بعض الأشياء تبقى غامضة في نفوسنا، وفجأة نجد تفسيرها في كلمة يقولها أحدهم صدفة. وقد وقع لي ذلك ذات مساء.
كنت دائمًا أحب الحلوى، لكنني لا أعرف لماذا أتحاشى صنعها وأستثنيها من غرامي بالطبخ، أما ابنتي مي التي بدأت فجأة تهتم بالمطبخ، فوضعت ولعها في الحلوى دون أن تكون مغرمة بتناولها. قالت لتفسر لي ما رأيته تناقضًا "عمل الحلوى شيء يبعث على الرضا، كأن تكتب قصيدة".
هكذا جعلتني مي أفهم أن خوفي من صنع الحلوى هو ذاته خوفي من كتابة الشعر. لم أجرؤ على كشف القصائد القليلة التي كتبتها في مراهقتي، لكنني أحتفظ بها؛ لا كذكرى، بل كعبرة، كلما طالعتها أقول لنفسي: هذا هو حجمك كشاعر. فلا تحاول مرة أخرى.
ومثلما أرى الشعراء سحرة مهرة، لم أزل أعتبر صنع الحلوى سحرًا بشكل ما، فهي تحتاج إلى دقة ورهافة في التنفيذ لا أملكها.
حاولت مي تبسيط الأمر لي؛ فقالت:
كل الحلوى والخبز في العالم تنتمي إلى أبجدية واحدة من خمسة حروف أساسية: دقيق، زبد، ملح، سكر، وبيض. من هذه الأبجدية الضيقة تتشكل كل المخبوزات. الأمر يتوقف على ترتيب الحروف الخمسة، تغيير النسب، مجهود اللت والعجن، زمن التخمير، القالب، ودرجات حرارة الفرن. شرحت بسرعة ثم صمتت كأنها لم تقل شيئًا ذا أهمية.
والإضافات الأخرى من الحليب، الفانيلا، والفواكه والمكسرات، أليست ضمن هذه الأبجدية؟
سألتها؛ فقالت: لا، هذه تشبه علامات الترقيم في الجملة.
إذا سلَّمنا بأن الحلوى شعر، فالخبز هو الرواية؛ نثر الحياة، له سلطة العادي، سلطة الضرورة
لم أفكر من قبل في المعجنات بوصفها أبجدية يفهمها جميع البشر بالطريقة ذاتها. وإن كنت أعتقد أنهم يستقبلون روائح تخمير ونُضج الخبز والحلوى بطريقة واحدة. هي الرائحة الثانية بعد رائحة الأم التي تبعث على الطمأنينة. هي بديل للعناصر المهدئة في حليب الأم، طالما أن الفطام حتمي.
ما دمنا بصدد الحديث عن أبجدية ولغة، وإذا سلَّمنا بأن الحلوى شعر فالخبز هو الرواية؛ نثر الحياة، له سلطة العادي، سلطة الضرورة. لا يستغني عنه أحد.
لحظة ابتكار الخبز هي اللحظة التي ودَّع فيها البشر الخوف من الموت جوعًا. لم يعد تناول الطعام رهنًا بحظ الصيَّاد، ولا رهنًا بمواسم الثمار. ولحظة معرفة الرواية هي اللحظة التي صار الإنسان فيها سيدًا على الأرض، قريبًا من التحكم في مصيره، وصارت الرواية مستودع أحلامه وأفكاره وذكرياته.
يمكن أن يستغني بها عن الكثير من الكتب الأخرى، وبالمثل يمكن لنا أن نأكل الخبز مع كل شيء، ويمكن أن نكتفي به وحده لحظة خروجه ساخنًا من الفرن، وفي المجاعات وظروف الفقر القاهرة أو مع فواكه وخضر ساذجة، أو مع ذرَّة ملح ونقطة زيت أو قطعة زبد، وهذا الحل الأخير صار فاتح الشهية المجاني الذي يسبق الوجبة الأساسية في أفخر المطاعم.
الخبز كالرواية؛ حاضر على كل الموائد. بعض أنواع الخبز تتضمن الحلوى بداخلها، أين مثلًا نضع الفطير المشلتت المصري والكرواسون الفرنسي والشباتي الهندي؟
الحلوى، بعكس الخبز، نخبوية مترفعة، لا تؤكل مع غيرها، ولا يمكن مداومة العيش عليها وحدها، ويمكن الاستغناء عنها بالحلو النيئ الذي تقدمه الأشجار، لكل هذا فهي محدودة السلطة.
على ضوء هذا الفرق بين الشعر والرواية يمكننا أن نعيد تفسير سوء الفهم المروِّع الذي وقعت فيه ماري أنطوانيت عندما أجابت بتلقائية على مظاهرات الخبز "لماذا لا يأكلون الجاتو؟" الجياع يطلبون الرواية، لكن الملكة كانت مندهشة لماذا لا يستعيضون عنها بالشعر.
تستطيع الرواية أن تنجو دائمًا، لأنها تتسع لوصف البشر والكائنات والجو والأزياء والموسيقى والتشكيل، والفلسفة، كما تفسح مكانًا للشعر ذاته بداخلها
قبل تلك اللحظة جان جاك روسو يضع الأساس الفكري العميق والراسخ للحقوق السياسية ورحل قبل اندلاع ثورة باريس الأولى بعشر سنوات، بينما رافقته سلطة النثر في بعض المسرحيات والقصص، لكنَّ جماهير الثورة العريضة ستحصل على خبزها الروائي فيما بعد عبر روايات ألكسندر دوما، وفيكتور هوجو وغيرهما من الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين اهتموا بثورة الأنوار، مثل الإنجليزي تشارلز ديكنز في روايته الأشهر "قصة مدينتين".
بهذا المعنى كانت الثورة الفرنسية أهم لحظات تأكيد سلطة الرواية التي امتدت حتى يومنا هذا، ويبدو أن سلطتها ستتوازى مع سلطة الخبز إلى يوم القيامة. حتى لو نزَلت الجنة على الأرض حسب تنبؤات بشكل الحياة في المستقبل، بفضل سيطرة الذكاء الصناعي تمامًا وتقليل جهد الإنسان اليدوي إلى حده الأدنى، فسيكون البشر بحاجة أكثر إلى الخبز لتخفيف وطأة اللحم والفواكه على بطونهم، وبحاجة أكثر إلى الرواية لتخفيف وطأة الفراغ.
تستطيع الرواية أن تنجو دائمًا، لأنها تتسع لوصف البشر والكائنات والجو والأزياء والموسيقى والتشكيل، والفلسفة، كما تفسح مكانًا للشعر ذاته بداخلها. لنتذكر شكسبير. ما جعله يعبر الزمن ويصل إلينا هو المسرحيات "الرواية التمثيلية" وليست السونيتات والقصائد.
أحد طموحات الرواية هو الوصول بالعادي والتافه إلى مستوى الشعر. والقصيدة بدورها تتطلع إلى منح شعريتها مذاق اليومي والعادي
ولد سرفانتس الذي يُنسب إليه الشكل الحديث للرواية قبل شكسبير بسبعة عشر عامًا وماتا في يوم واحد، والبعض يقول بفارق أسبوع لاختلاف التقويمين في إنجلترا وإسبانيا. عرف شكسبير التقدير في حياته بوصفه شاعرًا، أكثر مما عرفه سرفانتس، الذي لا يمكن أن يكون قد توقع خلود روايته، رغم رواج الجزء الأول منها في حياته، وإن كان حلم بخلودها، فمن المستبعد أن يكون هو أو أحد من مجايليه توقع أنَّ يومًا سيأتي تحتل فيه الرواية مكانة الشعر. وأن هذا الفن الجديد سيجعل من الفن العريق الطبق الصغير والأخير على المائدة.
وربما لم يدرك شكسبير أية بسالة خارقة يجب أن يتحلى بها أحفاده الشعراء من أجل الحفاظ على رقعة صغيرة يرفعون فوقها راية الشعر، وأي تضامن يجب أن يقوم بينهم لوقف تسلل العادي إلى صفوفهم، حتى لا يساهم في إضعاف موقفهم الجماعي وتقليص أرض الشعر.
لكنَّ انتماء الشعر والرواية لأبجدية واحدة يجعل الحديث عن العداء مبالغة كبيرة؛ فما بينهما تنافس نزيه على السلطة، كلاهما يطمح إلى احتواء الآخر بداخله فحسب.
أحد طموحات الرواية هو الوصول بالعادي والتافه إلى مستوى الشعر. والقصيدة بدورها تتطلع إلى منح شعريتها مذاق اليومي والعادي. تحدث صلاح عبدالصبور عن شرب الشاي ورتق النعل. كما صارت جملة محمود درويش القصيرة "أحن إلى خبز أمي" أشهر جملة في الشعرية العربية الحديثة، لا ينازعها هذه المكانة سوى شبه جملة أمل دنقل "لا تصالح" وللمصادفة؛ فعبارة دنقل الذي لم يغادر أرضه، وثيقة الصلة بالسبب الذي أعطى حنين درويش ثقله: الاحتلال الذي أبعد درويش عن أرضه وعن خبز أمه.
قدرة الرواية على استيعاب الفنون الأخرى بداخلها ليست السبب الوحيد الذي يجعلها في رسوخ الخبز؛ بل الأهم قدرتها على استئناس الزمن وإبطال مفعوله بمغالطته، وهذا ما جعلها تتفوق على الشعر وترث الملحمة، مع فارق بسيط بين الرواية والملحمة في علاقة كل منهما بالزمن.
تعرف الرواية أن الزمن لا يُقهر، لهذا لا تحاول أن تعانده أو ترفض حكمه، كما فعل أبطال الملاحم دون جدوى، بل تسايره، وتحاول الاختباء فيه عبر الالتفاف في مسارات متشعبة أو دائرية تجعله يبدو بلا نهاية.
يقوم السندباد بأولى رحلاته، وتغرق سفينته، لكنه ينجو بأعجوبة ويعود رابحًا إلى بغداد بعد أن يمر بسلسلة من الأهوال، يقيم بين أهله آمنًا لفترة، ثم تناديه المغامرة فيعود إلى السفر مرة أخرى فيلقى مخاطر وغرائب جديدة يعود بعدها إلى مدينته، ويستمر هذا التتابع حتى سبع رحلات، أي سبع دورات من فقدان الأمان والعودة إليه.
بعد ذلك يكتفى من السفر ويتفرغ للسهر مع أصحابه مستعيدًا حكايات أسفاره السبعة على أسماعهم كل ليلة. تقوم الحكاية بوظيفة الرحلة الأصلية. في كل ليلة يهز السندباد البحري سلام مستمعيه بإعادة تصوير المغامرات الخطرة، ثم يعيد الانسجام إلى نفوسهم بخروجه سالمًا منها.
حياة كاملة يستعيدها السندباد بروايته الحكاية، ويعيشها مستمع الحكاية المروي عليه، دون أن يغادر مدينته بغداد، ونعيشها نحن القراء إلى اليوم وتحملنا إلى أماكن لا نستطيع أن نبلغها. وهذا هو الاحتيال العظيم الذي تقوم به الحكاية ضد حدود المكان وضد عمر محدود يمضي بالإنسان إلى مصير الفناء المحتوم.
نحتاج إلى الشعر مجددًا؛ فلا رواية تستحق البقاء عبر الزمن إلا إذا تركت أثرًا شعريًا لدى قارئها
بوسع قارئ الروايات أن يعيش بكثافة ويتنقل بين حيوات متعددة في رواية قصيرة يقرأها خلال ساعة أو ساعتين، وهذا كاف ليجعله يرى حياته القصيرة حياة لا نهائية؛ فأية هدية هي الرواية.
أستخدم فعل "يعيش" هنا بمعناه الحقيقي وليس المجازي؛ فالرواية التي تستحق اسمها ليست تلك التي يجلس القارئ على شاطئها يتابع أحداثها ويراقب شخصياتها، بل تلك التي يدخلها وينسجم تمامًا مع عالمها، ويذوب في ذلك العالم مهما كان غرائبيًا فيكتسب بوجوده داخلها حياة إضافية.
نتوحد مع السندباد دون أن نضطر لمواجهة خطر الغرق، ونتوحد مع راسكولنيكوف دون أن تكون لدينا القسوة لارتكاب جريمة قتل ونتوحد مع إيما بوفاري دون أن نملك جموحها في الحب، لكننا جميعًا نشبه السندباد وراسكولنيكوف وإيما بما لدينا من الطموحات والمخاوف والأحلام، وإن لم نتصرف مثلهم.
ما من إنسان خال من هذه المشاعر، وما من إنسان خالد ليستغني عن طموح مغالطة الزمن الذي توفره الرواية؛ لهذا صار هذا الفن خبز العالم منذ لحظة ابتكاره السعيدة. ولكن أية رواية؟ نحتاج إلى الشعر مجددًا؛ فلا رواية تستحق البقاء عبر الزمن إلا إذا تركت أثرًا شعريًا لدى قارئها، تستمده من عدم اليقين الذي يفتح المجال لتأويلات مختلفة، كاختلاط مذاقات الحلو والمالح والحامض في العيش الشمسي الصعيدي والباجيت الفرنسي.