تغيَّر الحاكم وكبار المسؤولون منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 عدة مرات، وظل التربص بالذين يعبرون عن رأيهم في الشأن الديني مستمرًا، بل ويتزايد، من المؤسسات الرسمية، والدينية، ومن مواطنين عاديين يعتبرون أنفسهم جميعًا حراسًا للعقيدة وحماةً للدين والإيمان.
يحدث ذلك تحت مزاعم ازدراء الأديان والإساءة إلى الذات الإلهية، وبهدف فرض الوصاية على المواطنين، تارة بتحديد ما يكتبون وما يقرأون أو حتى ما يفكرون فيه، وتارة بملاحقتهم قضائيًا ومحاولة الزج بهم في السجون.
مؤخرًا، شهدت أروقة المحاكم ثلاث قضايا؛ الأولى حكم دائرة الجنح المستأنف بالمحكمة الاقتصادية، على الشاب ماركو جرجس بالسجن خمس سنوات بتهمة استغلال الدين في ترويج أفكار متطرفة لازدراء الدين الإسلامي والتعدي عليه، والاعتداء على قيم اﻷسرة المصرية. والثانية ضد الدكتور مبروك عطية أمام محكمة جنح دار السلام بتهمة ازدراء الدين الإسلامي والدين المسيحي على خلفية تصريحاته بشأن السيد المسيح وموعظة الجبل.
أما القضية الثالثة، فتخص الدكتورة منى البرنس، أستاذة الأدب الإنجليزي بكلية التربية بجامعة السويس، والتي عوقبت بالعزل من وظيفتها لنشرها على فيسبوك فيديو لها وهي ترقص، بالإضافة لتقديمها قراءة نقدية مختلفة لموقف إبليس من الله.
وتحمل حيثيات الحكم في قضية البرنس جرس إنذار يهدد الحياة الخاصة والحريات الأكاديمية، جنبًا إلى جنب مع حريات المعتقد والرأي والتعبير، لما تضمنته من أحكام أخلاقية وقيمية تناسب في طبيعتها مقالًا للرأي أو عظةً دينية.
على سبيل المثال، جاء في الحيثيات أن رقصها ينال من هيبتها، ويجرح شعور طالباتها، ويمس كبرياء زميلاتها، وأن الحرية الشخصية لا تعني الإباحية، وأن حرية الاعتقاد مكفولة طالما ظلت حبيسة في النفس دون الجهر بما يخالف الأديان السماوية على الملأ!
تكمن خطورة هذا النوع من القضايا في إمكانية تكرار اتهام الطلبة لأعضاء هيئة التدريس بالإساءة للأديان، والاعتراض على المحتوى التعليمي. والمفارقة هنا أنه من المفترض أن تكون حدود حرية التعبير المتاحة في الجامعات ومراكز الفكر أوسع مما هي عليه في المجتمع.
القضايا الثلاث مجرد أمثلة، فهناك دعاوى لا تزال منظورة أمام جهات التحقيق، من أبرزها الشباب الثلاثة المحبوسين بسبب واقعة الغناء داخل أحد المساجد، واللاجئ اليمني عبد الباقي سعيد المتهم بازدراء الدين الإسلامي على خلفية إعلانه اعتناقه المسيحية على السوشيال ميديا، رغم أن ذلك حدث عام 2013، وقبل قدومه إلى مصر.
قد يعتقد البعض خطأً إنه بمأمن من تلك الملاحقات، وأن رأيه المحافظ، أو قربه من دوائر صناعة القرار السياسي والديني، يحميانه، خصوصًا أن أغلب ضحايا هذه الملاحقات هم من الأقليات الدينية كالمسيحيين والشيعة والقرآنيين، أو من الملحدين.
لكن واقعيًا، الكل في مرمى الاتهام وتحت مقصلة المحاكمة، بمن فيهم المسلمون السُنَّة ممّن ينتمون إلى المذهب السائد، ولكن يحملون آراءً مختلفةً عن تلك التي تدعمها المؤسسات الدينية الرسمية، سواء كان الشخص أستاذًا بالجامعة أو باحثًا أو كاتبًا أو مواطنًا عاديًا.
مسارات الاتهام
عادة ما تبدأ هذه القضايا من خلال مسارات محددة، الأول هو سريان شائعة بأن مواطنًا ما ازدرى الإسلام، مثلما حدث مع جرجس سميح بقرية البرشا. تتحرك الأجهزة الأمنية على إثر الشائعة، سواء تفاقم تأثيرها بوقوع اعتداءات طائفية أو لا، لتلقي القبض على الشخص، ثم يحال إلى النيابة العامة.
المسار الثاني، يتم من خلال بلاغات كان يحررها في الماضي محامون ينتمون إلى التيار الإسلامي، لكن الأمر لم يعد مقتصرًا عليهم، بعد أن انضم مواطنون محافظون دينيًا أو مدمنو شهرة إلى قائمة المُبلغين.
أما المسار الثالث، فيتم من خلال تتبع أجهزة الأمن ووحدة الرصد والتحليل بمكتب النائب العام، حيث تصدر قرارات بالقبض والتحقيق مع المتهمين.
يحاكم المتهمون بازدراء الأديان استنادًا إلى ثلاث مواد في قانون العقوبات، في مقدمتها المادة 98(و)، وهي الأكثر استخدامًا، والمعروفة بمادة "ازدراء الأديان".
ومن المثير للدهشة أن هذه المادة وضعت في الأساس عقب أحداث الزاوية الحمراء عام 1981، التي شهدت اعتداءات طائفية واسعة ضد مسيحيين، من أجل الحد من خطاب التحريض على العنف. ولم يكن الهدف منها إنشاء محاكم تفتيش، مهمتها تتبع آراء المواطنين وتأويلها ومحاكمتهم بسببها.
وتتسم صياغة المادة بالغموض وعدم الوضوح، وتتضمن كلمات مطاطة غير محكمة، منها كلمة ازدراء. فلا يوجد معيار محدد للحكم على فعل ما، أو رأي ما، بأنه يتضمن ازدراءً من عدمه. وبالمثل عبارة "الأفكار المتطرفة" الواردة في نص المادة ولا يوجد ضابط لها. وهو ما دعا محامي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إلى الدفع بعدم دستورية المادة في بعض القضايا والمطالبة بإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للنظر فيها.
يفتح الغموض الباب أمام التفتيش في الأفكار والمعتقدات والحجر عليها بدعوى الهرطقة وفقًا للمفهوم المسيحي، والردة والزندقة وفقًا للمفهوم الإسلامي، وهو ما قد "يرد المجتمع بأسره إلى الظلامية والجمود وشمولية تيار فكري بعينه، ويجهض تطوير الخطاب الديني"، وفقًا لما ورد بحيثيات الحكم الرائع الصادر من محكمة جنح مستأنف العجوزة عام 2012، ببراءة الفنان عادل إمام والكاتب الراحل وحيد حامد، وآخرين، من تهمة ازدراء الدين الإسلامي والإساءة إلى رموزه.
مشكلة هذا النوع من المحاكمات أن المتهم بمجرد اتهامه يفتقر إلى سبل الدفاع عن نفسه
أما المادة 160 فتتناول بالتجريم أفعال التشويش على إقامة الشعائر والاحتفالات الدينية والتخريب والتكسير للمباني المعدة لإقامة الصلوات الدينية، أو للرموز التي لها حرمة عند أبناء ملة أوفريق من الناس.
والمادة 161 تتناول تجريم طبع أو نشر كتاب مقدس في نظر أهل دين من الأديان التي تؤدى شعائرها علنًا، إذا حُرِّف نص الكتاب، وكذلك تجريم تقليد احتفال ديني في مكان عمومي بقصد السخرية به.
وخلال الفترة الأخيرة، تستخدم المادة 25 من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والمعروفة بالاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية للمجتمع في الوقائع التي تتضمن النشر الإلكتروني.
مشكلة هذا النوع من المحاكمات أن المتهم بمجرد اتهامه يفتقر إلى سبل الدفاع عن نفسه، حيث يجري تقييمه، ومحاكمته في الغالب على أساس القيم، وليس على أساس تطبيق النماذج الإجرائية. يفتقد المتهم إلى الدعم الأسري والمجتمعي، ويتهرب الجميع منه، بل قد يُقبل على المستوى الشعبي معاقبة المتهم كنوع من التهدئة للتوتر في بعض المناطق، حتى لو لم يرتكب ما يعاقب عليه القانون.
وتؤثر المشاعر الدينية على الخطوات التالية، ويُستدل على ذلك من قراءة الرؤية المحافظة التى وردت في تحقيقات النيابة وحيثيات الأحكام في عدد من القضايا، حيث يُسأل المتهم عن آرائه ومعتقداته ومدى التزامه الديني من قبيل "هل أنت مؤمن؟ هل تواظب على أداء الصلوات والشعائر الدينية؟" وهى أسئلة مخالفة للدستور عن حرية العقيدة، كما يفصح بعض القضاة عن عدم تناسب العقوبة المقررة قانونًا مع ما اقترفه المتهم، ومطالبتهم جهات التشريع والإدارة بحماية القيم والأخلاق وتغليظ العقوبة.
انتهك التطبيق العملي لهذه الملاحقات جملةً من الحقوق والحريات، في مقدمتها حرية الدين والمعتقد بالمفهوم الواسع، الذي يضمن حقوق الأفراد المنتمين للديانات التوحيدية أو غير التوحيدية أو غير المؤمنين والملحدين، بالإضافة لانتهاكات حرية الرأي والتعبير كما سبق الإشارة.
واكتسبت مصر شهرةً دوليةً باعتبارها من أكثر بلدان العالم تطبيقًا لقوانين ازدراء الأديان، وفي دراسة للجنة الأمريكية للحريات الدينية في العالم، احتلت مصر المركز السادس من بين 71 دولة بها قوانين ازدراء أديان أو تجديف من حيث تعارض هذه القوانين مع مبادئ القانون الدولي وغموض النص وشدة العقوبة وعدم المساواة في التطبيق.
ولذلك، على مؤسسات الدولة التحرك لضمان هذه الحقوق، فليس من دورها حماية الأفكار أو العقائد، ومن ثم منع مناقشتها والجدال فيها، ولا من دورها حماية العواطف التي يستثيرها الحديث عن الموضوعات الدينية، وهو ما يتناقض ما قامت عليه الأديان من حماية للتفكير.
إضفاء القداسة على الأفكار يحد من الاجتهاد والمناقشة، ويعد بحد ذاته تقليلًا من مكانة الأديان واستهانةً بها. فالدولة مطالبة بحماية حق الأفراد في الاعتقاد والتعبير في الشأن الديني، لأنهم الطرف الأضعف. فلا يمكن تصور تجديد الخطاب الديني وهناك حراس للعقيدة وحماة للإيمان مهمتهم الأساسية الرقابة والمطاردة لكل صاحب رأي.