يفصح عما يمكن أن يحدث لو لم يجر إتمام الصلح.
ولمعالجة التوتر الحادث بين الطلبة الأمريكيين و"أشقائهم" من الطلبة المصريين؛ أمر رئيس الجامعة بإصلاح التلفيات في مساكن وممتلكات الطلبة المصريين الذين تضرروا من اعتداء "فئة" من الطلبة الأمريكيين عليهم. وذلك بغض النظر عن أن أموال الجامعة تأتي من المصاريف الدراسية الباهظة، وأن الإصلاح لابد أن يتحمله المعتدي، وليس مجتمع الطلبة الكادحين لأجل العلم. وبالطبع لم يسأل أحد عن كيف سيشعر المصريون بالأمان في مساكنهم وممتلكاتهم التي تم إصلاحها بعد كل ما حدث لهم من اعتداءات، ولكن هذه صغائر لا تشغل الجامعة!
وخرج ممثل عن اتحاد الطلبة في الجامعة ليؤكد على شيئين هامين، أولهما: أن قوانين ولوائح الجامعة لابد أن تطبق بالكامل بدون أية مهاودة، وثانيهما: هو أنه سيتم رفع الجزاءات الموقعة على الطلبة الأمريكيين الذين قاموا بالاعتداء على أشقائهم المصريين، حال إتمام الصلح بين الطرفين "اللي ما لهمش غير بعض"، وفي نفس الوقت؛ خرج علينا عضو آخر لاتحاد الطلبة من أصول مصرية، وهدد بأن ما حدث للأستاذة المصرية لن يمر بسلام، وهذا رغم وقوع اعتداءات سابقة على أساتذة أمريكيين ومن جنسيات أخرى من قبل، ولكنه لم يبد أي اهتمام بتلك الحوادث.
ولكن المشكلة الكبرى جاءت من قِبَل رئيس جمعية "المصريين المتضامنين"، الذي يُنظر له باعتباره عمدة الجالية المصرية في المنطقة. ففور حدوث الاعتداءات على الأستاذة المصرية وقبلها الطلبة المصريين؛ ذهبت الأستاذة المُعتدى عليها لمقر الجمعية، وظهرت صور الزيارة في الكثير من وسائل الإعلام المحلية. وصرح رئيس الجمعية عقب اللقاء: بأنه لن يقبل إتمام الصلح ما بين الطلبة المصريين والأمريكيين؛ إلا لو تم تطبيق كافة اللوائح التأديبية على الجناة بشكل عادل، خاصة أن اعتداءات كثيرة بالجامعة سبقت هذا الاعتداء، ولم dتم فيها معاقبة أي من الجناة.
وتلقت وسائل الإعلام هذه التصريحات باهتمام، دون أن يسأل أحد عن لماذا يتحدث رئيس جمعية بالنيابة عن الأستاذة المصرية والطلبة المصريين، وماذا عن دور مكتب الشؤون القانونية ولوائح الجامعة، وكذلك دور مكتب الأمن الجامعي الذي يقال أنه كان على علم مسبَّق بنية الهجوم على الطلبة المصريين.
وبالطبع استاء مسؤولو الجامعة من التصريحات المتعنتة لرئيس الجمعية، بل وأثاروا الشكوك في جلسات خاصة، حول نوايا هذا الشخص، ورجحوا أنه على الأغلب يعمل لصالح الجامعات المنافسة. وأفصحوا عن رأيهم في كونه يروج باعتراضه هذا للأفكار الهدامة للمرشح الرئاسي دونالد ترامب، وأن المصريين هم أول من سيدفع ثمن هذا الخطأ، لو نجح رئيس الجمعية في مساعيه.
وراجت أقاويل رجحت أن تعنت رئيس الجمعية المصرية؛ سيدفع إدارة الجامعة "للخطة ب"، التي تعني غض الطرف، أو دعم القيام باعتداءات على طلبة أو أساتذة أمريكيين، وبدء التحقيق مع طلبة مصريين، أو حتى أفراد مصريين من خارج الجامعة، بحجة وجود شبهات حول تورطهم في هذه الاعتداءات. وبهذا يمكن الضغط على الجالية المصرية لو لزم الأمر، و"الصلح خير طبعا!".
ولايزال المصريون يضحكون على أسلوب الجامعات في أمريكا في التعامل مع مثل هذه القضايا، وما زلنا في انتظار تطورات أخرى لهذه الواقعة.
خِلِصْ الخيال!
*جميع الصور الداخلية المستخدمة في الموضوع مفتوحة المصدر، وتعليقاتها غير واقعية استخدمت بغرض السخرية. أما الروابط فروعي فيها الإشارة إلى المعادل الواقعي، الذي يشير إليه كاتب المقال.
الصورة الداخلية الأولى: مشاركون في ورشة مقامة في لندن يتناولون البيتزا
الصورة الداخلية الثانية: مواجهات في جامعة تريسكتي الإندونيسية في 1998